الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فيلم (Nomadland) والسلحفاة التي تحمل بيتها على ظهرها وتسافر

هاله ابوليل

2022 / 11 / 9
الادب والفن


ليس هناك ما هو اجمل من أن تقرأ عن شيء في كتاب ثم تشاهده في لقطة في فيلم بعد القراءة مباشرة.
فبعد غياب التوصيات السينمائية لافلام تستحق المشاهدة , لجأت الى غوغل لمساعدتي في معرفة افلام حصلت على الاوسكار
فحصلت على اسم هذا الفيلم * وهو اسم شاحنتها المتنقلة
وشاهدته.
و كنت لتوي قد انتهيت من قراءه كتاب* من سلسلة عالم المعرفة "عصر مظلم جديد " وكان المؤلف يتحدث فيه عن عالم الكمبيوتر عندما كان بحجم كنت تعيش فيه الى عصر اصبحت تحتضنه في احضانك وينام معك على السرير باعثا موسيقى beginning belalim الشجية بدلا من زوج يشخر من كرشه معك حتى الصباح.
الكتاب يتحدث عن عصر الكمبيوتر في بداياته لدرجة أنه اعتبر أن سرب طيور مهاجرة بوصفها اساطيل قاذفات سوفياتية قادمة للهجوم على منشآتهم العسكرية
وصولا للتقريب بالمحاكاة والطيران التجاري و نظام تحديد المواقع العالمي والبقاع العمياء للحوسبة وانترنت الأشياء والاساور الذكية وعالم ميراي وستوكسنت والعنف التقني والتلاعب بالخوارزميات في انهيار اسواق الأسهم و التلاعبات التي تحدث في نظام الملاحة والانحياز التأكيدي بحيث نصبح عبيد للتقنية , بحيث نتجاهل تماما المشاهدات التي تتعارض مع وجهة نظر الألة , كما حصل مع السياح اليابانيين التي كانت تحاول الوصول الى جزر استراليا
ولكنهم قادوا سيارتهم إلى احد الشواطىء , ومن ثم الى قلب البحر مباشرة, لأن نظام التوجيه عبر الأقمار الإصطناعية اكد لهم وجود طريق صالح"
لقد تم وصف مثل تلك الحوادث بمسمى
"Death by GPS "
الموت بـالـ جي بي إس

والكتاب يتحدث عن عالم امازون ومستودعاتها الضخمة
وكيف ان العاملين فيها تحولوا الى روبوتات آليه
وكيف ان تنظيم البضائع في مستودعاتها الضخمة بحجم تسعة ملاعب كرة قدم : ترتب بطريقة لا تتوافق مع التفكير البشري بل حسب طلبات المشترين .
كانت تصف لنا العامل" وهم يلبسون سترات برتقالية قصيرة ويدفعون العربات بين الممرات الفاصلة بين خزائن الارفف , فيكدسونها بكل انواع السلع ".
فهو ينقل البضاعة وهو يحمل جهاز الكشف ويتحرك حسب الاسهم الارضية التي تعتمد على تقنية لوجستية تسمى التخزين الفوضوي فالتخزين يتم تبعا للحاجة ولاتصالها بالبضائع الآخرى لا وفق نوعها
فقد ترى الكتب مكدسة فوق ارفف قريبة من دمى الأطفال , فالمهم ان تحمل ماسح لشيفرة التعرف معزز بشبكة انترنت لاسلكية والحاسوب الذي يوصلك اليها ."ان اختزال العمال الى خوارزميات من دم ولحم نفعها الوحيد هو قدرتها على الحركة واتباع الاوامر يجعل توظيفهم وطردهم وممارسة التعسف ضدهم اسهل ".
لاعلاقات دافئة بين العمال ولا نكات ترمى على عجل الكل يعمل حسب ما يأمره الجهاز بفعله
وهذا الجهاز وحده يحصي له تنفسه وخطواته
فاذا توقفت لقضاء الحاجة فهو يحسب الوقت الذي اضاعه بدقة متناهية تدعو للتقزز.
كل شيء مبرمج ومحسوب فالمهم ان تتبع تقدم العامل وتتأكد انه يغطي مساحة كافية
تصل الى 15 ميل كل يوم .
لا شيء يضيع في تلك المستودعات الضخمة التي تخرج منها كل 3 دقائق شاحنة محملة بالبضائع
هذا هو احد العوالم المظلمة التي تنشرها التقنية وتحاول السيطرة علينا ؛ حيث عالم الارقام لا عالم الارواح والانفس التي تتحرك وتمرض وتعاني وتبكي احيانا من التعب والمرض.
عالم يخلو من الرحمة والشفقة والتعاطف
فاذا مرضت فأنت مطرود فلا أحد يحب ان يتحمل تكلفة شخص مريض لينفق عليه
انه عالم رقمي ينقل لك البضائع بدون أن يتساءل
يا ترى لماذا يريد هذا الرجل أن يشتري هذا المنتج التافه !
تحدث الكتاب عن اشياء كثيرة عن حوادث حصلت عن الاستخدام الخاطىء لجهاز الـ ( GPS) وكيف ان هذا الجهاز قد اردى عائلة يابانية اتبعت خطواته بحذافيرها بدون الانتباه لاشارات الطريق .
هذه الثقة الزائدة بصحة التقنية وموثوقيتها جعلتهم ضحايا لها , فالارتهان بالثقة المفرطة قد يؤدي لوقوعك في الخطر .
المهم كان الفيلم الذي حضرته يتحدث عن سيدة ستينية خسرت زوجها وبيتها, فاشترت شاحنة مهترئة على شكل بيت متنقل وبدات مسيرة تشردها عبر الولايات المتحدة .وكانت من اجل الحصول على المال تشتغل في مستودعات امازون الضخمة في النقل والتحميل . وكانت ترتدي نفس السترة وتتحرك بنفس الجهاز الماسح للتعرف على البضائع ؛
عمال متعبون يعملون لساعات متواصلة يحصون عليهم تنفسهم واوقات راحتهم
عالم يجعلهم اشبه بالآلات فلو تخلفوا لجلبوا لهم روبوتات كيفا Kiva تتدحرج من دون كلل حول السلع ولديها قدرة على رفع الاحمال الثقيلة
والأجمل انها لا تدعي المرض أو تشكو من التعب أو الارهاق أو مشاعر الغضب ولا تاخذ اجازات امومة ولا اجازات مرضيّة ولا سنوية حتى .
حصل الفيلم على اوسكار رغم كل الكآبة التي اشاعها في الجو وكانت معظم احداثه تخلو من اي حيوية كان كئيبا ومتعبا جدا للروح التي هي بالأصل روح متعبة منذ الصغر .
فتعجبت من مذاق لجنة الاوسكار التي باتت قاتمة للغاية في اختيار افلامها
ليس لأن الفيلم كئيب للغاية بل لأنه يخلو من اي متعة ترافق سائقي الشاحنات التي تسير على الطرقات الوئيدة التي كنا نتخيّلها
وربما فاز بها لأنه يكشف الجانب المظلم لجوالي الطرق الفقراء الذين لم نسمع عنهم سابقا.
ففي طفولتي سافرت مع والدي في رحلة برية لبغداد في طريقنا لنقل شحنة خضروات الى الكويت وفي البصرة على الضفة الغربية لشط العرب كنت ادخل للقوارب والسفن والبواخر واخرج منها مثل شبح متنقل .
كانت طريقا برية صحراوية طويلة ولكني كطفلة لم تبلغ العشر سنوات من عمرها كانت تلك من اجمل رحلات حياتي .
كنا نأكل الجبن والبطيخ تحت عجلات الشاحنة لكي تضللنا من حر الشمس , وعندما وصلنا بغداد استخدمت علو الشاحنة لأقطف رطب من نخلة سامقة تتدلى حباتها الذهبية بنشوة وحشية تعانق السماء ذكريات لا تنسى
تحفر عميقا بداخلك بلا هوادة ولا تتركك أبدا .
فالسفر اجمالا هو بمثابة مكافأة تمنحها الحياة للمحظوظين
فلا اتعس من ان يعيش الانسان في بقعة ارضية للأبد
فمن قال لك :انك شجرة
ويجب أن تظل في مكانك
انت بشري وليس كائن جماد
بشري عاش كله حياته مرتحلا في ارجاء المعمورة حاملا اشياءه القليلة متجولا في العالم , لذا لا يوجد اجمل من حياة البدو والغجر الرحالة
فكل الاراضي لهم
كل البوادي وكل الهضاب وكل الارض وكل السماء والبحار
جيران لك لا يتغيرون ولا يتقلبون ولا يتشاجرون .
واحيانا قد يتحول السفر الى رحلة للتطهر مثلما فعل تشيخوف عندما سافر الى سخالين
او حج قصد منه التطهر او سياحة فكرية واسعة المدى والنطاق والتجوال بحرية , فلو اقتصرت حياة البشر على ما نحتاجه من طعام وشراب فقط لأصبحت حياة البهائم افضل منا .
السفر والتنقل والتجوال تجربة بشرية لا ينالها إلا المحظوظين في الحياة
وما رحلة الخيميائي بحثا عن الكنز إلا رحلة السعي والحركة والتجوال و كنز الترحال والطريق التي شقها والساعات التي قضاها في رؤية هذا العالم القصي والبعيد؛
لقد كانت رحلة التجوال للتعلم والتثقف
فالكنز هو الرحلة نفسها
وليس الكنز الذي تركه في كنيسة بلاده حيث كانت ترعى اغنامه وتبول فوق الكنز المدفون .
ولذلك كان هذا الفيلم يبدو لي كئيبا لأنه يرصد حياة شقاء وتعب لسيدة مسنة حزينة ولظروف حياتها التي تغيرت , واصبحت بلا مأوى فتعيش في شاحنة متنقلة .
كانت تجتر ذكرياتها معها خلال الرحلة
ورغم ان فرويد الذي يعتبر من فلاسفة العصر الحجري البائد يقول عن استعادة الذكريات في يوم من الايام وحتما سيحدث للكل هذا الاجترار المفاجىء.
" فيفاجئك ان سنوات المشقة كانت اجمل سنوات حياتك " ولكن هذا ينفع في قصة فتاة الهايك , لا عجوز الشاحنة المتنقلة الذي يعتبر فيه اجترار الذكريات عبء اضافي يثقل كاهليها
..ففي هذه السن المتقدمة اي بعد الستين
اذا لم تكن رحلتك لمجرد الرحلة والتجوال الحر
بدون مشقة البحث عن لقمة العيش , فهي مآساة
ففي هذه السن المتقدمة يحتاج المسنين للراحة واللإرتياح المالي المعزز للثقة بعدم الخوف من تقلبات الحياة وكسر ما تبقى لك من كرامة ؛ صحيح ان إرادة الصمود والإصرار لمتابعة سيرنا المحتوم نحو الموت الذي لانعرف له وقتا ؛يعتبر انجازا عظيما , ولكنه صعب اذا لم يكن لك مكان تأوي إليه في آخر المطاف
يقول بهلول الملك لير:
"بورك من له منزل يضع رأسه فيه"
حياة سيدة مسنة تطارد ما تبقى من عمر وهي تتجول في البلاد , لا تملك شروى نقير لدرجة أنها تتجول بدون أن يكون معها إطار أو عجل اضافي للسيارة في حالة الطوارىء) حياة متنقلة مليئة بالعوز والمشقة , فهي ليست رحلة شاحنة للتجول في ارجاء البلاد على وقع موسيقى الفراغ والاستمتاع به , بل رحلة هوملس(homeless) لا يوجد لها بيت تقضي فيه شيخوختها وليس لديها مال لتعيش بكرامة بدون أن تمد يديها للغير .
المهم ظهرت , تلك المرآة وهي تعمل في مستودعات امازون الضخمة وهي تحمل ذلك الجهازالماسح للبضائع وقد عملت في محجر للصخور واحبت الصخور رغم ان حياتها تفلق الصخر من قسوتها وعملت وعملت لدرجة أنك تشفق على نفسك
فيما لو تعرضت شيخوختك لكل هذا الذل وهذا الحرمان الطبيعي لشيخوخة كان ينبغي ان تمر رائقة وشفافة وهادئة .
لا اكذبكم خبرا ؛ فقد كان حلم حياتي ان يكون لي شاحنة متنقلة فيها سريري وكتبي وموسيقاي وليلاي والنجوم اللامعة في كبد السماء المظلمة ومصادقة القمر والثرثرة معه ,
اجول بها البلاد كسائحة صحفية, اتجول واكتب وانشر (ربما ساندي ؛فيلم الكارتون الجميل في طفولتنا له جزء من هذا الشغف وربما رحلة ابي البرية الطويلة لها ايضا جزء اصيل في حب التجوال لدرجة اني كنت اريد ان اشتري تلك الشاحنة المتنقلة بسريرها وحمامها الصغير في تلك المستعمرة الخليجية ولكن اتضح انها تحتاج لمال اغلى من شراء بيت !
وصحيح اني سافرت لعشر بلدان, ولكن هذا لا يكفي حتى رأيت هذا الفيلم, فانتباتني مشاعر الحزن والشفقة وبددت آخر ما تبقى من فرح بهذه التجربة التي احبها .
نعم , رحلة التجول بشاحنة متنقلة هي من اجمل تجارب الحياة على ان تكون ببحبوحة ومال وبدون حزن ولا ذكريات.
ان تتجول بكل الولايات وتأخذ صورا لكل المعالم البارزة لكل ولاية هي متعة حقيقية وأَوسكار تناله بدون حشود تصفق وبدون مسرح تقف عليه لأنها رحلتك الخاصة لوحدك
رحلتك الاختيارية وليست الاجبارية. هذا هو الفرق وهذا هو الهدف من الرحلة !
ولكن في هذا الفيلم بالذات ,لم يفز باوسكار لأنه يصف لنا عالم سائقي الشاحنات السكنية وطرق تواصلهم ولقاءاتهم في البرية والتجوال المستمر التي كنا نتخيّلها بمتعة وشغف , بل هي رحلة صمود لمشردة ستينية و اهوال الحياة التي ترافق المسنين المتعبين والمصرين على متابعة ما تبقى لهم عُمر مديد تحت الضغط حتى آخر رمق .









المراجع:

* فيلم (Nomadland)
*فيلم 2020 – نوماندلاند إخراج كلوي تشاو، والذي كتبته أيضًا وحررته وشاركت في إنتاجه. وبطولة فرانسيس مكدورماند وديفيد ستراثيرن وليندا ماي وتشارلين سوانكي وبوب ويلز. ويكيبيديا

* عصر مظلم جديد ؛ تاليف جيمس براندل وترجمة مجدي عبد المجيد خاطر , العدد 497, عالم المعرفة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا