الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أول نوفمبر1954، نور من الله أضاء سماء الجزائر والعرب

عزالدين معزة
كاتب

(Maza Azzeddine)

2022 / 11 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


يحتفي الجزائريون يوم الثلاثاء المصادف للذكرى ال68 لاندلاع ثورة التحرير الوطني تحت شعار “ملحمة شعب وعزة أمة” ، في جزائر جديدة مشيدة الأركان, بمؤسساتها القوية وبوحدة شعبها وتطلعه إلى مستقبل أفضل لكل الجزائريين وجميع العرب وما انعقاد القمة العربية 31 بالجزائر إلا تيمنا بنجاح ثورة أول نوفمبر 1954 ، الجزائر لا تنسى ولن تنسى الدعم الذي قدمت كل الحكومات والشعوب العربية لثورتنا التحريرية المباركة ، لقد استطاعت ثورتنا أن تجمع كل العرب بلا استثناء لدعم ومساندة ثورتنا بكل الوسائل السياسية والديبلوماسية والمادية ،ها هي الجزائر تجمع في قمة العرب 31 كل العرب على ارضها الطاهرة لجمع شمل جميع العرب وتوحيد كلمتهم من اجل فرض كلمتهم وسيادتهم ووجودهم في عالم لا يحترم الضعفاء .
الجزائر اليوم تستلهم من ماضيها المجيد مبادئ أسست على ضوئها دولة سيدة، بمؤسسات قوية واقتصاد واعد ودبلوماسية مؤثرة، وبجبهة داخلية محصنة وموحدة ومجندة لتحقيق الريادة في كل المجالات.
إن هذه الجزائر الجديدة التي كرست في قانونها الأعلى بيان أول نوفمبر 1954 كمرجعية أساسية لا يمكن الانحراف عنها وفاء لرسالة الشهداء وتضحيات شعبنا , جعلت من تاريخ اندلاع الثورة المظفرة مناسبة "أرفع من أن ينحصر الاحتفاء بها في مظاهر الرتابة المناسباتية الباهتة" لأن نوفمبر هو "المعين الذي لا ينضب وذخر الأمة الجزائرية وكل العرب والمسلمين والمضطهدين عبر كل العالم ، ومناط فخر الشعب الجزائري وعزته" --مثلما ذكره رئيس الجمهورية, السيد عبد المجيد تبون بمناسبة إحياء هذه الذكرى العام الماضي--, مؤكدا أن تضحيات الشهداء والمجاهدين ومعاناة الشعب تحت هيمنة الاستعمار الغاشم, ينبغي أن تكون مصدر إلهام للأمة ولطاقاتها الشابة.
وها هي الجزائر الجديدة، تستعد في الفاتح نوفمبر 2022, لأن تكون عاصمة للعرب باحتضانها لأشغال القمة العربية 31 , وتسعى إلى لم شملهم بعد نجاحها في لم شمل مختلف القوى الفلسطينية, وذلك انطلاقا من رمزية هذا التاريخ الذي يكرس التفاف الدول والشعوب العربية وتضامنها مع الثورة الجزائرية المجيدة, ويشكل فرصة للاحتفال مع الشعب الجزائري بأمجاد هذه الأمة والاستلهام من همتها في بلورة رؤية مستقبلية لتحقيق نهضة عربية شاملة.
أول نوفمبر 1954، نور من الله أضاء ارض الجزائر المسلمة ليزيل ليل مظلم جثم على ارضنا طيلة 132 سنة من الظلم والإبادة والهمجية ، أول نوفمبر 1954 بداية أعظم ثورة شعبية في التاريخ المعاصر غيرت مسيرة التاريخ وأضاءت ليلا طويلا من الظلم والقهر والاستبداد والعبودية ... أول نوفمبر بداية بزوغ فجر الحرية والانعتاق من قيود أشرس استعمار استيطاني متوحش حقود على كل الشعب الجزائري ومقوماته من تاريخه ودينه ولغته وعاداته ... كان أول نوفمبر حقا شهابا أرسله الله على شياطين وأباليس الاستعمار الفرنسي وأذنابه من بعض الجزائريين الذين لمسوا نفسية الشعب الجزائري فوجدوها كما قال الله تعالى " وَأَنَّا لَمَسْنَا السمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلْئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشَهَبًا."
تعتبر الثورة التحريرية الجزائرية 1954-1962، واحدة من أكبر وأهم الثورات التحررية التي شهدها العالم في منتصف القرن العشرين، ليس لطول أمدها أو ضخامة نتائجها وانعكاساتها وما حققته من انتصارات عسكرية وحربية تجاه أعتى قوة عسكرية في العالم فحسب، بل لعدالتها وإنسانيتها التي كرستها هذه الثورة منهاجاً ودستوراً لها، من أجل الاهتداء بمعالمه والسير على خطاه في مواثيقها وأدبياتها كما في الممارسات اليومية للمناضلين والمجاهدين، وهو ما تضمنه أول ميثاق إيديولوجي للثورة التحريرية ممثلا في بيان أول نوفمبر 1954. أهم المبادئ والقيم التي حملها أول دستور للدولة الجزائرية، وسعى الى تكريسها في أدبياته المستقبلية وممارساته الميدانية، وهي القيم الإنسانية وإسقاطاتها في مشروع الثورة التحريرية؛ التي وإن كانت مستمدة من تعاليم الشرع الإسلامي ومصادره الأصيلة وأصالة الشعب الجزائري وتقديسه لحريته وكراهيته ورفضه للظلم، فإنها تبقى ذات بعد إنساني يتجاوز الانتماءات السياسية والحدود القطرية وحتى المعتقدات الدينية.
إن هذه الثورة تعتبر رمزا ومثالا حقاً للإنسانية، وذلك رغم ظرفية الحرب والعداء العسكري المتأجج بين طرفي النزاع، إلا أنها الثورة الجزائرية ظلت وفية سائرة على درب الالتزام الأخلاقي و نهج الإحترام الكامل للقوانين الدولية والأعراف الإنسانية، حفاظا على النفس البشرية وتحديدا لفاتورة ضحايا الإنسانية، وذلك ما عٌبَر عنه بجلاء في بيانها التأسيسي الأول من خلال الإظهار والإضمار لقيم العدل والتسامح والحرية والمساواة وغيرها..
تم تجسيدها في يوميات هذه الثورة واقعا معاشا في ممارساتها الميدانية، لتمكن هذه الأخيرة وتؤهلها لتكون أهم وأكبر ثورة إنسانية عرفها تاريخ البشرية طيلة عقود الزمن الطويلة التي شهدتها الجموع البشرية، كما جعلت منها أيضا توسم بوسم" الثورة القدوة "، وذلك بحكم تملكها في ظرف قياسي لمجمل الرأي العام العالمي والدولي، وذاك ما جعل صداها يبلغ حدودا غير معهودة في قارات العالم المختلفة، فضلا عن كونها دليلا ونهجا سارت على خطاه أغلب الحركات التحررية التواقة لنيل كرامتها وحريتها المسلوبة.
فمواثيق الثورة وخاصة الأساسية منها حملت في طياتها الكثير من القيم والمبادئ الدينية والانسانية والحضارية والوطنية...الخ، والتي كانت نبراساً تسير على خطاه الممارسات والأعمال الثورية للمجاهدين الجزائريين.
كان أول نوفمبر ثورة شعبية خر لها جبابرة المستوطنين وجيشهم وحكومتهم في باريس ،وكان أول نوفمبر لهم كما قال سبحانه وتعالى : " وَلَا تَحْسِبَن اللهَ غَافِلاً عَما يَعْمَلُ الظالِمُونَ، إِنمَا يُؤَخرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ"، واستدرج الله الظالمين ليوم أول نوفمبر من حيث لم يكونوا يعلمون، وترى " وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ، يديمون النظر لا يطرفون لحظة لكثرة ما هم فيه من الهول والمخافة لما يحل بهم من شعب قهروه وأذلوه وأبادوه وجهلوه وأفقروه، استنفر الاستعمار الفرنسي كل شياطينه وأدوات الجريمة ليوقف عجلة التاريخ ولكن لم يكن ذلك عن حقد ونزعات شريرة ضد الإنسان الجزائري فقط بل أيضا عن وعي بأن السقوط في امتحان الجزائر يعني السقوط في كل افريقيا، " وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ".
لم تنطلق الثورة الجزائرية المباركة من فراغ أو من العدم، وإنما جاءت تتويجا لمقاومات شعبية طويلة ونضال سياسي طويل، وجاءت جبهة التحرير الوطني كمولود شرعي لتلك المقاومات والنضالات الشعبية الطويلة وإطار مرجعي جامع لهذا الرصيد التاريخي المجيد، مستلهمة الدروس والعبر من سنين الجمر والعذاب التي عاشها الشعب الجزائري برمته تحت قهر أسوأ استعمار استيطاني متوحش بربري، ومن ثم فإن ثورة أول نوفمبر، جاءت امتدادا وتكملة لما سبقها، فكانت بذلك ثورة أول نوفمبر الشعبية أسطورة القرن العشرين، فهي حركة ثورية شعبية تمثل الشعب وتنبع منه لا تقصي أحدا، ولا تشترط في الانضمام إليها إلا تعبيرا وإرادة في التحرر، والهدف تحرير الأرض والإنسان والطاقات والنضالات الحيوية ولا مجال لأي شرط حزبي ولا جهوي ولا حتى عقائدي ديني حتى تتمكن البلاد من استرجاع قيم وهوية وكيان من استشهد من أجلها.
واجهت فرنسا الاستدمارية الثورة ببطش جنوني، وجندت كل وسائلها السافلة لإجهاضها، وفتكت بالمجتمع الجزائري في الأرياف والقرى والمدن، لكي تقمعها كما اعتادت دائما منذ وطئت أقدامها الهمجية أرض الجزائر .. فتحت أبواب السجون الرهيبة وقطعت في المقصلات رؤوس الأحرار الجزائريين وقتلت بالجملة وارتكبت مجازر حرب كثيرة .. وكلما زادت فرنسا من همجيتها زاد الشعب ايمانا بقضيته العادلة مفضلا الشهادة في سبيل الله والوطن على العيش تحت قيود الذل والقهر. ما أتذكره عن ثورتنا العظيمة، حيث وُلِدْتُ قبلها ببضعة أشهر في قبيلة "بني عمران" بضواحي جيجل، في سن الخامسة من عمري بدأت أعي بعض الأمور التي لقنها لنا أباءنا والمجاهدون من أن الفرنسيين شياطين وأنهم حطب جهنم، وكنا ننظر إلى المجاهدين على أنهم ملائكة، وكنا ونحن أطفالا صغارا نتسابق على نقل أخبار العدو لهم وتحركاته، كنا ننقل لهم الغذاء والرسائل ونفتح لهم الطريق، كم كنت أشعر بالسعادة وأنا طفل صغير حينما يأمرني والدي رحمه الله " الذي نال أشد العذاب في سجون العدو " أن أنقل أي شيء للمجاهدين، كانت تلك اللحظات كأنها مسروقة من جنة الفردوس .. طفل صغير يخدم وطنه بكل شرف وثقة .. يا لها من أيام .. كم كانت عظيمة رغم الفقر والجوع ، لم أكن وحدي بل كان كل أطفال قبيلتي يقومون بنفس الشيء وحينما نلتقي نفتخر بذلك وكأننا أبطال حقيقيون قهروا أبالسة الاستعمار الفرنسي.. إن احتكاكنا اليومي بالمجاهدين جعلنا نتأثر بسلوكات ومواقف المجاهدين وبطولاتهم وشجاعتهم وإيمانهم بقضية الشعب الجزائري ، حيث تَوَلد فينا الحقد الشديد على الاستعمار وعساكره الهمجية .. فهناك من الأطفال في سني من تكفل بالاتصال والتعاون مع المجاهدين في القرى والمشاتي والمداشر وتقديم الأكل والشرب لهم وإعداد ما يحتاجون إليه، كما قام بعض الأطفال بمهمة الترصد للخونة وكشفهم .. كم كانت أمهاتنا سعيدات بخدمة الثورة كلهن وكلنا كنا ننتظر أن يخسف الله الأرض بأولئك الوحوش الذين استولوا على أراضينا وقهرونا، ما رسخ جيدا في ذاكرتي أن المجاهدين كانوا يتحركون بكل أمان واطمئنان بيننا، وكنا جميعا في خدمة ثورتنا العظيمة.
استطاع الشعب الجزائري والمجاهدون أن يجعلوا أعظم قوة إمبريالية في القرن العشرين تركع وتستجيب لمطلبه، مخلدا تلك الصورة البهيّة في التاريخ البشري عبر قانون بشري ذهبي مفاده " UN SEUL HEROS LE PEUPLE " "بطل واحد، الشعب". ساهم الأطفال مساهمة فعالة في الثورة في كل المراحل التي سلكتها وهو ما يعكس شعبية ثورة التحرير الجزائرية التي لم تقتصر على فئة معينة، بل عبأت جميع الشرائح الجماهيرية، وكما قال مهندس معركة ديان بيان فو " جياب": " نحن المقاتلون كنا كالسمك وسط الماء".
إن المسؤوليات التي ألقيت على كاهل العائلات الجزائرية خلال الثورة التحريرية كانت كبيرة، مما جعلها تلعب أدوارا أساسية .. كانت كل الأسر تساعد بعضها من أجل خدمة الثورة، ومازالت أتذكر كيف كان والدي يقوم بجمع الأموال من سكان المشتة " بالمناسبة كل دار كانت تدفع شهريا الاشتراك للثورة ، وأقل مبلغ للفقراء والأرامل هو 300 فرنك فرنسي قديم ويرتفع المبلغ حسب دخل العائلة"، ولم تكن أية عائلة تُسْتَثْنَى من ذلك، فالأرامل كن يُربين الدجاج ويبعن البيض لتوفير 300 فرنك شهريا لدفعها للثورة، ومما أتذكره ولا أنساه أبدا أن أرملة أحد أعمامي باعت عجلا نحيفا بمبلغ 3500 فرنك، فجاءها ابن أختها المجاهد وطلب منها 500 فرنك كغرامة مالية للثورة ، فاعترضت بقولها أنها كل شهر تدفع للثورة المبلغ المفروض عليها وسألته لماذا أدفع مبلغا إضافيا للثورة، فقال لها : " يا خالتي إنه القانون الذي يطلب منك أن تدفعي" ، فردت عليه بعفوية : "يا را ...... من أين يعرفني القانون إن لم تكن أنت الذي أخبرته بذلك ؟ ".
استطاعت الثورة بمبادئها وأهدافها وقيمها ونظمها أن تحتضن الأطفال وجميع العائلات الجزائرية برمتها .. كلٌ شارك فيها حسب طاقته باستثناء الأقلية التي أعلنت ولاءها لفرنسا.
أكّد الشعب الجزائري للعالم بأسره أنه شعب يتسم بالوحدة والتضامن والمحبة والتضحية بالنفس والنفيس من أجل سيادته وكرامته ومروءته ورجولته، وهكذا تنافس الجزائريون وتسابقوا للانضمام لصفوف جيش التحرير الوطني وصفوف جبهة التحرير الوطني للدفاع عن العرض والشرف وتحقيق الاستقلال الوطني. وهكذا انضمت مختلف شرائح المجتمع الجزائري إلى جبهة القتال من فلاحين وتجار وعمال وطلاب ونساء وغيرهم.
احتضن الشعب الجزائري ثورته مؤمنا بأنها السبيل الوحيد للحصول على سيادته وكرامته وحريته والتضحية بالغالي والنفيس والإيمان بأن الحرية تُؤْخَذُ ولا تُعْطَى، ولا وجود لأنصاف الحلول، وأن الحديد لا يفلح إلا بالحديد.
وكان استرجاع السيادة الوطنية في 5 جولية 1962 معجزة حقيقية. صنع الشعب الجزائري نموذجا ملهما في القرن العشرين عبر الثورة التحريرية المجيدة في الفاتح من نوفمبر من سنة 1954م، تلك الملحمة التاريخية التي غيرت مجرى العالم الإنساني بإسقاط فرنسا أكبر قوة إمبريالية في القرن العشرين وإعادتها لحجمها الجغرافي المحدود رغم بقاء نفوذها الجيوسياسي في المنطقة، ثورة عظيمة بقدر عظمة شعب أظهر للعالم أجمع ما يمكن أن يقوم به شعب لاستعادة الوطن المسلوب من المستدمر، شعب رسم دربا للعظمة بدماء الشهداء وعبده بأشلاء المليون ونصف المليون شهيد، شعب كتب تاريخا جديدا بتضحياته الجسيمة وروحه القويمة وأهدافه العظيمة فكان بحق قدوة للشعوب المضطهدة القابعة تحت وطأة المستدمر لاسيما عندما شق الشعب الجزائري طريقه نحو الاستقلال بأدواته البسيطة ولكن بروحه الوطنية ووعيه الثوري المجيد جاعلا أعظم قوة إمبريالية في القرن العشرين تركع وتستجيب لمطلب الشعب، مخلدا تلك الصورة البهيّة في التاريخ البشري عبر قانون بشري ذهبي.
يرى بعض الجزائريين وخاصة منهم جيل الشباب الذي ولد بعد استرجاع السيادة الوطنية أنهم خدعوا، وأن الاستقلال الذي نالوه بجبال من الأشلاء، كان استقلالا منقوصا أو مغشوشا، وأن المبادئ التي أعلنها بيان أول نوفمبر الخالد لتفجير الثورة التحريرية، لم يتحقق منها إلا صورة استرجاع الأرض ظاهريا، بينما سقطت بقية الأهداف السامية في واد سحيق من العمالة والخيانة، ويرون أن فرنسا الاستعمارية قد خططت لها بخبث كبير للحفاظ على مصالحها، عبر تكوين نخب موالية، الذين لا يرون أنفسهم خارج دائرة الثقافة والولاء لفرنسا. ففشل عملية التنمية تلك لم يكن حسب رأيهم في نقص الموارد المادية والطاقة البشرية والتي تعتبر الأساس لأي عملية تنموية في المجتمع فالجزائر تحتفظ بموارد مادية وطاقة شبانية ومخزون محروقات يفوق كثير من الدول. وهو ما يطرح تساؤلا مهما عن سبب فشل تلك العملية التنموية وعلاقة المجتمع كأفراد ومؤسسات بتلك العملية وهل كان القائمون على تلك العملية قد وضعوا نصب أعينهم البناء الاجتماعي الجزائري.
إن تعثر التنمية في الجزائر كل هذه العقود من السنوات، جعل شبابنا يتندر على هذه الوضعية المزرية، معلقا على قول السياسيين "إن الجزائر في طريق النمو" و هو قول دأبوا على ترديده منذ 1962 بقوله : " إما أن الطريق طويل جدا، أو أننا أخطأنا الطريق الصحيح" و تندره ذلك هو تعبير عن رفضه لهذا الوضع غير المقبول، و الذي لا يراه معقولا، بالنظر لما يعلمه من امتلاكها لكل متطلبات التنمية الاقتصادية الناجحة، و مع ذلك هو يراها قابعة مكانها لا تنهض و لا تتحرك، ونحن نلمس في هذا التندر نوعا من التهكم الحاد الذي يحمل في طياته نقدا لاذعا للأساليب المتبعة من قبل هؤلاء السياسيين في تسيير شؤون البلاد، مفاده أنهم ليسوا أهلا لقيادة البلاد، لأنهم اختاروا طريقا يستغرق الوقت و يستنفذ الجهد، أو أنهم اختاروا الطريق الخطأ، و في الحالتين الاثنتين يتبين افتقارهم لحسن التدبير، و القدرة على التخطيط والتسيير، لأن من مقتضيات حسن التدبير، اختيار الطريق الأنسب للوصول إلى الأهداف و الغايات في أوجز وقت، و بأقل التكاليف و أيسر الجهود، ومن مقتضيات القدرة على التخطيط و التسيير، أن تكون هناك وسائل وأدوات للمراقبة و القياس، تسمح برصد الأخطاء والتنبه لها في حينها، لتفادي الانحراف عن المسار الصحيح، لا أن تترك الأمور تجري على عواهنها، ليتبين لنا بعد ذلك أننا انحرفنا و سلكنا الطريق الخطأ.
الجزائر الجديدة أو الحلم الجزائري كما يسميه بعضُهم، لا يكفي لتحقيقها انتخاب برلمان جديد أو تسمية حكومة جديدة، ولا تصنعها القرارات والشعارات واللافتات، وإنما تصنعها عقولٌ جديدة، تكرس القطيعة مع كل مظاهر الرداءة والتسيب في تسيير الشأن العام. إن الجزائر الجديدة التي ننشدها هي الجزائر التي تستجيب للمواصفات الآتية:
جزائر الجديدة، يجب أن تقوم على فكر اقتصادي جديد مؤسس على الاستثمار في الطاقات المتجددة التي هي سلاح العصر، إذ من غير المقبول أن تبقى جزائر 2021 رهينة فكر اقتصادي متهالك لم يصلح لإدارة المرحلة السابقة ولا يصلح بيقين لإدارة المرحلة الحالية والمرحلة القادمة. إن الفكر الاقتصادي الجديد المؤسس على الاستثمار في الطاقات المتجددة لا يمكن اختزاله في وجود وزارة للتحول الطاقوي إذا لم تبادر هذه الأخيرة بوضع مخططات اقتصادية مؤسسة ومدروسة في هذا المجال. هناك دولٌ إسلامية نجحت إلى حد بعيد في الاستثمار في مجال التحوّل الطاقوي كما هو الشأن بالنسبة لماليزيا يمكن أن نتخذ منها نموذجا نحتذي به ومرجعية نعتمد عليها في الجزائر الجديدة من أجل تطوير الاقتصاد الوطني ولكن وفق ما تقتضيه الحالة الجزائرية، لأن استنساخ تجربة اقتصادية وُجدت لبيئتها ومحاولة توطينها على علاتها في الجزائر يعد تقزيما لدور العقل الجزائري.
