الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الديموقراطية تحت مجهر النظام العالمي الجديد : بين رحمة نهاية التاريخ و مطرقة صدام الحضارات

ابراهيم ماين
كاتب و طالب باحث

(Brahim Maine)

2022 / 11 / 11
مواضيع وابحاث سياسية


تجمد التاريخ لأكثر من أربعين عاما ، انشل و فقد الحركة ، حيال ثبات نفس الأوضاع في المشهد السياسي العالمي حيث تجابهت قوتان عالميتان و تهددان بعضهما باستخدام السلاح النووي لإشباع نهمهم اللانهائي للهيمنة {3} و إزاء ذلك نشبت الحرب الباردة لتقسيم أوروبا و العالم بين هاتين القوتين ، الولايات المتحدة و الاتحاد السوفياتي ، فكانت الدول الصغرى مسرحا للاحتدام و الاقتتال ، و راحت ضحايا للحرب بالوكالة ، و باتت قطعة من تلك الكعكة المقسمة . و ما فتئ هذا المشهد حتى تلاشى مع انمحاء الاتحاد السوفياتي من الوجود إبان انهيار جدار برلين في 9 نوفمبر 1989 ، ليبرز نظام عالمي جديد تزعمته الولايات المتحدة و الغرب ، و لاحت مرحلة انتقالية تحولية في الأفق اتسمت بعولمة النظام السياسي الديموقراطية ، و النظام الاقتصادي الرأسمالي ، مع تجاوز الأيديولوجيات الاشتراكية المنبثقة من الفكر الماركسي{3} . إن هذه التحولات الصادمة في المنصة العالمية قد أعادت الحركة الى عجلة التاريخ كما بعد طول جمود حركت عقول العديد من المفكرين و استرعتها من أجل رسم خريطة طريق للمرحلة القادمة من تاريخ البشرية بعد طول خمول ، و تأججت هذه العقول بنزعة محافظة اعتمدتها الولايات المتحدة الأمريكية للمحافظة على السيادة و الهيمنة ، فكانت لها مكانة القداسة في صناعة القرار السياسي الأمريكي و تكوين الأفكار . ففي المرحلة الجديدة برز كل من المفكر الياباني الأمريكي فرانسيس فوكوياما و أطروحته " نهاية التاريخ و الإنسان الأخير " ، و المفكر الأمريكي الآخر صامويل هينتيغتون صاحب أطروحة " صدام الحضارات " ، و قد مثل التنظير الفلسفي لكلا المفكرين بمثابة إعادة صياغة أو قراءة النظام العالمي الجديد {6} . و دار بين الأطروحتين نقاش طويل و جدل كبير ، فبينما يفترض فوكوياما تلاقي المنظومات العالمية السياسية و الاقتصادية ، و من ثم منظومات القيم و أن الديموقراطية و الرأسمالية قد فازت ولا يوجد في الأفق قوى قد تنتج عنها أحداث مهمة ، فإن هينتغتون يتنبأ باستمرار اختلاف المنظومات العالمية السياسية و الاقتصادية ، و أن العالم على حافة صدام الحضارات {4} . إذن ، هل فعلا الديموقراطية الليبرالية انتصرت و انتهى معها التناقض في المجتمع بحصول الفرد على الاعتراف العام كما يذهب فوكوياما أم أن الديموقراطية لن تقوى على الصمود أمام صدام الحضارات كما يقر هينتيغتون ؟
1 . أطروحة فوكوياما : نهاية التاريخ و الإنسان الأخير
إن التاريخ البشري ليشهد بكل ووح و جلاء أن الفلاسفة لم يحيوا يوما بمعزل عن التاريخ أو بمنأى عن الأحداث السياسية ، و إنما هم قد تجاوبوا دائما مع الإطار الحضاري الذي عاشوا فيه او قد حاولوا أن يعكسوا في فلسفاتهم أصداء واقعهم الحي دون أن يغفلوا في الوقت نفسه مهمة التفكير و التعبير عن آمال و تطلعات مجتمعاتهم و أحلام مواطنيهم {7} ، فالفيلسوف هو ابن واقعه ، هو الذي يخرج من بواطن الأزمات حاملا معه مشعل الفكر و المعرفة ، هو الذي تتكأ عليه الحضارة لتصنع مجدها ، و لنا في ذلك أمثلة لا حصر لها في تاريخ الفكر و الفلسفة السياسية ، بداية من أفلاطون الذي أعطى نموذجا مثاليا يتخطى أمراض عصره الى ما يجب أن يكون عليه النظام السياسي ، و الكفيل بأن يرتب الحياة العامة للشعب ، و مرورا أفكار ماكيافيللي الناجمة عن الوضعية السياسية و الاجتماعية في إيطاليا و المتجهة نحو التشرذم و التناحر ، و لم تكن أفكار فولتير و مونتيسكيو و جون جاك روسو و غيرهم من فلاسفة التنوير متأتية من فضاء فارغ ، بل جاءت من فضاء يعج بأشكال الظلم و التعسف {7} ... و من هنا نتجه الى المفكرين المعاصرين في السياق السياسي لنطرح سؤلا عن الإطار العام الذي اندرجت فيه أفكار كل من فوكوياما و هينتيغتون ، و كذا عن طبيعة الواقع السياسي و الاجتماعي الذي دعا كلا المفكرين الى زرع أفكارهم السياسية في أرضيته ؟
بعد سقوط سور برلين في 9 نوفمبر 1989 ، و نهاية الحرب الباردة ، كتب فوكوياما مقالا في مجلة المصلحة الوطنية صيف عام 1989 ، يتساءل فيه عن نهاية التاريخ ؟ و ما إذا كان بوسع مسار التاريخ الانساني أن يستمر الى الأبد ؟ أم أنه وصل الى غايته ؟ هل هناك أي تناقضات في النظام الاجتماعي الديموقراطي اللبرالي المعاصر ؟ ... و أحدثت هذه الأسئلة ضجة تلتها رجة حركت الأوساط السياسية سواء في داخل الولايات المتحدة الأمريكية أو في خارجها . فإذا كان الهدف من الوجود الإنساني إيجاد نظام يأطر علاقات الناس مع بعضهم و مع الدولة و الاقتصاد ، و التشطيب على مظاهر العنف و التشتت و الصراعات و المصالح و الظلم ، فقد برز هذا النظام فعلا ، فإذا كانت هذه هي الغاية و ليس الهدف ، فماذا للبشر أن يبدع أكثر من الديموقراطية اللبرالية ؟ و رصد فوكوياما في هذا المقال أهم الأحداث السياسية للقرن العشرين بعد هزيمة الفاشية و النازية في أعقاب الحرب العالمية الثانية التي أسفرت عن سقوط الشيوعية ، و من خلال الأوضاع التي تبدت له خرج باستنتاجات مهمة تضع الأنظمة المرساة في ظل النظام العالمي الجديد في موضع الريادة و الأبدية ، خصوصا النظام السياسي الديموقراطي الليبرالي الذي اعتبره فوكوياما أسمى تجليات الإبداع البشري في هذا الميدان ، و أنه نقطة النهاية في التطور الأيديولوجي للإنسانية ، و الصورة الأبدية للنظام السياسي في العالم ، معلنا بذلك عن نهاية التاريخ ، كإشكالية تحاول الإجابة عن سؤال قديم ، لكن ليس النهاية بالمعنى المادي الوارد في الفكر الديني ، بل كان مرمى النهاية هو الفكر ، و النهاية الفكرية توحي عند فوكوياما بنهاية الأيديولوجيا نتيجة تفوق الفكر الليبرالي على الاشتراكية {9} .
لقد استعان فوكوياما في صياغة أطروحته " نهاية التاريخ و الإنسان الأخير " بالعديد من الأفكار السياسية و نظريات التاريخ عند كل من كانط و هوبز و ألكساندر كوجيف الذي استقى منه جزءا كبيرا من شروحات "فينومينولوجيا الروح " ( 1807) من فلسفة هيجل{3} ، و يستشهد فوكوياما بهيجل و ماركس قائلا : " كان في اعتقاد هيجل و ماركس أن تطور المجتمعات ليس الى ما لا نهاية ، حيث تصور النهاية عند هيجل بالدولة اللبرالية ، و عند ماركس بالمجتمع الشيوعي " {2} و ذلك بمغزى تبرير فرضياته الفكرية .و يصرح فوكوياما عن موضوع كتابه " إذا كان من المقبول منا – ونحن نودع القرن العشرين ، أن نتحدث مرة أخرى عن تاريخ البشرية واضح المعالم و الأهداف ، يتجه بالشطر الأعظم من البشرية صوب الديموقراطية الليبرالية ؟ الإجابة نعم ، لسببين الأول : يتعلق بالاقتصاد ، و الثاني يتصل بما يسمى الصراع من أجل انتزاع الاعتراف و نيل التقدير ". و تجذر الإشارة هنا أن فوكوياما قد نوه الى فصل الصلة بين مقاله الأول في نهاية التاريخ عقب بداية حقبة جديدة ، و كتابه الذي يمثل الأطروحة الكاملة لمستقبل العالم الجديد ، حيث قال " ليس كتابي هذا إعادة صياغة لمقالي الأصلي ، ولا هو محاولة لاستئناف المناقشة مع النقاد و المعلقين ، و هو أبعد ما يكون استهدافا لشرح نهاية الحرب الباردة ، أو أي موضوع ملح آخر من موضوعات السياسة المعاصرة " {2} .
إن مسألة " أفضل النظم " كانت من أقدم مسائل الفلسفة السياسية ، لدرجة أنه يمكننا تغطية تاريخ هذه الفلسفة قبل ماكيافيللي بغطاء طوباوي يروج لفكرة مثالية تتطلع الى تسوية جميع المشاكل التي تتمخض من خلل اعترى النظام الأخلاقي أو العقلي ،بداية من أفلاطون في كتاب " الجمهورية " وصولا الى طوماس مور في كتابه " المدينة الفاضلة " ، و من ثم فإن طرح مسألة " نهاية التاريخ " على الصعيد الأيديولوجي ، ليس جديدا ، و لكن الجديد في تنظير فوكوياما لمسألة النهاية ، هو الاكتمال المقترن بتحقيق الغاية ، و الوصول الى الهدف ، أو المرحلة الأخيرة من تطور البشرية و ذوبان الاختلافات و تلاشي التناقضات {9} . يعني أن الديموقراطية اللبيرالية وصلت لحل المشكلات و التناقضات التي كانت تغرق في أوحالها كافة المجتمعات ، فأي شكل لتنظيم سياسي و اجتماعي في حضارة تكتنفه تناقضات داخلية ، يؤدي بمرور الوقت الى زلزلة التنظيم و إقامة تنظيم آخر أكثر نجاحا يتأسس على حطام الذي سبقه ليصبح هشا بدوره و تتخلله تناقضات ، و هكذا دوالك اذا ما احتكمنا الى المنطق الدياليكتيكي لهيجل ، لكن ، و بالرجوع الى الإشكالية المركزية ، هل يعني أن هذه التناقضات راح زمانها و ووصل التاريخ الى نهايته؟ و للتعمق في الإجابة وجب تحليل وظيفة الديموقراطية من كافة جوانبها . فهي وحدها قادرة على مجابهة المصالح المتعارضة الناجمة عن طبيعة الاقتصاد ، في حالة التصنيع تظهر الطبقات العاملة في مختلف تخصصاتها الصناعية و الحرفية ، و الإداريين و أصحاب رؤوس الأموال ، و المهاجرون الذين يسعون استفادة من سوق العمل ، و هنا تأتي وظيفة الديموقراطية و تثبت كفاءتها لأنها مرنة تسمح للجميع بالتعبير عن نفسه {10}، لذلك تركز رأي ألكساندر كوجيف على الانتصار الحاسم للنموذج الديموقراطي على كونه البرهان على أن البشرية في سبيلها الى الدخول في المرحلة النهائية من تطورها ، فما دام تفوق الديموقراطية يكاد معترفا من كافة شعوب الأرض فيمكن بالتالي اعتبار أن تاريخ الإنسان قد اقترب الى هدفه الرئيسي ، أي أنه اكتمل من الناحية النظرية {3} ، و بالتالي يكون التاريخ قد وصل الى نهايته ، و لا يستوجب على المفكرين البحث و السؤال عن المشكلات الانسانية و العمل على حلها ، و على الفيلسوف التاريخي أن يقبل مزاعم الديموقراطية اللبرالية بأنها الأفضل أو الغاية النهائية ، و لغياب بدائل أخرى صالحة في مسار التطور التاريخي الفعلي كشكل من أشكال الحوار و التنافس بين أنظمة و أشكال مختلفة للتنظيم ، بمعنى آخر : الديموقراطية اللبرالية هي الأيديولوجيا الوحيدة القادرة على فهم الإنسان في المجتمع و تطلعاته و متطلباته .
