الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كتاب -تشريح الثورة-: دراسة للثورات وأسباب حدوثها

صلاح الدين ياسين
باحث

(Salaheddine Yassine)

2022 / 11 / 6
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


كتاب من تأليف المؤرخ الأمريكي الراحل "كرين برينتن" (1898-1968)، ويُعد مؤلفه هذا من أبرز الأدبيات التي عُنيت بمحاولة تفسير الثورات وسبر أغوارها. وبمنأى عن التعريفات المتضاربة لمفهوم الثورة، فنقصد بها عمومًا "حدوث تحول أو تغيير جذري على الصعيد السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي... إلخ"، ومن ثم فإن حدوث ثورة لا يتطلب بالضرورة الإطاحة بحكومة قائمة من جراء انتفاضة شعبية، بالنظر إلى إمكانية انبثاقها (= الثورة) من صلب المنظومة الحاكمة نفسها كثورة الميجي باليابان خلال النصف الثاني من القرن 19. غير أن المؤلف ركز دراسته في هذا العمل على المفهوم الضيق للثورات، الذي نعني به "الاستبدال العنيف والمفاجئ لطبقة حاكمة بطبقة حاكمة أخرى"، بالاستناد إلى أربعة نماذج رئيسية: الثورة الإنجليزية (1640)، الثورة الأمريكية (1775)، الثورة الفرنسية (1789)، الثورة الروسية (1917).
الإرهاصات الأولية لحدوث الثورات
أورد الكاتب جملة من العلامات الأولية لحدوث الثورات، وفي مقدمتها جوانب الضعف الاقتصادية والمالية التي تعاني منها الحكومات، فقد شكل الصراع على الضرائب بين أسرة آل ستيوارت الحاكمة والبرلمان الإنجليزي، الذي يتألف في جله من النبلاء أحد أهم عوامل حدوث الثورة الإنجليزية. وفي نفس المنحى، يجادل بعض المؤرخين بأن الدافع الأساسي للآباء المؤسسين للولايات المتحدة كان اقتصاديًا وماليًا (بحكم انتمائهم إلى فئة التجار)، في الوقت الذي يقللون فيه من تأثير الإيديولوجيا والقيم في الثورة الأمريكية القومية. وفي المقابل يرفض الكاتب تبني وجهة النظر القائلة بأن أوضاع البؤس الاجتماعي تعد مؤشرًا حاسمًا على نشوب الثورة، بينما يشدد على عامل شعور الفئات الموسرة اقتصاديًا (كالتجار والأغنياء) بأن الظروف القائمة تعيق نشاطهم الاقتصادي ومكاسبهم المادية.
كما لا يَذهَل الكاتب عن عامل تحول ولاء المفكرين الذي يهيئ لحدوث الثورات، فالثورة الفرنسية مدينة إلى حد بعيد لإسهامات فلاسفة عصر التنوير الفكرية، على غرار فولتير وروسو ومونتيسكيو، وهو ما ينسحب أيضا على الثورة الروسية التي تدين بالفضل إلى الأدب الروسي، وخاصةً في أواخر القرن 19 وبدايات القرن 20، لكونه حرص على تعرية مكامن الخلل بالمجتمع القيصري التقليدي في روسيا. ولعل أكبر إسهام للمفكرين يتجسد في توفيرهم ما يمكن تسميته ب "إغراء المثل الأعلى الثوري"، بواسطة رسم حدود فاصلة بين المجتمع المنشود الذي تتحقق فيه المُثل الثورية والواقع المزعج والمعيب.
وإلى جانب ذلك، يَبرز التفسير الطبقي لحدوث الثورات، والذي يحيل إلى بعدين أساسيين، أولهما إمكانية حدوث انقسامات داخل الطبقة الحاكمة نفسها نتيجة لتكون شعور لدى بعض أفرادها بالتعاطف مع المطالب الثورية، أو بدافع براغماتي صرف حين تعزز المؤشرات القائمة فرضية انتصار الثورة وسقوط الطبقة الحاكمة. أما البعد الثاني فهو العداوات الطبقية أو الصراع بين الطبقات بلغة الأدبيات الماركسية، والذي يبلغ ذروته عند انسداد إمكانية الحراك الاجتماعي، حين لا تكون المهن والفرص مفتوحة أمام أصحاب المواهب، وإنما يشغلها فقط ذوو الأصول الاجتماعية النبيلة، مما يفسر العداء الذي كان يكنه البورجوازيون للأرستقراطيين المالكين للأراضي.
دوافع القادة الثوريين وتدرج السيرورة الثورية
في معرض تمحيصه للخلفية الاجتماعية لقادة تلك الثورات الأربع، يدحض الكاتب المسلمة التي مفادها أن الثورات تخرج من رحم الطبقات المسحوقة أو ما يسميه بعضهم ب "الرعاع"، فهؤلاء وإنْ كانوا يُعدون وقودًا للثورة، فإنهم لا يصنعونها، الأمر الذي ينطبق أيضًا على العديد من قادة الثورة الروسية التي يسبغ عليها البعض طابعا بروليتاريا مثل "لينين"، الذي كان أبوه يشغل وظيفة مرموقة في المجتمع القيصري. كما لا يستبعد الكاتب دافع المثالية المخلصة عن القادة الثوريين، الذين يتوقون إلى بناء مجتمع مغاير للأوضاع القائمة طبقا لمثلهم الثورية. هذا دون إغفال الدافع السيكولوجي، الذي يفيد أن الانخراط في الثورة قد يكون آلية تعويضية عن الفشل في بلوغ الطموحات والأهداف الشخصية في مجتمع ما قبل الثورة، حتى يتحقق الإشباع الشخصي لصاحبه.
وإضافةً إلى ما سلف ذكره، تشترك تلك الثورات في معظمها في تدرج سيرورتها الثورية. فبعد سقوط الطبقة الحاكمة القديمة، يتولى الجناح المعتدل في الثورة زمام الحكم، غير أنه غالبًا ما يجد في مواجهته حكومة موازية يشكلها المتطرفون، الذين تكون لهم الغلبة لعدة اعتبارات، لعل أهمها السمعة السيئة التي يكتسبها المعتدلون والناجمة عن وراثة مؤسسات وموارد النظام القديم، فضلا عن استعصاء اللجوء إلى القمع ضد المتطرفين، بالنظر إلى جو الانفتاح السياسي الذي يطبع بداية العهد الجديد، ناهيك بعجزهم عن مسايرة ظروف الحرب الداخلية أو الخارجية، والتي تتطلب إدارة مركزية قوية قادرة على فرض الانضباط والولاء الضروريين، وهو ما يبدو أكثر وضوحا في الثورتين الفرنسية والروسية.
وتبعا لذلك، يفضي إزاحة المعتدلين وانقضاض المتطرفين على الحكم إلى انبثاق ما يمكن تسميته ب "عصر الإرهاب"، ولعل ما يميز المتطرفين هو تعصبهم ومثاليتهم، إذ يشرعون بهمة عالية في محاربة ما يصفونه ب "الرذائل الموروثة عن المجتمع القديم"، وهو ما جسده "روبيسبيار" بفرنسا، والشيوعيون في روسيا، الذين شرعوا في تغيير العادات المسيحية والتقليدية للمجتمع القيصري القديم، وغرس العقيدة الشيوعية في الأجيال الناشئة. بيد أن حكم المتطرفين يلقي بضغوط يصعب تحملها على الناس العاديين، الذين تُنتَهك خصوصيتهم وعاداتهم اليومية البسيطة، الشيء الذي يجعل نهاية حكم المتطرفين برأي الكاتب حتمية، إذ سرعان ما يستعيد القادة العمليون زمام المبادرة كما حدث مع نابليون بفرنسا.
وفي الختام، ينتهي الكاتب إلى أن الثورات تميل شيئا فشيئا إلى أن تخلع عن نفسها رداء الراديكالية والإيمان الأعمى بالقيم المثالية، إذ تتحول الشعارات الثورية التي كانت فيما قبل وسائل تعبئة فعالة للجماهير إلى مجرد رموز وطقوس وطنية يُحتفى بها، على غرار شعار "الحرية والمساواة والإخاء"، الذي رفعته الثورة الفرنسية، ووعد قادة الثورة الروسية بالمجتمع اللاطبقي. غير أن المؤلف لا ينكر في المقابل التغييرات الإيجابية الناجمة عن الثورات، التي تَدين لها المجتمعات الغربية الحالية بالفضل في كونها منحتها الأمل بقيام مجتمع أفضل، تتحسن فيه أوضاعها المادية وحقوقها المعنوية. كما ينتقد "برينتن" المدرسة الأمريكية التي تنزع إلى تضخيم الدافع الفردي والعقلاني في حدوث الثورات (الذي يعتبرها نتاج تراكم مظالم فردية ناجمة عن البؤس الاجتماعي)، في مقابل إهمالها للدوافع الأخرى، مثل الشعور بالكرامة والكبرياء، والنزعة القومية... إلخ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهاجمة وزير الأمن القومي الإسرائيلي بن غفير وانقاذه بأعجوبة


.. باريس سان جيرمان على بعد خطوة من إحرازه لقب الدوري الفرنسي ل




.. الدوري الإنكليزي: آمال ليفربول باللقب تصاب بنكسة بعد خسارته


.. شاهد رد مايك جونسون رئيس مجلس النواب الأمريكي عن مقتل أطفال




.. مظاهرة أمام شركة أسلحة في السويد تصدر معدات لإسرائيل