الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مشهد لن أنساه أبدا

حنضوري حميد
كاتب وباحث في التاريخ

(Hamid Handouri)

2022 / 11 / 12
سيرة ذاتية


بعد غياب دام سبعة أشهر في سفري الأول خارج البلاد، كان أبي يطير فرحا وسرورا عند سماعه خبر عودة ابنه الوحيد إليه. لكن هذه الفرحة لم تدم طويلا. كان يوم رجوعي إلى البيت يوما استثنائيا لم يكن كالمألوف، سعادة وفرح ومرح وشعور ممزج بالقلق، لم أخبر أسرتي بالعودة إلى البيت لكي تكون المفاجئة لكن كان الواقع عكس ذلك فتفاجأت بالمشهد الذي وجدته. كان يوم وصولي إلى البيت قد انتهى نهاره، كان الوقت حينها ما بين صلاة المغرب والعشاء في أيام الأولى من عطلة فصل الصيف.
فعند وصولي سلمت على الأسرة بتوالي، حييتهم جميعا واحدا تلوى الأخر، كلام وعناق وقُبَل المحبة والاشتقاق، واستمريت بهذا المنوال حتى أنهيت سلامي على الجميع، فإذا برجل عجوز تجاوز من العمر السبعين، يجلس في ركن البيت، رجل نحيف القامة أسمر اللون ناخر العين، رقيق الشفتين، ورجليه رقيقتان مثل عود القصب، وبثياب قديم، لا يقدر على التحرك، نصفه الأسفل من الجسم ميت، هيكل عظمي في صفة الانسان، نظرت إليه ونظر إليّ بنظرات خافتة، وكررت النظر إليه مستغربا مما رأيته، كانت نظراتنا متفاوتة لكن نظرات تحمل حزنا وهمّا وغمّا شقت قلبي، ومن يكون هذا الرجل حتى أثر في؟ إنه سند حياتي إنه مظلة حياتي إنه أبي... ارتميت عليه وعانقته وعانقني بقوة حتى يكاد أن يخنق أنفاسي، ولدي ولدي حميد رجعتي ليا ثم أجهش بالبكاء. قبلت رأسه ثم يده، ووضعت يدي على كتفه، و وجلست بجانبه على يده الأيمن، ولم أقدر على أن أطول النظر إليه، لأنني كلما حاولت أن أسرق النظر إليه نظرة خافتة، اهتزت فيها مشاعري واستفزت فيها أدميتي. أه أنه أبي لقد فعلت فيه الحياة أفاعل، قبل أن كان رجل ذو بنية قوية، بدوي المنشأ .
في صبيحة يوم الثاني من لقاءنا، وكواجب الإنساني وبرّ بالوالدين، استيقظت لأقدم لأبي وجبة الفطور وأخدمه في بعض الأشياء والحاجيات وأقدم له المساعدة إن احتاج إليّ، لكن الأمر اختلف هذه المرة على ما كان عليه في الأيام السابقة، وجدت جبينه يصب عرقا أصفر، يداه مرتخيتان وعينيه مغلقتان، لم استوعب المشهد جيدا، كنت أظن أنه نائم، فناديته مرتين أبي، أبي ... لكن لم يجبن، وناديته مرة أخرى لكن بدون جدوى. أخبرت فورا ابن عمي، الذي يسكن بجوارنا بمسافة لا تتجاوز دقيقتين ، لأستفسره عن المشهد بحكم أنه يكبرنا سنا وأكثرنا خبرة في الحياة ،وكان حامل لكتاب الله لهذا يحظى بالاحترام.
وكذلك كان، فبعد مدة قصيرة انضم إلينا ابن عمي سي محمد، نظر إليه ثم جلس في جانبه الأيمن وقابلته أنا من الجهة الأخرى على يده الأيسر، ثم بدأ يقرأ عليه " يا أيها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية..."، حينها علمت أن الأمر ازداد سوءً، بالرغم أنني لم أدرك معنى الموت، لكن عشت على أمل ولو كان مزيفا أن أبي سيبقى معنا، وسنكون جنبا إلى جنب، وسندا لبعضنا البعض. لكن لم يكن ذلك، لينكسر حلمي بعد دقائق معدودة ليستسلم لقدر الله.
نظر إليّ أبي وهو في حالة متقدمة من الاحتضار، فكانت تلك النظرة هي الأخيرة في حياته ليغادرنا إلى عالم الصمت الأبدي، ليغادرنا إلى دار البقاء للقاء ربه. لم يقل لي لا وصية ولا أمر ولا شيء، لكن غادر؛ وفي تلك اللحظة التي فاضت فيه روحه، أدركت أن مظلة الأبوة التي كانت تحمني قد انكسرت، وأدركت أن لاحد يحب لك الخير والنجاح ألا والديك، وأدركت أن حمل الحياة بذون أب صعب، وأدركت أن السير المشوار بدون سند ثقل... أدركت أن لكل في هذه الحياة بديل إلا الوالدين، ولهذا لا تحسبوا أن الفراق هين. فيا أبي إن أذيتك بدموعي فسامحني، فأنا لا أبكي اعتراضا لقدر ربي وإنما أبكي شوقا واشتياقا لك فليس للمشتاق حول ولا قوة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إنسحاب وحدات الجيش الإسرائيلي وقصف مكثف لشمال القطاع | الأخب


.. صنّاع الشهرة - تيك توكر تطلب يد عريس ??.. وكيف تجني الأموال




.. إيران تتوعد بمحو إسرائيل وتدرس بدقة سيناريوهات المواجهة


.. بآلاف الجنود.. روسيا تحاول اقتحام منطقة استراتيجية شرق أوكرا




.. «حزب الله» يشن أعمق هجوم داخل إسرائيل.. هل تتطورالاشتباكات إ