الجزائر الجديدة، يجب أن تقوم كذلك على إصلاح السياسة المالية وفي مقدمتها إعادة الاعتبار للعملة الوطنية التي هي رمز من رموز السيادة الوطنية شأنها في ذلك شأن العلم الوطني. إن إعادة الاعتبار للعملة الوطنية لا يتحقق إلا بتحسين قيمتها التداولية في السوق النقدية وهذه الأخيرة لا تتحقق إلا بالانتقال من الاقتصاد الاستهلاكي إلى الاقتصاد المنتج ومن تغليب تجارة الصادرات على تجارة الواردات، وهذا أمر بعيد المنال ولكنه غير مستحيل إذا توافرت إرادة التغيير الحقيقي.
الجزائر الجديدة، يجب إبعاد الحرس القديم من التسيير وهو الذي كان سببا - بطريقة أو بأخرى - في الأزمة التي تعيشها الجزائر فالقاعدة أن "من كان سببا في المشكلة لا يمكن أن يكون جزءا من الحل"،
الجزائر الجديدة، تميزها مؤسساتٌ علمية رصينة، تحرص على تشجيع الإبداع وبراءات الاختراع وتنتقي لمخابر البحث العلمي أحسن الكفاءات والإطارات المشهود لها بالتميز، والتي تمثل قيمة مضافة لا غنى عنها لإصلاح وتطوير المنظومة المعرفية التي تشكل الجامعة قاطرتها الأولى. إن أعلى الميزانيات في العالم المتقدم تُعطى لقطاعين: قطاع البحث العلمي وقطاع الدفاع الوطني، وينبغي أن نسير في الجزائر الجديدة وفق هذا التوجه؛ فالبحث العلمي يمثل حصنا منيعا ضد استمرار الإخفاقات الاقتصادية، والدفاع الوطني يمثل حصنا منيعا ضد الاعتداءات التي تستهدف حدودنا ووجودنا.
الجزائر الجديدة، تميزها مؤسسة إعلامية قوية، قادرة على رفع التحدي ومقاومة الدعاية والتضليل الإعلامي اللذين يمارسهما الإعلام الغربي الذي يحوِّل الإخفاقات إلى انتصارات في الوقت الذي يحول فيه إعلامنا في بعض الأحيان - ولو عن حسن نية - الانتصارات إلى إخفاقات بما يثيره من تأويلات وقراءات متناقضة.
الجزائر الجديدة، تسير فيها مسألة الحريات جنبا إلى جنب مع مسألة التحرر من التبعية الغذائية والصناعية، فليس من المقبول بمنطق الجزائر الجديدة أن تتحول الجزائر التي كانت إلى عهد سابق سلة المغرب العربي أو سلة الوطن العربي مع السودان في الإنتاج الزراعي إلى مستورد للقمح الفرنسي.
الجزائر الجديدة، هي التي تسير فيها المطالبة بالحقوق جنبا إلى جنب مع أداء الواجبات.
ليبارك الله جزائرنا الحبيبة
المجد والخلود لشهدائنا الأبرار.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأرمن في لبنان يحافظون على تراثهم وتاريخهم ولغتهم


.. انزعاج أميركي من -مقابر جماعية- في غزة..




.. أوكرانيا تستقبل أول دفعة من المساعدات العسكرية الأميركية


.. انتقادات واسعة ضد رئيسة جامعة كولومبيا نعمت شفيق لاستدعائها




.. -أحارب بريشتي-.. جدارية على ركام مبنى مدمر في غزة