أعزى فوكوياما انقراض الأيديولوجيا في فرضيته الى كونها لا تكتسي طابعا عالميا ، أي أنها لم تكسب إجماعا أو رضا شعبي أو عالمي ( بمعنى كوجيف ) ، كالأيديولوجيات الصينية و الإسلامية ، دون أن ندرج معها الأيديولوجية الاشتراكية لكونها تتلبس بلبوس عالمية رغم أنها كذلك آلت الى السقوط ، هذه الأيديولوجيات منيت بالهزيمة أمام الديموقراطية اللبرالية ومن ثمة اكتسبت الأخيرة الشرعية ، و لم تأتي هذه الهزيمة نتيجة للتطور التاريخي و الطبيعي للفكر البشري ، أو نتيجة للقناعة البشرية بأن التاريخ سينتهي بصورة حتمية ، أو قانونية تنحو نحو الديموقراطية اللبرالية بل كانت متأتية من القوة إرادة الهيمنة و الحرب الثاوية وراء انتصار الديموقراطية ، يقول فوكوياما "هناك إجماع في جميع العالم حول شرعية الديموقراطية كنظام للحكم بعد أن لحقت الهزيمة بالأيديولوجيات المنافسة مثل الملكية الوراثية ، و الفاشية ، و الشيوعية في الفترة الأخيرة "{2} . و من خلال التمعن في فرضيات فوكوياما سنجد نوعا من التعالي و التسامي و من الشعور بروح الانتصار ، و التبجح بالولايات المتحدة باعتبارها النموذج العالي للديموقراطية اللبرالية ، و منه فلن يكون هناك أنظمة حكم مختلفة بل نظام واحد ، و تتمثل رؤيته لنهاية التاريخ في العبارة التالية : " البشرية ستكون بمثابة قافلة طويلة من عربات متشابهة ، قد يتجه بعض العربات صوب المدينة في حركة حادة و مفاجئة ، و قد يعود بعضها الى الصحراء ، و قد تتعطل عجلات بعضها أثناء صعودها الجبال ، قد تتعب عربة أو عربتان من الرحلة فيقرر ركابها الإقامة الدائمة في معسكرات على الطريق ، و قد يجد آخرون طرقا بديلة الى الطريق الرئيس ، رغم أنهم سيكتشفون أنهم من أجل اجتياز السلسلة الأخيرة من الجبال عليهم أن يستخدموا نفس النفق الذي سيستخدمه غيرهم ، غير أن الغالبية العظمى من العربات ستمضي في رحلتها البطيئة نحو المدينة ، و سيصل معظمها إليها "{2} . هذه المدينة التي ستصل اليها البشرية ، هي الدولة العامة المتجانسة التي تتمثل في دولة نهاية التاريخ ، و أن غالبية الدول بالرغم من تخلفها سوف تسير الى المدينة ، و أنه لا يوجد سوى طريق واحد ، بمعنى آخر نظام سياسي واحد ، و هو أفضل النظم السياسية " النظام الديموقراطي اللبرالي " ، و أن هذه الدول سيظهر فيها الإنسان الأخير .
و قد قدم فوكوياما مثالا قائما على المقارنة لتبيان ميل كفة الشرعية الى الديموقراطية اللبرالية و تضعضع الأيديولوجيات ، و اتجه بهذا المثال الى الإسلام حيث قال : " و إن كان في وسع الإسلام أن يكسب من جديد ولاء المرتدين عنه ، فهو لن يصادف هوى في قلوب شباب برلين أو طوكيو أو موسكو ، رغم أن بليون نسمة يدينون بدين الإسلام ، أي خمس تعداد السكان " ، فليس بوسعهم تحدي الديموقراطية اللبرالية في أرضها على المستوى الفكري" {2} . و بالتالي و بالنسبة للمفكر الأمريكي ، فالإسلام أيديولوجيا فرعية لا تكاد أن تصحو في مناطقها التي انتشرت بها ، بل يرى فوكوياما أن العالم الإسلامي أشد عرضة للتأثر بالأفكار اللبرالية على المدى الطويل من احتمال أن يحدث ذلك . و يفسر فوكوياما سبب تصاعد الأصولية الإسلامية و تفاقم ظاهرة الإرهاب و التشدد و التطرف الى الخطر الملموس من جانب القيم الغربية اللبرالية على المجتمعات الاسلامية التقليدية . و إذا أردنا أن نستخلص درسا في مثال فوكوياما فسيكون منصبا على قضية التقدم التاريخي و إرساء دعائم الديموقراطية ، فالأخيرة بالنسبة لفوكوياما ترتبط بشكل وثيق بزحف التحديث الاجتماعي و الاقتصادي ، فهناك القليل من الدول الغنية التي ليس بها ديموقراطية لبر الية ، و إن كانت بعض الدول الفقيرة كالهند و كوستاريكا تقدم نموذجا ناجحا للديموقراطية ، لكن أغلب الدول التي لا تصنف ضمن الدول الغنية هي دول غير ديموقراطية ، و ستكون الحروب مقترنة بهذه الدول التي لازالت تتخبط في التاريخ و لم تقوى على مجاوزته . {11} أما الدول الغنية الحاضنة للديموقراطية فقد أدرجها فوكوياما ضمن دول ما بعد التاريخ ، استنادا الى مقولة الاعتراف في الديموقراطية اللبرالية الحديثة بحيث يعترف الجميع بكرامة كل امرئ باعتباره إنسانا حرا و مستقلا . و تعترف الدولة اللبرالية بكافة المواطنين و تمنحهم الحقوق ، و لهم خيارات ثيموسية أي اعتناق الأفكار و الآراء الخاصة بالقيمة و القدر الذي يرغبونه . و من ذلك فتقدير الذات عند الإنسان هو شعوره بالعدالة حينما يحظى بالقبول و الاحترام ، و حينما يشعر الإنسان بأن له قيمة ، بينما يرى الآخرون أن قيمته أدنى منهم يشعر بالغضب و يبحث عن منزلته و الاعتراف به ، و يرفض الإنسان هذا الواقع المعاش ، و يثور عليه لينهي حالة التناقض القائمة في المجتمع من خلال التمرد و الاعتصام و النضال .
لا ينكر فرانسيس فوكوياما أن الديموقراطية اللبرالية تسدل على نفسها العديد من التحديات الداخلية و الخارجية ، و هذه التحديات قد تؤدي الى حالة عدم المساواة ، و تعرض المفكر الأمريكي لهذه التحديات بالاستعانة بمفهوم هيجلي محض هو مفهوم الاعتراف كوسيلة لقياس مدى نجاح اللبرالية الديموقراطية كنموذج سامي ، فالفرد يسعى للحصول على الاعتراف الذي يوصلنا الى الانسان الأخير ، أما المجتمع الذي يسعى للرغبة في الاعتراف المتكافئ " الإيسوثيميا " {13}سوف يسقط ، لأن هذه الرغبة الجامحة في الاعتراف سوف تصطدم بحدود الطبيعة و قد يطمح الفرد في المجتمع للاعتراف بالتفوق على الآخرين " الميجالوثيميا "{12} في ظل الديموقراطية اللبرالية .
لقد انهالت الانتقادات على فكرة الاعتراف العام في المجتمع اللبرالي من التيار اليساري ، على اعتبار أن هذا الاعتراف لن يتحقق تحت نير هذا النمط من المجتمعات ، اي اللبرالية ، بسبب عدم المساواة الاقتصادية الناجم عن الرأسمالية الذي يعني بضرورة اعتراف غير متكافئ {2} ، لكن هذا لا يحير فوكوياما بقدر ما يستدعيه الطرح اليميني في هذا السياق من إشكالات وازنة تدعو الى الخوف النابع من إمكانية نسف المتن الفوكويامي ، حيث يذهب هذا الطرح الى أن مشكلة المجتمع اللبرالي لا تكمن في افتقار الاعتراف للعمومية ، و إنما الى هدف الاعتراف نفسه ، حيث أن البشر بطبيعتهم غير متساوين ، و معاملة البشر على أنهم متساوون لا تؤكد إنسانيتهم بل تنفيها {2} . و يضيف فوكوياما أنه ليس باستطاعة كل شخص أن يصبح رساما ...و ليس كل الناس لديهم القدرة على تكديس الثروة ،و هذا يمنع من الوصول الى الاعتراف المتكافئ لدى الأفراد في المجتمع .بيد أن المجتمع الحقيقي هو الذي يعمل على استئصال هذه العوائق ، و يعتبر النموذج الأمريكي دليلا على مجتمع نهاية التاريخ ، المجتمع الذي يتصدى للإرهاصات التي تعترضه دون تمسه بأي سوء ، و على الدول التي لازالت ترزح في التاريخ أن تقتدي بهذا النموذج اذا أرادت أن تلتحق بركب دول ما بعد التاريخ عن طريق ما يسميه الشاعر الفرنسي بودلير بأمركة العالم .

2 . أطروحة صامويل هينتغتون : صدام الحضارات
على غرار أطروحة فوكوياما عقب تحطم الاتحاد السوفياتي و صعود الولايات المتحدة و العالم الغربي الى المشهد السياسي العالمي ، قد ظهرت أطروحة أخرى يمكن اعتبارها نقيضة للأطروحة السابقة ، هي أطروحة صراع الحضارات لصامويل هينتغتون أستاذ فوكوياما ، التي نشرها أول مرة في مجلة الشؤون الخارجية في عام 1993 ،و بعد ثلاث سنوات ألف كتابا يحمل العنوان نفسه هذه الأطروحة تحمل بناء شاملا يشرح نزاع الحاضر و المستقبل ، و كذلك الملامح البارزة للنظام العالمي الجديد ، إضافة الى التنبؤ بمستقبل العالم السياسات الدولية في القرن الواحد و العشرين ، مركزا على الحضارات بوصفها وحدة للتحليل ، و كذا الصراع الحضاري الذي يتمحور حول الثقافة . و قال هينتغتون واصفا كتابه : "الغرض من هذا الكتاب هو تقديم إجابة أشمل و أعمق عن سؤال المقال ، و هنا أحاول أن أفصل و أنقح و أضيف ، واصفا أحيانا الأفكار التي جاءت بالمقال ، كما طور أفكارا أخرى كثيرة و أغطي موضوعات عدة لم يتناولها المقال أو ربما تناولها على نحو سريع " {1} .
ينطلق هينتغتون من فرضية أساسية مفادها أن الثقافة و الهويات الثقافية ، التي على المستوى العام هويات حضارية ، هي التي تشكل أنماط التماسك و التفسخ و الصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة {1} ، و يضع المفكر الأمريكي الحضارة في مقابل الثقافة البربرية ، على أن جميع الثقافات في العالم تتحدد في مستويات مختلفة من التمايز الثقافي . يقول : " الحضارة هي أعلى تجمع ثقافي من البشر و أعرض مستوى من الهوية الثقافية يمكن أن يميز الإنسان عن الأنواع الأخرى... إضافة الى العناصر الموضوعية الأخرى كاللغة و الدين و العادات و المؤسسات ... " {1} . و يقسم هينتغتون حضارات العالم الى سبع حضارات رئيسة ، بالإضافة الى احتمالية قيام الثامنة و هي : الروسية الأرثوذوكسية ، الصينية ، اليابانية ، الهندية ، الإسلامية ، الغربية ، الأمريكية اللاتينية ، و الإفريقية كاحتمال . و استند هنتغتون الى الثقافات بوصفها أساسا في تقسيم العالم الى أنماط حضارية و التي بدورها تقود الى حتمية صدام الحضارات ، و اختار الدين أساسا للمجموع الحضاري ، في حين أن الفضاء الديني لم يحدد نوع الثقافة ، لأن هناك فضاء الدولة الوطنية و فضاء الأقاليم المتجانسة الاقتصادية و فضاء الأنظمة السياسية .
إن النظر الى العالم باعتباره سبع حضارات أو ثماني ، يجعلنا نتجنب الكثير من الصعاب ، و لا يضحي بالحقيقة لحساب الاقتصاد الشديد كما هو الحال في نموذج عالم واحد أو عالمين ، إلا أنه كذلك لا يضحي بالاقتصاد الشديد من أجل الحقيقة كما هي الحال في نموذج الدولة أو نموذج الدولة ، إنه يقدم لنا إطار عمل مفهوم أو سهل الاستيعاب لفهم العالم ، و تمييز المهم من غير المهم بين الصراعات الكثيرة ، و يتنبأ بالصراعات المستقبلية ، و يقدم الخطوط العادية لصانعي السياسة ،كما أنه يبني على النماذج الأخرى و يتكامل معها ، و هو أكثر تناغما معها أكثر مما هي مع بعضها الآخر {1} .
و على طرف النقيض من فوكوياما ، يصف هينتغتون النظام العالمي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي بأنه متعدد الأقطاب ، " في عالم ما بعد الحرب الباردة و لأول مرة في التاريخ أصبحت السياسة الكونية متعددة الأقطاب و متعددة الحضارات "{1} ، و كان النظام العالمي أثناء الحرب الباردة مقسم الى ثلاثة أجزاء : الكتلة الشرقية ، الكتلة الغربية ، دول عدم الانحياز . أي أن الصراع كان ثنائيا بين اللبرالية الديموقراطية و الشيوعية ( وصف المفكر المغربي المهدي المنجرة حرب الخليج على أنها أول صدام للحضارات ، و على إثر ذلك رد عليه هينتغتون أن الحرب و الصدام الأول كان الصدام السوفياتي الأفغاني {1} ) ، فالمجتمعات التي اتحدت عن طريق الأيديولوجيا بقيت مقسمة بسبب الحضارات ، إما أنها تفتت كما حدث للاتحاد السوفياتي ، أو تتعرض لتوتر شديد كما يحدث حالا في أوكرانيا ، فالدول التي بينها صلات قربى تتعاون اقتصاديا و سياسيا المنظمات الدولية التي تعتمد على دول بينها عناصر ثقافية مشتركة ، مثل الاتحاد الأوروبي ، أكثر نجاحا من تلك التي تحاول أن تتجاوز الثقافة {1} . و هذا يعني أن العالم اليوم عند المفكر الأمريكي بعد نهاية الأيديولوجيا ظهرت فيه العوامل الثقافية و الحضارية ، و التي بدورها تحدد التحالفات الثقافات على مستوى الدول و الحضارات ، و من ثم تحدد نوعية العلاقات بين هذه الحضارات ، و التي تنبأ هينتغتون بأنها سوف تكون علاقات احتدام و تنافس و صراع ، و بالتالي أنهى هينتيغتون الأيديولوجيا السياسية و لم ينهي التاريخ ، فإن التاريخ سوف يستمر ، و يتنبأ بنهاية الصراع الأيديولوجي و بداية الصراع الثقافي بين الحضارات {1} .
استعان هينتغتون لدحض أطروحة " نهاية التاريخ " بفكر توماس كون في كتابه " بنية الثورات العلمية " ، حيث يؤكد كون أن التقدم الفكري و العلمي يؤديان الى حذف نموذج قديم و إحلال نموذج أكثر قدرة على تفسير العلاقات الدولية بطريقة أكثر مصداقية و مقبولية {1} . و في هذا الاتجاه سار هينتنغتون معتبرا تصور وجود عالم منسجم خالي من الصراعات الكونية هو ضرب من ضروب البلادة و الوهم الذي سرعان ما تبدد بسبب تضاعف الصراعات العرقية و بروز أشكال جديدة من التحالفات و الصراعات في العالم ، و هذا بحد ذاته تهديد كفيل بأن ينسف بالديموقراطية الذي نادى بها فوكوياما ، و بالتالي فأفق الانجلاء مفتوح {3} .
كان هينتغتون يولي الاسلام اهتماما أكبر من الذي يوليه لأي حضارة أخرى ، وحاول أن يكرس حتمية الصراع ، من خلال استخدام اللغة بشكل بلاغي ، لكي يبرز الفارق بين عالمنا نحن الأناس الطبيعيين المنطقيين المقبولين ، و عالم الإسلام ذي الحدود الدموية و الأبعاد الناشئة حسب تعبيره ، و هو ما يضبب الرؤية الديموقراطية في الدول الاسلامية ، يقول : " أكبر مقاومة لجهود التحول الديموقراطي جاءت من الإسلام وآسيا ، و كانت هذه المقاومة عميقة الجذور في الحركات العريضة للتوكيد الثقافي المتجسد في الصحوة الإسلامية و الإصرار الآسيوي " . إن هذا التصور لدى هينتغتون يظهر النزعة و التمييز و الثنائية بصورة بليغة في الإدراك الغربي ، و خصوصا بعد أن جعل مركزية الغرب هي المعيار في الفكر و الوجود ، وحاول تبعا لذلك اختراع العدو عبر تقسيم العالم الى أقسام جغرافية و سياسية و فكرية{12} ، و بالتالي جرى تلفيق أوصاف مرتبطة بالاستبداد النابع من السلفية المتحجرة للحضارة الإسلامية، و ذلك من أجل مسح الديموقراطية و نفي حقوق الإنسان من أرضيتها ، لأنه – و بحسبهم – أن هذه الحقوق أبدعتها الثقافة الغربية وحدها ، و بالتالي وجب الاحتذاء بها إذا ما أرادت الحضارات الأخرى الخامدة أن تسير في موكب العظماء ، وهذه نقطة الالتقاء بين فكر فوكوياما و أستاذه هينتغتون ، فكيف قابل هؤلاء الأيديولوجيا بالأيديولوجيا ؟
3 . انتقادات فكرية :
أ . نقد فوكوياما :
في كتابه " أطياف ماركس" يقول الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا منتقدا فكرة نهاية التاريخ لفوكوياما : " في التاريخ الإنساني لم يسبق قط للعنف و للتفاوت و للإقصاء و الجوع ، و للضغط الاقتصادي أن أثروا على هذا الكم من الكائنات الانسانية في تاريخ الأرض و البشرية ، فعوض التغني بمجيئ المثالية الديموقراطية و اللبرالية ، و بالسوق الرأسمالية في بهجة نهاية التاريخ ، و عوضا عن الاحتفال بنهاية الأيديولوجيات ، يجب ألا نهمل أبدا هذه البديهة المرئية و المصنوعة من عدد لا يحصى من الآلام الفريدة "{15} و من هنا تتبين رؤية دريدا للخطاب الغربي المتعلق بحقوق الإنسان غير ملائم مع نهاية التاريخ و منافيا له ، في ظل قانون السوق و الديون الخارجية و التفاوت في التطور التقني و العلمي و العسكري و الاقتصادي .
يكتب كريستيان كامباني ثلاث اعتراضات على أطروحة فوكوياما مبنية على إشكاليات راهنة في السياسة العالمية اليوم :
1 . لا يوجد إثبات بأن هناك انتصار لأفضل نظام سياسي ، حتى لو افترضنا بأنه سوف يشكل آخر الأحداث المهمة بالنسبة للبشرية ، فكل يوم هناك تقدم علمي في الطب و الزراعة و الغذاء .
2 . التطورات في النظام العالمي منذ عشر سنوات الى الآن لا يبرهن قط على صحة نبوءات فوكوياما ، فهناك دول ترفض النظام الديموقراطي ، حتى التي تطبق النظام كالدول التي كانت تحت سيطرة الاتحاد السوفياتي ، يوجد بها قوى مناهضة تستهدف تغير النظام السياسي ، وب التالي فإن الحديث عن نهاية التاريخ يعد سابقا لأوانه ، و الحديث عن انتصاره يعد خرقا للأصول .
3 . لا بد من رفض الفكرة التي تعبر عن وجود نظام أفضل من النظم الأخرى . فمن الناحية الفكرية لابد من القول بأن النظام الديموقراطي الذي يقصده فوكوياما " التمثيل النسبي " في مقابل الديموقراطية المباشرة التي عرفتها المدن الإغريقية قديما ليس سوى أقل النظم سوءا ، و التي يمكن تحقيقها حاليا ، كي لا نصادر حقوق الفكر في إمكانية ابتكار نظم أفضل في القرون القادمة .
ب . نقد هينتغتون :
كانت النظرة السوداوية في حتمية صدام الحضارات محل انتقاد كبير من قبل المفكرين و الباحثين ، حيث بحث في أطروحته أسس النظام و كيفية حدوثها على خطوط التقسيم ، و لم يبحث في نقاط الالتقاء بين الحضارات كما فعل فريدريش هاردر و عزز من وجودها بين الحضارات كي نتجنب الصدام بينها ، فقد كان هاردر على دراية واسعة بتعدد الثقافات ، و لكن مع ذلك لا يتخلى عن وحدة الإنسانية ، و هذه الوحدة ترتكز على الأصل البيولوجي المشترك لكل البشر "وحدة النوع " و على الهدف المشترك الذي يسعون لتحقيقه ، إنه يرى بأنهم يتمتعون بالمثل العليا ذاتها للسعادة و للحب البشري و لتفتح الفكر ، و لمفاهيم الحقيقة و الخير نفسها . كما و يضيف دييتر سانغاس أن إمكانات قيام حوار مثمر فيما بين الثقافات هو شيء عظيم في الوقت الراهن ، على أن يستند على تصورات واقعية بشان ثقافة المرء و الثقافات الأخرى ، من خلال مهمة محورية و هي إجراء حوار بشأن المفاهيم المتعلقة بالتعددية السياسية و التنظيم المؤسسي لها . و بالتالي فإن الرهان الحقيقي اليوم ليس الصراع الحضاري و الثقافي كما ذهب هينتغتون بل الرهان هو الحوار البناء بين الحضارات و تقبل التعدد الثقافي و التعايش عبر تشييد جسر نحو الآخر من أجل فهمه فهما يجعل من الوجب عدم دهس مقدساته ، و أمام هذا فإن المؤمل للحوار أن يوجد واقعا بديلا لواقع الصراع ، لذلك لابد من حوار أطراف معينة أكثر من غيرها لأن تتحاور و تصل الى نتيجة {17} تفض بها جميع النزاعات الدولية .
4 . ملاحظات : موت الأيديولوجيا و إحياء الأيديولوجيا
إن فعل الموت هو فعل طبيعي يحصل من تلقاء نفسه نتيجة اكتنانه لمجموعة من القوانين التي تحدد مسار تطور الكائن ، لذلك و بحكم نفس القانون ، كان و لابد أن تغرب شمس الأيديولوجيا بعد أن عمرت طويلا في مجالات متعددة . أما فعل الإحياء فيقتضي وجود واجد يهب الحياة من جديد لمن فقدها ، و الفقد يتضمن وجودا سابقا ، إذن ، فالأيديولوجيا ماتت ، موتها لم يكن بفعل فاعل كما يعتقد البعض ، بل الضرورة التطورية هي التي حتمت وقوع فعل الموت ، مادام لها بداية ، فلها نهاية ، خصوصا إذا تعلق الأمر بالفكر ، أخذا بقول هيجل : " الفكرة التي تزوجت في هذا الزمان ، تصبح أرملة في زمان آخر " . و الأيديولوجيا بعثت على شكل آخر هادم للشكل الذي سبقه مع تلوين و طلاء يجعلها لا تبدو على ما هي عليه في الأصل ، تصبح الأيديولوجيا حقيقة تنبع من معين ترسانة من الأفكار التي تشرعنها و تمنحها ذلك الطابع الوهمي . إن فوكوياما و هينتغتون لهما الفضل الكبير في التنبؤ بمستقبل الإنسانية في كنف النظام العالمي الجديد ، و كانت رؤيتهم متبصرة لحالة الديموقراطية و وضعية الاقتصاد إلا أن هذا لا يشفع لهم الانزلاق في مهاوي الأفكار الضالة المنقحة و المزينة بشيء من الفكر ، و هذا ما دفع فوكوياما الى الاستدراك و الاعتراف بأن أطروحته في نهاية التاريخ لم تسلم من سقطة جاءت نتيجة لعدم التمعن الجيد في تاريخ الفكر السياسي في ماضيه و حاضره و مستقبله على الخصوص ، و قال في انتقاده لنفسه في كتابه " مستقبلنا بعد البشري عواقب ثروة التقنية الحيوية ، 2002 " مصرحا " خلال تأملي في المقالات النقدية العديدة التي تناولت مقالي الأصلي ، يبدو لي أن الحجة الوحيدة التي لم يكن من الممكن دحضها هي أنه لا يمكن أن تكون هناك نهاية للتاريخ ما لم يكن هناك نهاية للعلم {14}" ، و لعل فوكوياما أدرك أن لم يرقى بعد الى مستوى تحدي جدلية هيجل و إيقاف التاريخ عند حد كان يجري الى الوصول اليه ، لأن المنهج الجدلي يتمتع بحيوية أكبر من أن يقف عند هذا الحد ، فكلما وصل العقل الى مرحلة يعتقد أنها المرحلة النهائية ، فوجئ بأنها ليست هي الغاية ، و ذلك بسبب تناقض بعض جوانب هذه الفكرة {9} . إن فوكوياما أنهى حالة الجدل و أوقفها عند اللبرالية الديموقراطية في مرحلة نهائية في تطور الفكر و الأيديولوجيا ، و ذلك من خلال فك جميع العقد و حل جل التناقضات في المجتمع ، و ظهور الدولة العامة و المتجانسة معلنا عن نهاية التاريخ .
إن تخطي الأيديولوجيا و هدمها من طرف هينتغتون و فوكوياما كان مجرد ذريعة من أجل تأسيس أيديولوجيا جديدة منافية للأولى ، فإذا فانت الأيديولوجيا الاشتراكية بفناء الاتحاد السوفياتي ، فقد بانت أيديولوجية سياسية محضة مع الولايات المتحدة الأمريكية و الغرب تتمثل في اختلاق عدو خارجي يوهمون به الناس كي يبقوا في حالة تأهب و تكتل و استعداد لمواجهته ، و أن هذا العدو يهدد استقرار هذه الدول العظيمة لأنه يتشبع بأصولية و سلفية متحجرة و متعصبة لا تقبل التعدد العقدي ، فكان سابقا طالبان ثم داعش ثم الصين ثم كوريا الشمالية ثم إيران ، و الآن نتحدث عن عودة روسيا الى المشهد السياسي العالمي كشكل سياسي تقليدي يتشرب من روح الهيبة التي كانت تحظى بها و ذلك جراء حملتها لاحتلال الأراضي الأكرانية ، و تكاثف الجهود الغربية من أجل ردع هذا الزحف الروسي . و من هنا نستنتج أن أي دولة لا تحتكم الى نفس تقاليد الغرب و لا تجثو على ركبتيها إجلالا للدول ذات النظام الديموقراطي اللبرالي و الرأسمالي فإنها تعتبر عدوا يجب التأهب لها و الاصطفاف لمقارعتها و دس الدسائس لها و تسميمها بكافة الاستراتيجيات السياسية غير المباشرة القائمة على الطرق الملتوية و المراوغة ، و هذا ما يحيلنا الى أحداث تاريخية هامة تجسد أيديولوجية صناعة العدو بشكل جلي ، و لنا في سياق حديث هينتغتون عن الحضارة الاسلامية دليل شافي ، حيث أن فرضياته و مصوغات أطروحته من بدايتها الى نهايتها ، كانت تبحث في الصراعات الحضارية دون البحث عن التفاهمات أو العوامل المشتركة في الحضارات العالمية و لم يبحث في تاريخ الحضارات و صراعتها بقدر ما استنفد البحث في الحضارة الاسلامية التي سوف تتحدى الولايات المتحدة الأمريكية في المستقبل ، و التي تشكل تهديدا حقيقيا على هيمنة الولايات المتحدة ، و ذلك من خلال التوكيد الصيني للحضارة الإسلامية مع أنه لا يوجد خطوط تصادم بين العالم الاسلامي و الولايات المتحدة سوى القواعد العسكرية الموجودة في العالم الاسلامي ، و التي تعتبرها الولايات المتحدة حدودها الموجودة في الشرق الأوسط وهذا ما يسمح لها بالتدخل في الشؤون الداخلية لدول هذه المنطقة ، حيث ، و على سبيل المثال ، تدخلت الولايات المتحدة في الشرق الأوسط من أجل تحرير الكويت سنة 1991 من المد العراقي ، الشيء الذي عبد الطريق أمام الولايات المتحدة للتغلغل الى العراق . أما فوكوياما فقد قام بتنحية الحضارة الاسلامية من فضاء النظام الديموقراطي و اعتبرها حضارة تقبع في التاريخ و ستظل ملازمة له لأنها بعيدة كل البعد عن التطورات الحاصلة في الأنظمة السياسية ، كما أعزى عدم ظهور الديموقراطية في الحضارة الاسلامية الى افتقادها لقيم الحرية و المساواة ، و اعتبرها مجالا مدججا بالتوترات الفوارة و التطاحن الجارف بكل نظام ، تسود فيه الأصولية و السلفية و التعصب الفكري و الانغلاق الثقافي ، و افترض عدة افتراضات استخدمها كمسلمات ، كإسقاط الأيديولوجيا السياسية ، و اعتبر الأيديولوجيا القائمة في النظام العالمي الجديد ، كالأيديولوجية الاسلامية ، هي أيديولوجيات محلية لا ترتقي الى مستوى العالمية ، و هذه بحد ذاتها أيديولوجية سياسية صرفة تروم تعبئة الانسان الغربي ضد الانسان العربي او الاسلامي و كذا نبذ التعدد و الاختلاف كمبادئ أساسية للديموقراطية اللبرالية ، أليس هنا فوكوياما يجلد نفسه بسياط أطروحته ؟ و يكفي أن نضع هذه الأفكار التي جاء بها المفكرين الأمريكيين في خانتها المناسبة لكي نحتاط من التسليم بها و نكتسب حذرا ابستيميا يعصمنا في الوقوع في الزلل محاولين قراءة الفكر من داخل الفكر ، و تسديده الى منطقة التحليل النقدي دون أن نتنكر له لأنه يخالف مسلماتنا ، و لا أن نعتنقه لأنه يتطابق معها . و منه فقراءة نظريتي فوكوياما و هينتغتون يجب أن تستهدف إرواء ظمأ المعرفة من أجل الفهم الحصيف ، و في الوقت نفسه من أجل فهم الفهم و قراءة غير المقروء و رؤية ما يجري و ما يطبخ في الكواليس ، و كذا الأهداف و المصالح الكامنة وراء هاتين النظريتين ، لأنه و كما حاججنا ، فبمجرد أن توظف نظرية أو معرفة في خدمة طرف مع إقصاء أطراف أخرى لاعتبارات عديدة أغلبها تكون عرقية ، فإن هذه النظرية تقتلع من حقلها الفكري الى حقل أيديولوجي تتضارب فيه مصالح سياسية و اقتصادية ، بعد أن تم التخلص من وحش الأيديولوجيا الاشتراكية و تحويله الى شبح يسكن عقل الإنسان الغربي ، و بالتالي تم التملص من أيديولوجية وحشية بأيديولوجية شبحية . يقول الفيلسوف الألماني ماكس هوركايمر في كتابه كسوف العقل : " كل عقل مؤدلج ، اغتاله وحش الأيديولوجيا ، يفقد استقلاليته و قدرته على الشغل و العمل ، و لا يبقى منه سوى الوظائف الإجرائية التي تسمح بالسيطرة على الطبيعة و المجتمع " .
بيبليوغرافيا :

1 . صامويل هنتيغتون ، صدام الحضارات ، إعادة صنع النظام العالمي ، الطبعة الثانية من سطور
2 . فرانسيس فوكوياما ، نهاية التاريخ و الإنسان الأخير ، ترجمة : أحمد أمين
3 . كريستيان دولاكامبي ، الفلسفة السياسية اليوم ، أفكار – مجادلات – رهانات ، ترجمة : نبيل سعد
4 . ريتشارد نيسبيت ، جغرافية الفكر ، ترجمة : شوقي جلال
5 . عبد الرحمان الصالحي ، علم السياسة من التنظير الى المعاصرة
6 . محمد مفتي ، العلاقات الدولية في الفكر السياسي العربي
7 . مصطفى النشار ، تطور الفكر السياسي القديم من صولون حتى ابن خلدون
8 . برودويل ، تاريخ و قواعد الحضارات ، ترجمة : حسين شريف
9 . عبد الحميد الصالح ، فوكوياما و الخطاب اللبرالي في سقوط الأيديولوجيا ، مجلة جامعة دمشق للآداب و العلوم الإنسانية و التربوية ، دمشق ، المجلد 13 ، العدد 3 ، 1998
10 . حوار مع فوكوياما في ندوة مؤسسة الملك عبد العزيز للدراسات الاسلامية و العلوم الانسانية ، الدار البيضاء ، المغرب ، 2005 ، تحت عنوان " وجهة التاريخ : العقل و شروط الوجود الإنساني "
11 . عبد العزيز قاسم ، نهاية التاريخ تحت مجهر الفكر العربي
12 . الميجالوثميا : هي كلمة إغريقية الأصل ، تعني القوة الغضبية العرمة ، ترغب في نزع الاعتراف بالقوة ، و تعتبر نوعا من جنون العظمة ، " عبد القادر بوعرفة ، الأساس الأسطوري لنهاية التاريخ ، مجلة انسانيات ، الجزائر "
13 . الإيسوثيميا : كلمة ذات أصل إغريقي ، تعني نع الاعتراف بالتساوي و الندية ، و هذه النزعة مطلب في خطاب الثورات ، و غالبا ما تتخذ قيما أخلاقية ، كالكرامة ، الاحترام ، المساواة ، العدالة ، و يرى نيتشه أن هذه القيم الجوفاء التي صنعها الضعفاء ليحدوا من قوة الأسياد ، " نفس المرجع "
14 . محمد عطوان ، صور الآخر ( في الفكر السياسي العربي المعاصر )
15 . جاك دريدا ، أطياف ماركس ، ترجمة :منذر عياشي
16 . محمد جربوعة ، مهلا هينتيغتون ... مهلا فوكوياما ، نظرية الشبكة التصفوية في صراع الثقافات و المادة ، إعداد المركز العالمي للاستشارات الاستراتيجية ، الرياض ، مكتبة العبيكان








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بايدن يوقع حزم المساعدات الخارجية.. فهل ستمثل دفعة سياسية له


.. شهيد برصاص الاحتلال الإسرائيلي بعد اقتحامها مدينة رام الله ف




.. بايدن يسخر من ترمب ومن -صبغ شعره- خلال حفل انتخابي


.. أب يبكي بحرقة في وداع طفلته التي قتلها القصف الإسرائيلي




.. -الأسوأ في العالم-.. مرض مهاجم أتليتيكو مدريد ألفارو موراتا