الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عبد الله الفاضل تغريبة الصحراء وجور بني القربى

عبدالله رحيل

2022 / 11 / 5
الادب والفن


عدالة الصحراء تفترض من المرء أن يكون عالما بتفاصيل حضورها السّمِح، وأن يكون ملما بتموجات كثبانها، وأن يهتدي بدلائل نجومها، وبفصيح كلامها، وبلغة أشعارها وأطيارها، ففي شطآن رملها قفار مجهولة، وتيهاء كبيرة واسعة ممتدة بين التلال والوهاد، وفي الغور والأنجاد؛ فتتراءى على ضوء القمر حكايا سمار، تجاذبوا أطراف الحديث في حدو الإبل المُجدّة بالسَّير، وبين الشيح والقيصوم والغضا والسَّدر، قصص نقلها رواة الأشعار والرحل؛ فساقتها رياح الفضول في معرفتها إلى مضارب تُعاد فيها، وتُكرّر في المجالس، وبين ساحات الخيام، ففي المفازة سرُّ النفس والهوى، هناك يبدو غدير ماء، تنفى الرياح القذى عنه، تتروَّى منه فتيات القوم، وتنهل؛ فيضحك الصبح بترنيمة دلال القهوة المرّة، وعبق الهال الشهي؛ فتتناثر هنا وهناك قبائل قد ألفت المكان، وعشقت الصحراء، مسماة بأسماء رجالها، الذين عركتهم الصحراء وتمرسوا بقساوتها، فمن شمّر، وطيٍّ وعنزةَ، وكهلان، والباشويّة، وربيعة، ومرة، حيث تناقلت الصحراء قصصهم، ومآثرهم، ففي عمق صحراء تدمر، وتخوم حمص، ظهر رجل من رجال الصحراء، وشعرائها، يُدعى عبد الله الفاضل، الذي طبع الصحراء بطابع الحبِّ والشعر، والرجولة.
وهو عبدالله بن فاضل بن حمد، بن ملحم بن رشيد، بن مزيد بن شماس، بن حسين بن صاعد، بن منبه بن وهب العنزي ، من مشايخ "الحسنة" إحدى قبائل ضنا مسلم من قبيلة عنزة، وأمه الشيخة نوف بنت الشيخ الحميدي بن هذال"، من العمارات من عنزة، حسب ما أورد الباحث عمر الصليبي، وتقول الحكاية: أن عبد الله الفاضل كان شيخا في قبيلته، رجلا معروفا بالشهامة وبالكرم، وبمنزلة عالية بين قومه، يقودهم نحو الرأي السديد، والحلَّ الأمثل الرشيد، لحل ما يعتري القبيلة من أحداث، والجدير ذكره، أن عبدالله الفاضل، ولد في ما يقارب سنة 1800 م، بمنطقة العال الواقعة شرق تدمر، وإلى الغرب من حمص وحماة، في عشيرة الحسنة، وتنتشر العنزة في العراق، وبادية الشام، والجزيرة السورية، وشمال المملكة العربية السعودية، وأطراف نجد، فيها تربع شاعرنا مجالس القوم في حكاياهم، وفي مستودع دواوينهم، لكن المصائب توالت بحياة هذا الشيخ الكريم، فقد هبَّت على المكان رياح مرض الجدري، وقديما كان لا دواء شافي له؛ فأصيب القوم به، ونال عبد الله الفاضل ما أصاب قومه، فانتشر في جسده المرض، انتشار النار بالهشيم؛ فأصبح طريح الفراش، واستقر رأي قومه، وأهله، أن يكونوا منزوين عنه، حتى لا يعديهم، فمن المعروف أن الجدري ينتقل بالعدوى، فهُجِر في خيمة نائية عن خيم القوم، وبعد لأي استقر القوم أن يرحلوا بعيدا عن المكان، والمضارب؛ تاركين المرض اللعين بين رمال الصحراء، حتى لا يقضي عليهم، فكانت هذه حال العرب، حين ينتشر فيهم مرض معد عضال؛ فيتركون المكان، فأجمع القوم أن يربطوا الأمتعة والخيام ضاربين عمق الصحراء، وأن يدعوا عبدالله وحيدا بين الصحراء مع كلبه ومرضه، لكن أم عبد الله الفاضل، وأباه أبيا أن يتركا ولدهم في متون الصحراء القاتلة مرميا بين الرمال، وقد أخذ الجدري منه كل مأخذ، لكن بني جلدنه أجبروا الأبوين أن يرحلا مع القوم، وفي الطريق من رحيلهم توفي الأبوان حزنا وغما على فراق ولدهم عبدالله، لكن قومه كانوا رحماء قبل فراقهم له، إذ تركوا عنده، والكرامة للقراء، حاشا القارئين، كلبا صديقه الوفي، وتركوا له جزورا يأكل منها، ويحمي عبدالله الفاضل، الذي لا يستطيع الحراك، وقد خلا المكان منهم غير صفير الرياح وهبوب ذرات الرمال، والهجيرة تلوح وسط الخيمة الفقيرة المتآكلة المهترئة، وقد عم الصمت الرهيب بهم، فنظر، أعزكم الله، كلبه في عيني الشيخ عبدالله، ثم التفت يمينة ويسرة، ومد رجليه جوار صاحبه؛ فنزلت دمعة من عينه، فتلمس وبره الشيخ، وقال:
هـلك شـالو على مكحـول يا شيـر
وخلولك عظام الحيل بالدار ياشير
لون تبجي بكل الدمع والدهر ياشير
هلك شالو على حمص وحماة.
وكأن الضاري قد سمع وعلم مقصود الشيخ، وقد يئس من الألفة وعودة الجمع والقوم؛ فتوسَّد رجلي صاحبه وسلم أمره لله، يتأوه عبد الله بآلامه وأوجاعه، فلا يدري أيَّ الجوانب يقاسي، هل من الجدري، الذي ضل ينهش لحمه، واستقر في عظامه، أم أنه يتألم لقساوة أهله، وقطع دابر الصلات والرحمة والشفقة عليه وتركه وحيدا بين متون الصحراء؟ فلم يعد يحتمل المكان والمرض، وظلا وحيدين أياما وليالي، لكن نفس الشيخ عبد الله كانت تلهج دائما بذكر وخيالات أهله، وذكر أحاديثهم، وظل لسانه يؤلف الأشعار في وصف فضائل قومه، وحسن مآثرهم وكرمهم، ونبلهم ومنزلتهم العتيدة بين القبائل والأقوام، فلم يأخذ منهم موقف العداء والكراهية، فظل يذكرهم بالمحبة والخير وبنبل المشاعر، وهذا ما جعل لأشعاره كلها يذكر كلمة "هلي" في مطلع كل قصيدة، يذكر فيها شمائل أهله، وكرمهم، حيث يقول:
هلي نزّالت المشرّع وأهل ماي
وأهل خيل رمك سبك وأهل ماي
تعالوا ياحمايلنا وأهل ماي
وشوفو حال من فارك أحباب
فبقي على حاله تلك أياما طوالا، دون أن يمر عليهما أحد، حتى شاءت الأقدار لقافلة عابرة سبيل قادمة من الشرق، يُقال لها الصُّلُبة، فيما يرى كثير من الباحثين، أنهم من بقايا الصليبين، الذي ظلوا بعد الحروب، واختلطوا ببدو الصحراء؛ فأصبحوا منهم، وكانوا بشهرة واسعة بالطب وأهل خبرة به، فتقدمت من خيمته امرأة عجوز؛ فعرفت حاله، ثم طلبت من أهلها، أن ينزلوا عنده، حتى تعالجه، فرضوا بذلك، وأخذت تتعهده وتعالجه، وتشرف عليه بعيدا عن أهلها، الذين لا يخالطونه خشية العدوى، حتى شفي من الجدري، لكن آثار المرض قد شوهت وجهه، فلم يعد معروفا لأحد، وكثيرا ما كانت العجوز تسأله عن أهله واسمه، واسم قبيلته، لكنه لم يفصح لها شيئا يخص قبيلته، حتى لا يفضح أمرهم بين القبائل في تركهم له، نظر عبدالله حوله، فلم يجد ما يكافئ العجوز غير خيمة مهترئة؛ فوهبها لها، واعتذر منها لقلة المال، وأكملت القافة سيرها، فيما قصد عبد الله الشمال في تتبع أثر أهله.
وفي هذه الأثناء كانت قبيلة كردية عريقة، تحلُّ بين قبائل الشامية والجزيرة، ذاع صيتها في الأفاق، غرب بلدة رأس العين، وانتشر صيت رئيسها تمر باشا، الرجل الشهم الكريم، وكان يقطن قرية، ويران شهر، ويأخذها مقرا له، ومركزا لقبيلته؛ فقصده عبد الله الفاضل يريد عونا وعملا، فعمل عنده نادلا للقهوة، يسقي الضيوف القهوة، ويقوم على أعمالهم، فظل يخدم تمر باشا سنتين من الزمن، وفي إحدى الليالي نهره تمر باش، بكلمة نابية، أثرّت في نفسه تأثيرا كبيرا؛ فقضى ليلته غاضبا؛ فجاشت شاعريته في تذكر قيمته عند أهله، مستذكرا الأيام الخوالي، فقال في ذلك شعرا:
هلي عزّ النزيل، وعزّ من گال
ثكال الرّوز، ماهم حجر منگال
إن چان الناس مي إنهظل من گل
هلي نيسان طم العاليات
وقال أيضا:
هلي عزّ النزيل وعزّ منزال
• ودوم الهم على الدربين منزال
• عشوب الناس، وهلي نبت من زل
• خضر ما يبسو ببارح هوى
