الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقتطف رابع: حديث الجبل والغابة (تتمة للمقطتفات (4))

عذري مازغ

2022 / 11 / 2
الادب والفن


العنوان من صلب أحد الرفاق المتفاعلين مع الرواية والذي وجدته متناسب مع موضوعاتي (ومن الآن فصاعدا سيكون نفس العنوان لروايتي)، عنوان الرواية هو حديث الجبل والغابة

لم يبت عمر يوما آخر في الرباط عندما سمع من قريبه تلك الإهانة في غلاف نصيحة، شعر بالتدمر وكأنما العيب في أعماقه، أصبح المال إعاقة ذاتية عليه معالجتها في ذاته فقرر أن يعود إلى بلدته الجميلة التي لا يسمح فيها إلا "عاش" ترددها النساء ذات الصوت القوي حين تنوح رؤوس العنزات إلى المزارع وهي أيضا تنبيه للراعي لردها عنها.
في طريقه من الرباط إلى بلدته كان مشحونا بقلق وجودي، لقد خلخلت كلمات قريبه كل كينونته وربما لأول مرة يفكر في مصيره، لقد دخل الجد والجدية في اعتباراته، دخل بوابة التساؤل في المصير، انتهى مرح الدراسة، الآن سيدخل المدرسة الجديدة الحقيقية التي لا تعتمد تلك الأرقام الحمراء والملاحظات الفارغة التي تقيم نتائجك. احترقت ورقة القريب التي طمأن بها نفسه على أنها حل الحصول على العمل والوظيفة وعليه أن يفكر في أمر مختلف، عند توقف شاحنة النقل في مدينة مكناس، فكر أن يشتري جعة في سوق كبير لأنها أرخص من الجعة المهربة في مدينته التي تعتمدها بلدته في التسويق العام، فكر في الجعة أكثر مما فكر في شيء آخر وتفلسف في موقفه الجديد:" الجعة ليس لنسيان ما حصل بالرباط، بل هي شكل من اشكال الوضوء العام مثل الاغتسال بعد علاقة جنسية، هي نوع من الحج أيضا لغسل الذنوب، قال في نفسه: علي أن أغسل روحي من الخلفيات القديمة..."
عندما وصل إلى بلدته الجميلة وهي عبارة عن جزيرة أرضية وسط بحر غابوي، وضع الجعة لتبرد في مجرى مائي تحت شلال صغير موحش بالرطوبة تحت منزل والده، شلال مختبئ لا تعرفه العيون السياحية ولم يتلطخ بعد بقمامة الحضارة، بحث عن أخيه الراعي الذي يتقن الضرب على الوتر وقال له: "ستحتفل اليوم معي، أعرف انك لا تشرب ولكن اليوم سنحتفل معا بالشرب والوتر"
بقليل من الخجل رد عليه أخوه: أنا لا أشرب كما تعرف
ــ هذه المرة ستشرب، تعرف أنا أخوك، لو كان في الأمر ذرة ذنب لما دعوتك
ــ لكن الشراب حرام
ــ نعم حرام لأن مذاقه حار، لكنه حلو وممتع للروح، جرب سترى كيف هو! إنس كل شيء عن الأهل، تحت الشلال لا يأتي هناك أهلنا لتدنيس "قصارتنا" فالمكان وعر وسنحتفل فقط أنا وأنت و"الحلوف" (يقصد خنزير الغابة الوحشي)
ــ وماذا عن علف البهائم؟
ــ ستتكلف بها أختنا فاطمة وستأتينا أيضا بالأكل
ــ فاطمة تعرف؟
ــ نعم إنها أولى بأن تعرف، تحتاجنا لكسر التطرف الذي يحيط بنا وبها ولذلك ستساعدنا في سرية جلستنا.
ــ "إذا"؟؟
ــ نعم "إذًا" سنشرب وسنحتفل
بدءا جلستهما بحديث قصير تناول قصة زيارة الرباط ثم قطعها عمر بالقول: "لا تثق بأحد، كل هؤلاء الدائرين بنا أولاد القحبة، الكل يبحث عن مصلحته!"
أخذ أخوه قاسم وتره وبدأ ينغم بمدخل مقام الربيع الذي ورثه أخوه من فنان الاطلس المتوسط الامازيغي "رويشة" (المقام هذا طبعا لفريد الأطرش المصري لكنه يتناسب كثيرا مع الأغاني الأمازيغية) ثم انتقل ينغم بيت شعري أمازيغي رهين اللحظة، بيت شعري رومنسي:
"أداي سمالون ثيقيوين دادن ييظان"
"ياند غوري إخردجن وايذريخ"
"حين تسدل أشجار الصنوبر ظلالها
ذلك إيدان بمجيء الليل
تصبح كل أطياف ظلالها
صور حبيبي!"
أخ عمر هذا لم يدخل المدرسة، بل دخل المدرسة الأخرى من بابها الحقيقي، تعلم ضرب الوتر على آلات صنعها بيده وتعلم النقط من خلال السماع لأغاني الراديو في القسم الأمازيغي للإذاعة الوطنية المغربية وبعض اسطوانات الغناء الشعبية وكسب إيقاع النوتة من حدسه الموسيقي وحواسه، سأله عمر:
ــ هل قصرت يوما في عرس؟
ــ نعم، قصرت في عرس ابنة "الهوب"، ضحك عمر اعتقادا منه أن اخاه يسخر، لكن كلمة "الهوب" هي كنية لربًاع عم عمر، ويقال أنه سمي بذلك لقلة حاسة السمع عنده بشكل يقفز حين تخدشة فزعا وينطق بكلمات محرمة مثل الحب وكلمات فاحشة أخرى، لكن أخ عمر يقصد ذلك تماما: اول استعراض فني له كان في عرس ابنة رباع عمه.
بعد استمتاع عمر وأخيه برومانسية أغنية الصنوبر دخل عمر بكل ثيابه تحت ماء الشلال وهو يصيح سأتوضأ لمسح "الجنابة" التي لوثتني، هي عملية انتفاء وتحول من دنس معين إلى حالة صفاء، هكذا يصف عمر حالة الشرب والالتقاء تحت الشلال المائي الموحش.
"الجنابة" في المغرب تعني التلوث بالممارسة الجنسية وتغسل بالوضوء "الكبير"، في المغرب هناك وضوء كبير وآخر صغير: الوضوء الصغير هو حين تغتسل لأجل الصلاة : حيثيات غسل أطراف معينة بينما الوضوء الكبير هو التحمام: غسل الجسد كله، موازاة مع ذلك، وبالجعة: عمر يقصد غسل روحه أيضا وليس النسيان كما عند أهل من يعاقرون الخمرة.
أنهى عمر العلاقات الحميمية مع كل الأقارب، ليس هناك تعاضد اجتماعي إلا في حالة الموت والانتحار بنفاق التعزية، انتقل إلى شرب الجعة والتدخين كشكل من أشكال التمرد او ما يسمى بالإنتحار البطيء.
لا يعتبر عمر قريبه بالبورجوازي بتلك الصفات المعلومة، لكن عند اهل البلدة قريب عمر تحول من شخص عادي إلى شخص ذا مكانة وربما هذا وازع تقديم أطفالهم إلى التمدرس، ويعني في الوعي الجمعي تحويل أطفالهم إلى موظفين بالدولة ولهذا الامر خلفياته الاستعمارية، عمر مثلا في طفولته، أقصى ما تصوره في نفع أهله هو أن يكون "بوعاري" (حارس الغابة)، ان يكون هو سيد الغابة في غابته بشكل يرفع تلك الغرامات الظالمة: "في بلدتنا كنا نستشعر ان هناك شيء غير ملائم بين الدولة المخزنية وأهلنا"، هناك دائما شيء غير ملائم حسب عمر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف


.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي




.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد