الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكايات عادية جدا، الحكاية الحادية عشر: جريمة ميتافيزيقية

إدريس الخلوفي
أستاذ باحث

(Lakhloufi Driss)

2022 / 11 / 9
الادب والفن


حكايات عادية جدا، الحكاية الحادية عشر. جريمة ميتافيزيقية.
منذ تلك الليلة، جفى النوم مقلتي العربي، ولم يعد قادرا على استقبال زواره، قلت شهيته، وأصيب بسقم شحب معه لونه، وأحيطت عينيه بهالة سوداء من قلة نومه، كان التفكير في آخر لقاء له مع عصابة الكنز لا يفارقه، أسئلة كثيرة كانت تندفع متزاحمة في رأسه: هل أهرب؟ لكن كيف لي بالهروب وقد وضعوا حراسا يراقبونني ليل نهار؟ هل أستسلم لهم وأقترف الجريمة؟ وهل سيناولونني حصتي من الكنز إذا كان هناك كنز؟ ماذا لو ذبحنا الصبي ولم نجد كنزا؟ هل تذهب روحه سدى؟ وحتى لو كان هناك كنز، هل هو أغلى من روح صبي لا يعلم شيئا في هذه الدنيا؟ وكيف سيكون حال والديه بعد فقدانه؟ خصوصا والدته التي تعتبره النور الذي تبصر به؟ كان العربي يقضي الليالي هكذا متسائلا، حتى إذا أثقل الكرى جفنيه، استسلم لنوم مضطرب مليء بالكوابيس المزعجة، فتارة يرى أمه معلقة من قدميها في حفرة مليئة بالثعابين وهي تنهش عينيها، وتارة يرى والده يصرخ والنيران تخرج من بطنه ورئتيه، فيستفيق العربي مدعورا والعرق يتصبب من جبينه، وقلبه يكاد يخرج من قفصه الصدري من كثرة الوجيب.
كان الوقت يمر سريعا، وكل ليلة يطل العربي من نافذة بيته يتطلع إلى السماء ليرى هل أوشك القمر على الاكتمال، وكلما ازداد حجم القمر، ازداد صدر العربي ضيقا وغما، كان يفكر دائما في الصبي ذي الخمس سنوات، كانت صورته لا تفارق مخيلة العربي، وإن كان رآه مرة واحدة، عندما كان رفقة السائق، كان الصبي مع والدته يتناول قطعة حلوى ويقفز فرحا غير آبه بالدنيا التي لم يخبر منها إلا لحظات لهو، وحب والديه، وبضع آلام تدور في فلك الغريزة، لم يكن يعلم ما تبطن له الأيام.
بينما كان العربي غارقا في تأملاته الليلية، يقلب صفحات كتاب حياته، وكيف انتهى به المطاف على ما هو عليه، سمع صوت مفتاح يتم إدخاله من فتحة القفل بالباب الخارجي، وقف مدعورا وهو لا يدري ما الذي عليه فعله، لم يطل الأمر كثيرا، فلا حاجة له بالتفكير، فتح الباب وظهر ثلاثة رجال شداد غلاظ، ملثمين بأقنعة لا تظهر منها إلا عيونهم، تسمر العربي مكانه دون مقاومة، فهو كان يعرف أن هذه اللحظة قادمة لا ريب فيها، وكأنه كان يعد نفسه لها، سلم نفسه دون مقاومة، أمسك اثنين من الرجال بساعدي العربي، بينما وقف الثالث أمامه موجها تعليماته: اسمع يا أخ العربي، أظن أنك تعلم ما عليك فعله وما أنت مقبل عليه، إن الأمر في غاية الأهمية، خصوصا بالنسبة لكبار القوم، أقصد رئيس الأمن وباقي الجماعة، لو أبديت اي مقاومة، بل حتى لو فكرت فيها، فلدينا أوامر بتصفيتك، نحن لا نريد ذلك طبعا، وأنت تعلم ذلك، لكن إن أجبرتنا فلن نتردد لحظة، وختم كلامه قائلا: هل الأمر مفهوم؟ هز العربي رأسه بالإيجاب، لأن لسانه كان قد تجمد في فمه من هول المشهد.
وضعوا كيسها أسود على رأسه، ونزلوا به في السلالم، بعد ذلك سمع صوت باب السيارة يفتح، قاموا بإركابه، وجلس واحد منهم على يمينه، والثاني على يساره بينما تكلف الثالث بالسياقة، وبعد لحظة، سمع صوت المحرك، لتنطلق السيارة بسرعة جنونية.
قطعت السيارة المسافة بين البيت والضريح خلال دقائق معدودات، فجأة توقفت السيارة، وفتح الباب: تفضل يا سي العربي، الصوت مألوف، قال العربي بينه وبين نفسه، نعم إنه صوت رئيس الأمن. وإلى جانب الرئيس، كانت تسمع وشوشات اصوات هامسة، ورائحة بخور تزكم الأنوف. صاح الرئيس: انزعوا الكيس عن رأس عزيزنا العربي. قام الحارسان بنزع الكيس، وبدأ يتفقد المشهد من حوله تدريجيا مع استعادة عينيه القدرة على الرؤية والتأقلم مع الإضاءة التي كانت منبعثة من مجموعة من الشموع التي رتبت على شكل نجمة سداسية كبيرة، وبوسطها مجمر ينبعث منه دخان بخور، والفقيه سي عبد السلام يمسك بالصبي ذي الخمس سنوات، وهو منزوع الثياب، مكبل اليدين والرجلين، وعلى فمه شريط لاصق لكتم الصراخ، كانت عينا الصبي شاخصتان، وقلبه الصغير يخفق بشدة لدرجة انه يكاد بخرج من قفصه الصدري، ارتعدت ركبتا العربي لهذا المشهد، وجف الريق في حلقه، يا إلاهي، أي ورطة أنا فيها، هل ارتكبت جرما تعاقبني عنه؟ لأن اذبح نفسي وانتحر أهون علي ألف مرة من ذبح هذا الملاك الصغير، يا لعينيه البريئتين.
نظر سي عبد السلام إلى السماء، كان القمر في وسط السماء، مستديرا كاملا لامع الإنارة، نظر إلى الحاضرين وقال: إنها اللحظة المناسبة، نظر إلى رئيس الأمن قائلا، أخرج العدة، وفي الحين فتح الرئيس محفظة جلدية، وأخرج منها سكينا كبيرا مسنونا بعناية، يلمع تحت ضوء القمر، وتناول السكين للعربي وهو يقول: هيا يا رجل، تشجع ولا تكن جبانا، ما هي إلا لحظات وينتهي كل شيء، تأخذ حصتك من الكنز وتغادر، أحس العربي بركبتيه ترتجفان، فلم يقوى على الوقوف، وخر على ركبتيه، أمسك به الخاسرين من كتفيه وجدباه نحو الأعلى، في نفس الوقت صاح رئيس الأمن: هيا قف ودعك من أفعال الأطفال الصغار، وضع قبضة السكين في يد العربي وأجبره على الإمساك به، ووجه له ركلة بحدائه العسكري الضخم كادت ساقه أن تنكسر من قوتها.
أمسك العربي السكين بيد مرتجفة فسقطت منه على الأرض، هنا ثارت ثائرة الرئيس فأخرج مسدسه ووضعه على رأس العربي وقال: إما تذبح الصبي أو أفرغ المسدس في رأسك.
أيقن العربي أن لا مفر، فالتقط السكين، اقترب به من عنق الصبي، متفاديا النظر في عينيه، لكن وكأن قوة داخلية لاشعورية دفعته بتأمل عيني الصبي، كانت حدقتاه واسعتين، بعينين بريئتين تختزلان ألف معنى للرعب والهلع، وكانت وتيرة أنفسهم سريعة، أنفه الصغير كأنف أرنب، وبينما غرق العربي في تأملاته الداخلية، وتمثلاته عن مشاعر الصبي وأحاسيسه، عيل صبر حارس الأمن، وأمسك بساعد العربي بقوة، وضغط على عنق الحمل الوديع، فتدفق شلال أحمر قاني، تم الأمر، استمرت عينا الصبي محدقة بعيني العربي، ودار بينهما حوار صامت، فهم منه العربي أن الصبي يسأله: بأي ذنب؟ قرأ في عيني الصبي أفكاره البريئة وأحلامه المجهضة، سمع همسا منبعثا من أعماق عينيه يقول: " سأخبر الله بكل ما فعلتم".
أما العربي فكان يناجي الصغير بصمت: سامحني يا صغيري فلم يكن لدي خيار آخر.
انقطع حبل التواصل بينهما، غادر الصبي إلى مستقره الاخير، وسقط العربي مغميا عليه.
بدأ الفقيه سي عبد السلام في طقوس استخراج الكنز، رسم طلاسم سحرية على جثة الطفل، وشق بطنه، بعد ذلك وضع قضيبا خشبية بين طرفي البطن حتى يظل منفتحا، تماما كما نفتح بطن اضحية العيد حتى يجف اللحم دون تعفن، وأخد فأسا وشرع في الحفر وهو يردد تعويدات غير مفهومة.
استمر الوضع زهاء الساعة، لكن لم يعثروا على أي أثر للكنز، تبادلوا نظرات صامتة، هنا كان العربي قد بدأ يستعيد وعيه، سمع الفقيه وهو يخبر الآخرين: ملك الجن رفض التخلي عن الكنز. رد عمدة المدينة: ولماذا؟ لقد أعطيناه القربان الذي طلب. قاطعه الفقيه: يا أغبياء، لم تحضروا الصبي المطلوب، بل أحضرتم ابن عمه، لقد ذبحنا الصبي الخطأ.
عندئذ صاح رئيس الأمن، فلنتخلص من الجثة، واحرصوا على الاحتفاظ بالعربي في مكان آمن حتى يذبح الصبي الآخر في الشهر المقبل.
ما إن سمع العربي هذا الكلام حتى تنبه بشكل كامل، وكأن أحدهم أفرغ على جسده دلو ماء بارد، تأمل الجماعة، فوجد أنهم شاردين بين مصدوم، ومتحسر على ضياع الكنز، ومنشغل بإخفاء الجثة، فزحف على بطنه محاولا الابتعاد عنهم، وفي غفلة من الجميع، تسلل إلى الغابة المجاورة وأطلق ساقيه للريح مسترشدا بضوء القمر، وبالبداهة التي تربت فيه طيلة حياته التي قضاها وسط الجبال.
بعد أن تأكد أنه في مأمن، جلس ليلتقط انفاسه، وبدأ يسائل نفسه: هل أنا مجرم؟ هل أنا قاتل؟ نعم لقد كان السكين بيدي، لكن لست من ضغط على عنق الصبي بل رئيس الأمن، لكن من سيحاسب الله على القتل، أنا أم رئيس الأمن؟ لقد كان بإمكاني الرفض وتقبل فكرة قتلي من طرف رئيس الأمن، لكنني جبان، خفت الموت، لقد كان الصبي أشجع مني، لكن أنا قتلت رغما عني، فرجل الأمن هو من ضغط على يدي، فهل أنا نصف مجرم؟ وهل يوجد أنصاف المجرمين؟ وهل توجد نصف جريمة، أم ان الجريمة كلا لا يقبل التجزيىء؟
فجأة تفطن العربي إلى أن ما وقع قد وقع وعليه أن يغادر هذه البلدة المشؤومة فورا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81


.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد




.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه