الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كتاب من الله

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2022 / 11 / 10
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


سألني أحد القراء مرة بصورة مباغته أثناء حوار في منتدى التنوير عن حقيقة صادمة لا يدرك فهمها تتلخص في السؤال، وهل هي فعلا حقيقة أم أننا نفترضها هكذا، السؤال كان "هل أن كتب الأديان المقدسة لدى معتنقيها هي كتب الله كتبها وأنزلها للبشر"؟ "أم أنها كتب وجوديا عن الله ومن كتبها البشر بإيحاءات عقلية أو ربما روحية؟"، هذه الكتابات تتحدث يمكن أن تتحدث عن فكرة ذهنية تصورية في عقل كاتبها وكأنه يستمع لتعاليم الرب عن قرب؟ الحقيقة كنت مذهولا من جرأة السائل الذي يريد فعلا أن يصل إلى جوهر ما يعرف بكلام الله المشاع عنه، أولا لا بد أن أشرح فكرتي أنا التي أعتقدها كمدخل للإجابة، وهي أن الله لم يكلم أحد لا بالمباشر ولا بواسطة كائن أخر سمع كلام الله ثم نقله بحرفية إلى شخص بشري، السبب يعود لما في هذا الكلام من مسلمات أما أن نؤمن بها فنخرج بهذه النتيجة، أو لا نؤمن بها فننكر وحدة الكلام وأن بعضه يفسر بعضه بما يعني أن الكلام مختلط ولا يصح أن يصدر عن واحد عاقل.
في أسلوبية الخطاب في كل الكتب المقدسة ترد على شكل راوي يروي نص ما عن متكلم مره حاضر ومرة غائب هذا كأسلوب عام، ومرة يروي الراوي أحداث ينقلها هو وليس حديث مباشر للمتكلم الحاضر، وفي نسق ثالث ينقل النص الديني الحدث عن قصة كانت وحدث سابق أو تنبؤ قادم، في المظاهر الثلاث لا يمكن أن يكون من الناحية التعبيرية اللغوية حديث مباشر بين متكلم حاضر ومستمع حاضر، بعض الفقهاء والمتكلمة والأعتقاديين يرون أن الكلام ورد في هذه الصيغة لأنه منقول عبر وسيط ناقل غيري عن المتكلم وعن المستمع، السؤال هنا معرفة حقيقة الوسيط من فحوى الكلام المنقول، أما أنه ينقل النص حرفيا عن القائل للمتلقي ولا يتصرف به على النحو الذي يجعل منه هو المتحدث وليس الناقل، أو أنه يخبرنا ويقول أنه سمع من الله أن الأمر كذا وكذا، فيكون الكلام للرسول الناقل حتما وهو خبر بحد ذاته بعيدا عن إيماننا به قطعي أو ظني، ولكنه يبقى كلام مخلوق وليس كلام الخالق تعيينا وتحديدا.
هذه النتيجة ليست محاولة لتخطئة أو الطعن في شكلية الخطاب المنسوب لله ولا هي أجتهادات مجردة من دليل، فعشرات النصوص التي تنقل أنها تصف النص الديني على أنه كلام الله تؤمد علة هذه الحقيقة، فانهد إلى تلك النصوص لنستطلع منها المفهوم، مثلا النص التالي (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) من سورة التوبة، هذا النص إخباري عن الله بالتأكيد فلا يجوز أن يكون الخير عن الشيء هو الشيء ذاته، فهو عند الله وليس عندي حتى نقول أنه كلام الله، وأيضا نقرأ نص أخر أنفعالي وليس فعلي من نفس السورة (عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ)، هل هذا الخبر منقول عن الله أو خبر مروي عنه أم كان حديث بالمباشر، نستمر في تفحص النصوص (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ).
هذا النص لا يمكن أن يكون حديث مباشر أبدا ولا يمكن إلا أن يكون رواية أو خبر منقول عن ولي من، وهذا دليل على أن ما بزعم أنه كلام الله المباشر لا يمكن أن يكون كذلك حتى في النصوص التي تتحدث بأنا ونحن مثل (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)، فالله لم ينزل الكتب بذاته ولكنه وحسب النصوص كلف كائن أخر بالنزول (تنزل الملائكة والروح فيها بأذن ربهم من كل أمر)، فنحن ليس شرطا ومنطقيا أن تشير إلى أن المتحدث هنا الله، ربما يكون الروح أو الملائكة أو غيرهم لأن الأمر لا ينافي النص ولا يعارضه، (... ۖ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ۖ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ) ﴿١٥١ الأنعام﴾، هل هناك من يشك أن المتحدث هنا بصفة الجمع هو الله بدليل أن ما ورد عن نحن هو تقصيص ونقل وخبر بموجب النص التالي (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) ﴿٣ يوسف﴾، فالقاص هنا نحن وهو من أوحى إليك والوحي ليس كلام مباشر بل وسيلة نقل وأنتقال (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـٰكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) ﴿١١ ابراهيم﴾.
السياقات اللغوية في علم اللسانيات تشير بصورة منهجية وعلمية أن النص المنطوق لا بد عن يعبر عن ثلاثة حقائق ليعكس مصداقية القائل، أولى هذه الحقائق أن الكلام بتناسب مع ماهية المتكلم، فالله العليم الخبير القادر على كل شيء عندما يتحدث بفضية فهو يتحدث عن أمر نهائي لا ترديد فيه ولا ترجيح، بمعنى أن أحكام الله ثابتة ومبدئية ومنطقية (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّه إِمَّا يُعَذِّبهُمْ وَإِمَّا يَتُوب عَلَيْهِمْ وَاَللَّه عَلِيم حَكِيم) و (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ)، هذه الصور المتأرجحة بين الشك واليقين والمترددة بدون حسم لا تصدر عمن يقول (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، إذا أن الله لا يمكن أن يضع إيمان الإنسان ومصيره على قاعدة الأحتمال والشك والترجيح طالما أنه هو من بيده مفاتيح كل شيء ويعلم كل شيء، ومن يعلم عن خلقه كل شيء أوبى بأن يكون أعلم بأمره من كل شيء.
الله إذا لم يقل هذا الكلام المنقول عنه بصورة مباشرة ولا يمكن تصور أن أحدا أستمع لحديث الله بدون ألية ناقلة وواسطة تشرح أمر الله واتكلم عن ما تعرفه وتريد أن يصل الأمر والحكم للناس، فلا من مظهر حقيقي لوجود كلام يمكن أن يستوعبه عقل الإنسان من قبل الله وهو يؤمن أن لا شبيه ولا مثيل لشيء مع الله، لا كلامه ولا حديثه ولا ظهوره تجليا لبشر لأن الله ليس كمثله شيء، والإنسان شيء يتعامل مع أشياء يعرفها ويدركها ويفهمها، أما الذي لا يدرك ولا يترك وليس له شبيه ولا مثيل إنما يتجلى في ذهنه مترجما بصور ذهنية، تقترب وتبتعد عن الحقيقة بمقدار ما تتوافق مع المنطق الطبيعي للأشياء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مقتل شخص وجرح آخرين جراء قصف استهدف موقعا لقوات الحشد الشعبي


.. فايز الدويري: الهجوم رسالة إسرائيلية أنها تستطيع الوصول إلى




.. عبوة ناسفة تباغت آلية للاحتلال في مخيم نور شمس


.. صحيفة لوموند: نتيجة التصويت بمجلس الأمن تعكس حجم الدعم لإقام




.. جزر المالديف تمنع دخول الإسرائيليين احتجاجًا على العدوان على