الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنا وصديقي وحسين مردان

وليد كاصد الزيدي

2022 / 11 / 2
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


-1- في الجامعة
في بداية عقد الثمانينات من القرن الماضي دخلت كلية الآداب – قسم اللغة الفرنسية لدراسة اللغة والأدب الفرنسيين لمدة أربع سنوات ، وكان جميع من درّسني أستاذة فرنسيون فيما عدا أستاذ الترجمة رحمه الله فقد كان عراقياً. درست خلال السنوات الأربع عن الأدباء الفرنسيين ، شعراء وكُتاب مثل بلزاك مؤسس الواقعية فى الادب الأوروبي وصاحب "إكسير الخلود" ، وبودلير بديوانه الشهير أزهار الشر، وجي دي مو باسان صاحب القصص القصيرة ، وفلوبير مؤلف "مدام بوفاري " ، وفيكتور هوغو صاحب البؤساء، وشاتوبريان الشهير بكتابه "مذكرات ما وراء القبر" ، وجان دو لافونتين المعروف بالحكايات الخرافية ، والكسندر دوما صاحب رواية " كسّارة البندق" ، والفريد دي موسيه مؤلف " اعترافات طفل من القرن " ، والفريد فيكتور فينيي الذي كتب أخبار (العبودية العسكرية والعظمة) التي جلبت له الشهرة ، وأناتول فرانس صاحب "الزنبقة الحمراء" وغيرهم.
وكنا ننتظر بعد انتهاء السنة الثالثة من الدراسة أن نبتعث الى فرنسا لتطوير اللغة ضمن برنامج ثقافي أمده ثلاثة أشهر ، كان مُطبقاً منذ سنوات طويلة ، ولكن بسبب اشتداد أوار الحرب العراقية الايرانية ، أُلغي البرنامج ، فضلاً عن وشاية مغرضة تشير الى إننا لن نعود الى العراق إذا ما غادرناه ، فأوقفت البعثة لكي نبقى وقوداً للحرب المستعرة آنذاك !
-2- في كلية الضباط الاحتياط
بعد أيام من التخرج من الجامعة أُلحقنا بالجيش عن طريق كلية الضباط الاحتياط ، وأثناء التدريبات سألنا ضابط برتبة نقيب أردني الجنسية - كان مع زملاء له من نفس البلد يقومون بالتدريب في هذه الكلية لكي يبقى أكبر عدد من الضباط العراقيين في جبهة القتال- قائلاً : ما هو تحصيلكم العلمي والاختصاص ، فأجبناه بين حاصل على شهادة لغة فرنسية أو لغة إنكليزية أو ترجمة وغيرها فأبدى دهشته بالقول : وما الذي جاء بكم هنا ؟ أجبناها وهل ذلك بمحض إرادتنا ، ولسان حالنا يقول "مرغم أخاك لا بطل".
-3- في جبهة القتال
بعد أن أنهيت كلية الاحتياط بيومين وجدت نفسي في الخطوط الأمامية للقتال في شرق البصرة ! وبقيت طيلة خدمتي التي قاربت تسع سنوات أحمل معي قاموس اللغة الفرنسية وكتب ودواوين صغيرة لكُتاب وشعراء فرنسيين وغيرهم ، وكلما إحترقت أو فُقدت جلبت غيرها. في أحد الأيام زارني آمر الفوج في فصيلي على الساتر الامامي فوجدني أقرأ ترجمة المجموعة الشعرية " أزهار الشر" الصادر عام 1857م للشاعر الفرنسي شارل بودلير(1821-1867م).قلّبَ الكتاب فلم يفهم شيئاً من العنوان أو إسم الكاتب فسأني : ما هذا ؟ أجبته محموعة شعرية لشاعر فرنسي شهير.سكت وغادر المكان وكأن لسان حاله (نحن أين وأنت أين ؟ ).
وفي هذا السياق ، يصف سمير الحاج الشاعر حسين مردان ، بأن يراعه نزف شعرًا غريبًا فقد لبس قناع شارل بودلير وفق مفهومه الخاصّ لديوان «أزهار الشر» وتفاطع معه في شعر البغيّ والغرابة، خاصة في ديوانه «قصائد عارية » 1949م ، وكرّاسه الحامل قصيدة «اللحن الأسود» 1950م ، اللذين أوصلاه إلى ردهات المحاكم لإسرافه في الإباحية والفانتازم أي التخيّل الشهوانيّ، لكن في شهر يوليو/ تموز 1950م أصدرت المحكمة قرارها بالإفراج عن الشاعر وديوانه.

-4- عودة الى الحياة المدنية
عندما سُرحت من الخدمة بعد أن أفنيت زهرة شبابي في إتون الحرب ، عدت الى الحياة المدنية وبدأت بتعليم اللغة الفرنسية في معهد أكاديمي ، وتوسعت في قراءاتي الى كتب الادب العربي والتاريخ والاجتماع وغيرها. كانت مكتبتي لا تزال ناشئة ، معظمها عن اللغة والادب الفرنسيين والترجمة ، فاتجهت الى مكتبة والدي - رحمه الله - الثرية بكتب الادب واللغة والدراسات القرآنية. وبعد أن قرأت عدداً من أجزاء ديوان الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ورسالة الغفران للمعري وغيرهما، صادفني كتيب صغير عنوانه ( نشيد الإنشاد) أعجبني كثيراً، وهو عبارة عن مجموعة شعرية للشاعر المتمرد حسين مردان (1927-1972م) وهو كاتب وشاعر عراقي من مواليد مدينة طويريج محافظة كربلاء. لُقّبَ بـ «ملك الصعاليك» للقرن العشرين ، فقرأت ديوانه الصغير مرة وإتجهت الى الثانية بعد أن شّدَني اليه إعجاباً.
-5- أنا وصديقي وحسين مردان في نشيد الانشاد
قتيبة المُكنى جارٌ لي في منطقتنا السكنية في مينة الموصل ، شاب أفنى حياته (15 سنة) في الخدمة العسكرية الالزامية منذ عام 1975م ، وعندما تسرح منها وجد نفسه عاطلاً عن العمل وضائعاً في هذه الغابة الكبيرة، وهو الرجل المسالم ، طيب القلب ، نقي السريرة ، حتى يتصوره من يلتقيه لأول وهلة بأنه شخصٌ لا يفقه شيئاً. ورغم كونه بالكاد أكمل دراسته الابتدائية في مدينة الموصل ، إلا أنه كان مثقفاً في المجالات السياسية والتاريخية والإجتماعية ، يقرأ الصحف بشكلٍ يومي سواء في وحدته العسكرية – كونه كان يخدم في المقرات الخلفية – أو لدى تواجده في المدينة خلال إجازته الدورية. وفي النقاشات كان يتفوق حتى على أصدقاء لديهم شهادات جامعية !
كنت أذهب الى الحديقة الخضراء لجامعة الموصل الهادئة، يرافقني صديقي وجاري ، ومعي كتيب "نشيد الانشاد" للشاعر حسين مردان ، الذي وصفه الدكتور علي جواد الطاهر " ... امتد أفقه إلى العهد القديم من الكتاب المقدس، واستفزه (نشيد الإنشاد للمكل سليمان) بحيث رآه (قصيدة من أروع قصائد الحب في الآداب القديمة) ورأى الملك سليمان قلقاً في ظمأ روحي (فهو من ناحية يشعر بحاجته إلى نوع من الجمال الحقيقي الذي يرضي خياله ويشبع روحه وجسده معاً ويود من ناحية أخرى أن يكون الشخص الكامل الذي رسم صورته في أعماق شعوره ) ، فصدر عمله بعنوان (( نشيد الإنشاد)) سنة 1955.
تأثر مردان بنشيد الانشاد الذي يحاكي فيه نشيد الانشاد التوراتي ، وسفر نشيد الأنشاد هو أحد اسفار العهد القديم. يقول في بيت من قصيدة وردت في ديوانه :




أَنَا سَوْدَاءُ وَجَمِيلَةٌ يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ، كَخِيَامِ قِيدَارَ، كَشُقَقِ سُلَيْمَانَ.
لَا تَنْظُرْنَ إِلَيَّ لِكَوْنِي سَوْدَاءَ، لِأَنَّ ٱلشَّمْسَ قَدْ لَوَّحَتْنِي.
بَنُو أُمِّي غَضِبُوا عَلَيَّ. جَعَلُونِي نَاطُورَةَ ٱلْكُرُومِ.
أَمَّا كَرْمِي فَلَمْ أَنْطُرْهُ.
إختار حسين مردان (شموليت) لتصبح الوجه الآخر لسليمان الحكيم. فهي رمز الجمال المترفع والفضيلة التي كان يفتقدهما سليمان عند جواريه، تأخذ شموليت صفة الراوي لصورة الملك سليمان وصفاته. يجسدها مردان بالقول :
حبيبي جسمه كلفائف الورد
ومن لحمه يسيل الشذى
ثم تأتي الجوقة لتدخل مثل كورس يوناني لتعلن اختيار شموليت من بين الجواري خليلة لسليمان:
(شومليت)..
أيتها الجميلة بين النساء
أن لم تعرفي أيتها الجميلة العذراء
فاخرجي إلى البر، وانظري إلى آثار الغنم
فهناك عند مساكن الرعاة
تنتصب ابتسامة جميلة كقوس السحاب
تلك هي ابتسامة حبيبك المقدس.
كنت أقرأ الأبيات بصوتٍ عالٍ - وكأنني أبحث عن الزمن المفقود كما بحث عنه الروائي الفرنسي مارسيل بروست في روايته " البحث عن الزمن المفقود" - في حين يصغي اليّ صديقي مستمتعاً بالأبيات الشعرية الجميلة. وكانت ترد لازمة شعرية بعد كل عدد من الأبيات ، يقول فيها الشاعر" جاءت جوقة من بنات أورشليم"، فيبتسم صديقي ويردد في كل مرة مع كلمات مردان مستمتعلاً بالقصيدة الجميلة "جاءت الجوقة" ، ثم طلب صديقي مني أن يستعير الديوان الصغير ليقرأه بنفسه ويتمعن بأبياته وكلماته.
مغزى المقال ، هو أنّ تذوق الفن والأدب والشعر والموسيقى وغيرها لا يرتبط دوماً بمستوى التعليم ، بل بمستوى الثقافة وتذوقها ، فصديقي مثقف بتعليمٍ متدنٍ ، ولكنه أفضل من متعلم لديه ثقافة متدنية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التجسس.. هل يقوض العلاقات الألمانية الصينية؟ | المسائية


.. دارمانان يؤكد من الرباط تعزيز تعاون فرنسا والمغرب في مكافحة




.. الجيش الأمريكي يُجري أول قتال جوي مباشر بين ذكاء اصطناعي وطي


.. تايلاند -تغرق- بالنفايات البلاستيكية الأجنبية.. هل ستبقى -سل




.. -أزمة الجوع- مستمرة في غزة.. مساعدات شحيحة ولا أمل في الأفق