فسمعه الشيخ تمر باشا في دهشة، وتعجُّب من أمره، وفهم مقصده، أن يفتخر خادم بشرف أهله، ورفعتهم، فهمَّ إليه مسرعا يسأله حقيقة أمره، وعن معاني شعره، إذ عد ذلك الشيخ تمر باشا إهانة له، ومنقصة؛ فناشده بكل يمين محرجة، أن يكشف شخصيته، وقصَّته، فقصَّ عبدالله الفاضل قصَّته على الشيخ، لكنّ الشيخ لم يصدقه في بادئ الأمر؛ فأمر فرسانا للتحقّق من القصّة، وبعد ليالٍ جاءه صدق الأخبار، فاعتذر تمر باشا من عبدالله؛ فأكرمه، وقربه من مجلسه، وألقى عليه لباس الشيوخ والكرماء، وطلب منه أن يقيم في قبيلته، ويتزوج إحدى النساء، ويعيش في القبيلة، لكن عبدالله الفاضل اعتذر من الشيخ، وأخبره، أنه يريد البحث عن أهله، الذين رحلوا عنه، ثم ودّعه وترك مضارب قبيلته، يطرق الأفاق بحثا عن أهله، فقصد الجنوب، أعالي الفرات، يسير بين القبائل، إلى أن حط به الرحال في مضارب قومه، عشيرة الحسنة، وقبل أن يلج الديار، وقف على تلّة قريبة، يجيل النظر في البيوت العامرة، وكان المنظر ذا شجون، استعاد فيه الماضي، وذكرياته؛ فدخل المكان بصمت وبهدوء، يفرّس كلّ خيمة، ورجل، وامرأة؛ فعرف الجمع بوجوههم ورسومهم، ثم قصد خيمة كبيرة، تُدار فيها الدّلال، والرجال متراصة، وفي وسطهم رجل مُهاب، وعبدالله بمنظر شاعر بائس متعب، سألوه عن عمله، فقال، شاعر عُربان، وقد هاله الموقف، فهو بين أهله شيخهم، والآن يعامل معاملة العبيد، طلبوا منه أن يجلس بطرف الخيمة؛ فآلمه ذلك، ثم أومؤوا إليه، أن يسمعهم من الشعر على أنغام ربابته، التي قد تأبطها؛ ليروِّحوا عن أنفسهم قليلا، ولم يرفض عبد الله الطلب، فاستوى في جلسته متربعاً، وأخذ يرنم الربابة بمشاعر الحزن والألم، ولامس الوتر بمهارة، ودقَّة؛ فأخذت الألحان العذبة، تطرب الحاضرين وتشجيهم:
هلي بالدار خلوني وشالوا...
وخلوني جعود بطن شالو
على حدب الظهور اليوم شالو
وحايل دونهم كور وسراب
هلي بالدار خلوني رميماي
مثل حيدن معگل برميماي
يامحي العظام وهي رميماي
توصلني على حي الحباب
فاندهش القوم مما سمعوا، وأرجعهم إلى عهود قد مضت، وكان يعرف أن ابنته" درجة" في الطرف الآخر من البيت، وقصدها في الشعر:
سمعنا بالمجالس حس درجـا
لعين الحجلها على الساق درجـا
والمن يقول يا مسكين درجا
تقدم عـا لوسادة في التراب
ساد الصمت الجميع، ينظرون إلى الرجل، الذي ألهب المشاعر والذكريات، وبينما هم كذلك، ارتفع من صوب محرم النساء صوت "هلهولة طويلة" وفَرحة، بدّدت الصمت والحزن العميق، الذي حلّ بالقوم، فانتفض أحد الرجال؛ ظنًّا منه أنها أُعجبت بالشاعر؛ فأحبته، فقالت، وصرخت في وجهه: هذا الشيخ عبدالله الفاضل، فأنا أعرف شعره، وأسلوبه المميز في قول الشعر، فالتموا حول الرجل، يريدون بيان الحقيقة، وحين فرسوه، وتلمسوا حقيقته، عرفوه، لكن الجدري غيّر ملامح وجهه، وقال لهم : اجلسوا في أماكنكم، وأنا أقض لكم القصة، فعرَّفهم بأسمائهم، فعلت زغاريد النساء، فقبَّلوه صغاراً وكباراً فرحين، ومهنئين بعودة شيخهم وفارسهم، الذي طال غيابه، لكن كان له رأي آخر، فهم الذين تركوه، وهو بحاجتهم، أما الآن هو يتركهم، وليسوا بحاجه لهن فقد آلمه حال تخلي أهله عنه، هو ضعيف وحيد بين الموت والحياة، فتمسك الرجال والنساء به، أن يبقى، لكن سنوات الضياع والفراق آلمته كثيرا، فتخلص منهم، واندفع بخطوات سريعة، خارجا من ديار القبيلة، غير آبه بما يسمع من كلمات التوسل والبقاء، ولمّا عجز القوم عن ثنيه عن قصده، وقفوا وراءه ينظرون إليه، حتى غاب عنهم في الصَّحراء، التي حوته، حين رفضه أهله، وتركوه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة


.. الفنان صابر الرباعي في لقاء سابق أحلم بتقديم حفلة في كل بلد




.. الفنانة السودانية هند الطاهر في ضيافة برنامج كافيه شو


.. صباح العربية | على الهواء.. الفنان يزن رزق يرسم صورة باستخدا




.. صباح العربية | من العالم العربي إلى هوليوود.. كوميديا عربية