الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوميات ايطالية

شريف حتاتة

2022 / 11 / 4
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية


يوميات إيطالية
----------------------------
عرفت السفر منذ الشهور الأولى فى حياتى .. ولدت فى لندن و هبطت من الباخرة فى ميناء الإسكندرية ، رضيعا محمولا بين ذراعى أمى ، يستمد الاطمئنان من دفء أحضانها ، ومن صفاء نظرتها الزرقاء . ظللت أرحل فى مشوار الحياة غير مستقر فى مكان .. حتى وأنا فى السجن تنقلت بين سجن الأجانب ، ومصر ، والإسكندرية ، وليمان طرة ، والواحات . وفى يوم من الأيام كسرت جدران السجن ، وسافرت من بورسعيد إلى باريس مختفياً فى أعماق باخرة للشحن . ثم عدت بعدها بسنة فى بطن باخرة مثلها ماراً
بمدينة " جنوا " فى إيطاليا ، وميناء " بيريه " فى اليونان وبيروت ، لتنتهى رحلتى حيث بدأت فى بورسعيد .
زرت أكثر من ثلاثين بلدا فى آسيا وأفريقيا ، رئيساً لفرقة من الخبراء فى منظمة العمل الدولية ، وبعد أن تركت المنظمة سافرت إلى العواصم ، والمدن العربية والأوروبية لحضور اللقاءات الفنية والثقافية .. جبت القارة الهندية من أقصاها إلى أقصاها ، وكتبت عنها كتاب " طريق الملح والحب " .. شاهدت جبال الهمالايا وشلالات نياجرا ، وتتبعت منابع النيل عند بحيرة تانا فى الحبشة ، وبحيرة فيكتوريا فى أوغندا .
تنقلت فى السيارات ، والأتوبيسات ، و الشاحنات ، والقطارات ، والبواخر ، والزوارق النهرية ، والمعديات ، وحتى على ظهور الدواب ، راحلا للعمل أو هاربا من البوليس فى مدن وقرى الوجه البحرى .. عرفت ركوب قطار الدلتا إلى بلدتى قبل أن يتم إلغاؤه .. أصبحت عاشقا لحركة القطار يندفع فوق القضبان ، فأغلق عينى قافزا فوق المسافات والأزمنة فى رحلة بلا حدود ، أو ناظرا من النافذة إلى الحقول ، والغابات ، والزهور ، والأنهار ، والجبال . أفتح النافذة فى الصباح على مكان جديد . أستمتع بحركة العقل والجسم ، أعيد من خلالهما اكتشاف الماضى ، والحاضر ، وعواطف وأفكار تربط بين الناس فى كل مكان .
منذ سنوات توقفت عن السفر .. لم أترك " القاهرة " إلا للذهاب إلى بلدتى .. ربما تعبت .. أو كبرت .. أو ضاعت النشوة الأولى ، والشهية الطازجة للسفر .. أو زاد الارتباط بالمنزل ، والأسرة ، والكتب ، والأوراق .. فالزمن يجرى ، وما يتبقى منه أقل بكثير مما مضى .. أحن إلى مصر عندما أسافر . لكننى أضيق بها عندما أعود .. لذلك أحتار بين السفر والبقاء .
حبى لإيطاليا قديم
-------------------------
ظننت أننى استكنت ، وتقبلت حكم الأيام .. ثم جاءتنى تلك الدعوة من مدينة
" بولونيا " للمشاركة فى ندوة عن العلاقات الثقافية بين إيطاليا والعرب .
ولإيطاليا عندى سحر خاص .. عشت طفلا فى روما مدة سنة ونصف ، عندما كان أبى ملحقا زراعيا فى سفارة مصر .. تشربت موسيقى اللغة ، وألحان " باجانينى " وصوت " كاروزو " القوى العذب ، والأغانى النابوليتانية . أحسست بها فى خطوط المعمار ، والنحت ، وضحكات الناس حول موائد النبيذ . عرفت حبهم للحياة الذى لا ينضب ولا يجف .
كان حبى الأول ، فتاة إيطالية تعرفت عليها فى القطار الكهربائى يحملنا كل يوم ، من محطة روكسى إلى المحطة الأخيرة فى تقاطع عماد الدين وفؤاد الأول . فى شبابى قرأت عن العلماء " جيوردانو برونو وكوبررنيك " و " جاليليو " ، الذين أصدرت عليهم الكنيسة الكاثوليكية أحكاماً بالحرق لأنهم أصروا على أن الأرض كروية وليست مسطحة ، مما يتناقض مع نص ما جاء فى التوراة والأنجيل ، وفيما بعد ألتهمت كتاب
" ارفينج ستون " عن حياة النحات العبقرى " مايكل أنجيلو " ، بعنوان " العذاب والنشوة " .. شاهدت أفلاما مثل " سارق الدراجات " و " الحياة حلوة " ،
" الامبراطور الأخير " ، " رجل مات مقدما " و " المرقص و الفهد " وعشرات الأفلام الإيطالية الأخرى . ومن سنة قرأت رواية " امبرتو أيكو " بعنوان " الوردة " ، التى تدور أحداثها فى دير للرهبان ، حيث تم إخفاء مخطوط " لدانتى " عن الضحك ، لأن الدوائر الرجعية المسيطرة على الكنيسة الكاثوليكية فى ذلك الوقت ، كانت ترى أن الضحك كفر . فالضحك وثيق العلاقة بالسخرية .. والسخرية مرتبطة بالتمرد والشك .. برؤية المفارقات والزيف مما يهدد الكهنوت والقهر ، ويتعارض مع العبادة الموروثة العمياء للنص . فى مكتبتى كتابات ، ومذكرات جرامتشى وتولياتى والمجلة الدولية لليسار الإيطالى .. فأنا معجب بمسار الحزب الشيوعى الإيطالى رغم عثراته .. فهو يهتم بالثقافة ، والفكر ، وبتطورات العصر .. لا يسجن العقل، ولا يخشى الخطأ .. فلا يوجد صواب بلا خطأ .. والخطأ فى الحياة حق إنسانى شريطة أن يتعلم الإنسان منه .. والاكتشاف ارتياد للمجهول يعرضنا لزلة القدم .
لذلك كله خضعت للإغراء وذهبت .. أردت أن أهرب من الصدأ الذى أحس به يترسب حول عقلى .. من جمود الفكر يحفر هوة عميقة بيننا وبين العصر .. من حصار أقامته مراكز المال الكبرى والإعلام ، أحيانا باسم الحداثة ، وأحيانا باسم التراث ، والقوانين الالهية .
شوارع الأزمنة الماضية
-----------------------------
" بولونيا " مدينة إيطالية لها طابع خاص .. حافظت على مبانيها القديمة المطلية باللون الطوبى الأحمر، والمزودة بالنوافذ العالية ، وأقامت أغلب مبانيها الجديدة على الطراز نفسه .. بواكيها تمتدأسفل المبانى لمسافات يصل مجموعها إلى خمسة وثلاثين كيلو مترا ، تلقى بظلالها المريحة على المارين من تحتها ، مرتفعة إلى مسافة عالية على أقواسها ، فتبدو من أسفل كالقبة التى ليس لها نهاية فى ارتفاعها .. شوارعها الضيقة، وأحجارها الصغيرة السوداء، تعيد إلى الأذهان شوارع الأزمنة الماضية .
مبنى الكنيسة الضخم الذى كان مقررا له أن يفوق " سان بيترو " فى الحجم مما آثار مشكلة فى الفاتيكان ، ودفع البابا للتدخل حتى يمنع امتداده ، أراه يطل على الميدان الفسيح حيث القصر العظيم الذى تحتله الكوميونة ( أى البلدية أو مجلس المدينة ) . على درجات الكنيسة الرخامية يجلس أفواج الشباب والشابات تحت أضواء الشمس .. يتبادلون الكلمات الهادئة ، والعناق ، والضحكات ، ويشربون عصير الفواكه من علب الكارتون الملونة ..وفى الميدان تتمايل البالونات فى النسيم ، ويرفرف الحمام متنقلا من مكان إلى مكان ، ليلتقط الحبوب التى يلقى بها الأطفال .
أتنزه فى الميدان . أمتص نغمات الموسيقى ، وجو السلام فى هذه المدينة الجميلة التى لا يتعدى عدد سكانها المليون . النساء والشباب فى كل مكان يسرعون الخطوة إلى العمل أو الدراسة فى الصباح ، أو إلى البيت فى المساء .. ينظمون أعمال الندوة ، ويضحكون ويثرثرون معنا بعد الانتهاء من أعمالهم .
النساء واليسار السياسى
---------------------------------
صالة الاحتفالات فى القصر ممتدة الأرجاء تسع ألف شخص .. صعدنا إليها على درجات من نوع خاص منخفضة وعريضة . ففى الماضى البعيد كانت تحكم المقاطعة أسرة من الملوك ، وكانت الخيول تصعد بفرسانها إلى الأدوار العليا وتهبط منها .
رأست جلسات الندوة امرأة شابة أسمها " سليفيا بارتولينى " عمرها سبعة وعشرون سنة .. فى اليوم الثانى دعتنا على العشاء فى مطعم يملكه زوجها الذى استقال من الحزب الشيوعى وتفرغ لأعماله الخاصة .. أما هى فواصلت عملها فى الحزب إلى أن صارت مسئولة عن الخدمات الاجتماعية فى المدينة ، والشخصية الثانية بعد عمدة المدينة .. فالكوميونة يحكمها تحالف من الحزب الشيوعى وبعض المستقلين عن المهاجرين الأجانب فى مدينة بولونيا ، وعددهم يزيد على السبعين ألفا أغلبهم من الشرق الأوسط ، وشمال وغرب أفريقيا . امرأة أخرى فى بداية الثلاثينيات من عمرها فيها ذلك الجمال القوى الذى يميز بعض الإيطاليات . تزوجت ثم انفصلت من زوجها وهو عمدة إحدى المدن الأخرى .. تعيش مع ابنتها ، ولا تكف عن العمل طوال النهار وجزءا من الليل ، ولها نشاط سياسى وثقافى فعَال .
يوجد عدد كبير من النساء فى المراكز المسئولة فى كوميونة بولونيا ، وفى مختلف أوجه النشاط العام .. والمسئولة عن نشاط المهاجرين فى مدينة " مودينا " التى زرتها فيما بعد ، امرأة مصرية تدعى " زينب حسن " . عندما سألت عن سبب هذه الظاهرة ، قالت بعض النساء أنه بسبب الاهتمام الكبير الذى يعطيه الحزب الشيوعى فى السنين الأخيرة لقشايا المرأة ، ولمقاومة مظاهر عدم المساواة ، القائمة بينها وبين الرجل ، والتى تؤدى إلى تقسيم غير متكافىء للعمل يحبس المرأة فى البيت ، وخدمة الأسرة ، بينما يفتح مجالات العمل الخاص والعام أمام الرجال .. كما يرى الحزب أن تدعيم الديمقراطية السياسية ، لا يتأتى إلا بالمشاركة الفعالة لكل الناس نساء ورجالا .
وقد أدى هذا الموقف المتطور إلى تدعيم التعاون بين الحركات النسائية المستقلة وبين اليسار . كما أدى بالتدريج إلى تقلص نفوذ ونشاط هذه الحركات ، لأن النساء أخذن يتنبهن الآن إلى وجود حزب قوى يدافع عن مصالحهن ، ويجتهد لفتح مجالات العمل ، والمسئولية وفرص التطور أمامهن ، داعيا الرجال إلى أن يعملوا أيضا على تدعيم المشاركة الحقيقية والمتساوية بين الرجال والنساء فى العمل ، وففى الأسرة ، وأن ينبذوا أساليب التسلط والقهر ، والانفراد بقرارات الحياة الهامة .
المهاجرون إلى أين ؟.
--------------------------
مسألة المهاجرين قضية تتزايد أهميتها فى أغلب البلدان الأوروبية ، وعلى الأخص مع الاندماج الذى سيحدث بين أعضاء الجماعة الأوروبية فى سنة 1992. فالكثيرون يخشعون أن تكون الغلبة داخل الجماعة للمراكز المالية ذات النفوذ الأكبر ، تلك المراكز التى ستتكاتف لفرض سيطرتها على هذا السوق الضخم ، على حساب المناطق الأكثر تخلفا فى القارة الأوروبية مثل جنوب إيطاليا ، وأسبانيا ، واليونان . واليسار الإيطالى يرى أن هذا الاحتمال قائم ، طالما أن الاندماج الاقتصادى له السبق على خلق الأدوات السياسية الديموقراطية الممثلة للإرادة الشعبية داخل السوق .. وهذا هو الحادث حتى الآن . لذلك يسعى مع غيره من القوى داخل وخارج إيطاليا إلى إقامة نظام سياسى أوروبى ، يضمن أكبر قدر من الديمقراطية والمشاركة الشعبية ، حتى لا تتحكم الاحتكارات المالية الكبرى فى مصائر مئات الملايين من الناس ، وتفرض عليهم سياسات تضر بمصالحهم .
وفى إطار الصراع فإن موضوع المهاجرين المصرين والعرب الذين يتزايد عددهم باستمرار تصبح له أهمية خاصة .. فالتفرقة العنصرية التى تمارسها الدوائر الرأسمالية الكبرى وممثلوها السياسيون فى الحزب الديمقراطى المسيحى ، من شأنها أن تضعف القوى الشعبية وتثير المنازعات ، فتعطل قيام الديمقراطية الفعالة التى يسعى الحزب إلى إيجادها فى إيطاليا ، وفى الجماعة الأوروبية ، تلك الديمقراطية التى ترتبط ارتباطا وثيقا بالسعى نحو الإصلاح والتطور الاشتراكى فى المجتمع .
الحكومة الإيطالية التى يسيطر عليها الحزب الديمقراطى المسيحى بالتعاون مع الحزب الاشتراكى والجمهوريين والليبراليين ، تسعى إلى إعادة أكبر عدد ممكن من المهاجرين المقيمين الآن فى إيطاليا إلى بلادهم قبل تاريخ الاندماج الأوروبى فى سنة 1992 . أما قوى اليسار والديمقراطية ، فهى تعمل على اعتبارهم مواطنون جدد لهم حقوق الإيطاليين . وبالفعل تمكنت هذه القوى من تمرير عدة قوانين فى البرلمان ، وعدة قرارات فى الإدارات المحلية ، بحيث أصبح لهؤلاء المواطنين الجدد كافة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية المتاحة للإيطاليين .. بالإضافة إلى ذلك تقدم الحزب الشيوعى بمشروع قانون يبيح لهم حق الانتخاب ( دون ترشيح ) كخطوة أولى .
وقد تحدثت إلى أعداد كبيرة من هؤلاء المواطنين الجدد فى سلسلة من الاجتماعات العامة التى عقدت فى مودينا ، وريجيواميليا ، وتورينو ، وأحسست بأن هذه الحقوق فى طريقها إلى التطبيق الفعلى ، خصوصا حيث تتفوق كفة اليسار والديمقراطيين فى الحكم المحلى ، وهذا هو شأن بولونيا ومودينا مثلا .
إيطاليا والعرب
----------------------
هناك زاوية أخرى مهمة خاصة بالمهاجرين عرفتها من خلال الندوة التى نظمتها كوميونة بولونيا . وشارك فى الندوة من الجانب الإيطالى ، المستشرق فرانشيسكو جابرييلى والبروفيسور نورى أستاذ التاريخ فى جامعة تورينو ، ومن الجانب العربى الأستاذ لطفى الخولى أمين عام الاتحاد الآسيوى الأفريقى للكتاب ، والكاتبة الدكتورة نوال السعداوى والشاعران أدونيس ومحمود درويش ، والأستاذ محمد أركون والأستاذ محمد برادة من المغرب وأنا .
فهذه الزيارة ترتبط بمسألة العلاقات الثقافية الإيطالية العربية ، وللمهاجرين دور يستطيعون القيام به خصوصا إذا عمل نوع من المسح لإمكانياتهم المهنية ، ونظمت جهودهم فى بعض المجالات مثل الترجمة والإعلام ، والندوات ، والنشاط الاقتصادى والسياحة العلمية .
وإذا ما تدعمت العلاقات الثقافية العربية الإيطالية يمكن لها أن تلعب دورا فى تذليل بعض العقبات المتعلقة بعدم المساواة بين الشمال والجنوب ، وأن تقوى التعاون بشرطألا يكون هذا التعاون متجها إلى تفتيت الجهود الساعة إلى الوحدة العربية ، بمختلف أبعادها الاقتصادية ، والسياسية والثقافية .
كما يمكن لها أن تساعد على جعل حوض البحر الأبيض المتوسط ، ملتقى للثقافات المختلفة والحضارات الإنسانية ، وميدانا للجهود الساعية إلى السلام . وهذا الحوض يعج بالقواعد العسكرية والأسلحة الذرية ، بما فيها تلك التى تملكها إسرائيل ، بالطائرات الحربية والبوارج ، والغواصات ، والصواريخ وغيرها ، وتستطيع هذه العلاقات أن تخفف من انقسام العالم إلى كتل متنازعة تزيد من التوتر الدولى واحتمالات الحرب .
تركت " بولونيا " إلى " ميلانو " . الأتوبيس يشق طريقه بهدوء واثق بين السيارات الصغيرة المسرعة ماركة فيات . على الجانبين ، أشجار العنب والبرقوق والكرز ، والكمثرى ومساحات الخشخاش البرى الأحمر ، وقرب ميلانو حقول الأرز الخضراء المغطاة بالمياه . تركت ورائى مدينة تعرف معنى الحفاظ على التراث واحترامه لأنها قادرة على الانطلاق نحو الأفاق المفتوحة لعصر جديد . وحملت معى مرح الشباب ، والنساء وصفاءهم ، لأنهم يجدون لأنفسهم مكانا فى الحياة .
من كتاب : " فى الأصل كانت الذاكرة " 2002
----------------------------------------------------------------------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الأميركية تعتقل عدة متظاهرين في جامعة تكساس


.. ماهر الأحدب: عمليات التجميل لم تكن معروفة وكانت حكرا على الم




.. ما هي غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب؟


.. شرطة نيويورك تعتقل متظاهرين يطالبون بوقف إطلاق النار في غزة




.. الشرطة الأرمينية تطرد المتظاهرين وسياراتهم من الطريق بعد حصا