الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأستاذ عبد الجليل الركابي ..... التأرخ والسيرة

راغب الركابي

2022 / 11 / 13
المجتمع المدني


عندما نكتب أو ندون حياة رجل أثر فينا وفي محيطه ومجتمعه ، فالواجب أولاً يقتضي عدم التطير وإلتزام جانب الحرص و الكياسة وعدم الإستعجال ، وثانياً : يقتضي المراجعة الهادئة لكل الدفاتر والأوراق التي أعتنت أو سجلت حياة هذا الرجل في عمله وتحركه ، فالتاريخ والسيرة التي نكتب عنهما وندون لم تكن فرط رغبة من محبين و أصدقاء وحسب بل كانت عبارة عن قناعة وإيمان ، بأن تاريخ الراحل الكبير مفعم بالحيوية والصدق في المجالات التي تحرك بها وعمل سياسية كانت أم إجتماعية أو ثقافية وفكرية ، فكانت هذه وغيرها عامل الدفع والحسم في وجوب تدوين سيرته وتاريخه على نحو واقعي منتظم وواضح ، وكل أولاء كانوا بمثابة القواعد العملية التي على ضوئها أهتدينا وتوكلنا .

ونقول : أن قضية تدوين التاريخ أو التدوين التاريخي تُعرف من الناحية الموضوعية على أنها سجل عام لكل الحوادث والقضايا بل هو في أحيان كثيرة دراسة في الشخصية العامة ، وبما إن ذلك كذلك فهذا يتطلب حتماً وبالذات الكثير من الحرص والكثير من التأني و الرعاية والمتابعة والرصد ، ونظن إن كل تلكم المعاني لن تستوفي جميع الحالة المنصوص عليها ، وهكذا تظل في حالات كثيرة قاصرة في التمكن و الإلمام والإحاطة ، إن لم يرافقها توثيق رصين بالأدلة والبراهين ، ومن جانب أخر تبدو قضية التدوين ذات طبيعة ميكانيكة أو قل ذات صفة مادية ، مما يستوجب فيها رعاية القول المأثور - لا يسقط الميسور بالمعسور - .

إذن فالتدوين التاريخي هو : - ذلك السجل التاريخي الموضوعي للأحداث والقضايا التي حدثت في الماضي ( القريب أو البعيد ) - ، وهو عملياً : يعني تلك الممارسة التي يقوم بها أهل الإختصاص في تحديد ملامح الموضوعات والقضايا ، وكذلك في الرجال الذين أثروا في صياغة الحياة و صناعتها ، وقد أسعفتنا تجربة الثقافة الإنسانية في أنها رصدت هذا الماضي ودونته على شكل أقسام و فصول وأبواب تنسجم والحال التي كان عليها أو فيها .

وفي سجالنا المعرفي وبحثنا عن الحقيقة نعتبر ان التدوين التاريخي هو المادة التي تقربنا للموروث التاريخي في صيغه المتعددة وألوانه المختلفة ، كما أن الكتب الدراسية في المعاهد والجامعات تعتمد في الغالب على التدوين بإعتباره سجلاً للماضي أو فهرستا للموضوعات ، سواء في بيان الطبيعة المادية للتاريخ أو الطبيعة المثالية للتاريخ ، و إن ما دُون فيه كان من أجل تسهيل مهمة البحث العلمي والمعرفي ، فمثلاً تاريخ الأديان وتاريخ الأمم والشعوب والتاريخ السياسي والثقافي والإجتماعي والإقتصادي وغيرهما ، إنما كُتب أو دون بصيغة ما وكان للبحوث والدراسات اللاحقة الفكرية للمدارس المختلفة دورا في الحكم عليه وبيان جهتي الصواب والخطأ فيه ، ومانعتمده في دراستنا هذه ليس على النسخ المدونة من التاريخ بل مما وقع بين أيدينا ومما تعلمناه على نحو مباشر منه رحمه الله ، وولهذا جاءت أحكامنا في هذا السياق موافقة للقواعد والشروط الموضوعية المعتمدة في هذا الشأن والتي ستتكشف لا حقاً .

أي إن ما نحن بصدده الآن من الناحية المعرفية يمكننا إعتباره أو تسميته ( بالتدوين الأولي ) لشخصية الراحل ومراحل تطورها وتكوينها ، مع التأكيد منا بأن ذلك يكون على نحو مستقل ، وسوف نبرز من خلال الحلقات القادمة ذلك عملياً والحاجة أو الأهمية من قراءة ودراسة أخبار الراحل الكبير وتأريخه ، نقول هذا في سياق وعينا التاريخي أو من جهة وعي التاريخ نفسه ، بمعنى إننا سنستعمل الأدوات الفكرية والمعرفية الرائجة لجهة التوضيح لمن يجهل حياته هذا أولاً ، وثانياً للتوقف مع من يرغب في كشف وبيان المحطات المثيرة في حياته رحمه الله .

وثالثاً : شعرت من خلال جملة الرسائل التي وردتنا من البعض أنهم يسألون بعفوية وصدق مدفوعين بحاجة مجردة للمعرفة ، فكان لا بد من الأدلاء ببعض التوضيحات لما يستحقه المقام من شرح وبيان ، ورابعاً : إن حياة الراحل الكبير من جهتنا تستحق التسجيل والتدوين ، لفهم طبيعته الفكرية والإيمانية والوطنية وفهم طبيعته الإنسانية وتجاربه الجديرة بالتدوين والتعريف ، وقد يقول قائل : وهل تصح المقارنة بينه وبين من عاشوا زمنه أو في مرحلته من علماء ومفكرين وقادة سياسين ؟ ، نقول : المقارنة تكون صحيحة إن كان يُراد منها بيان الواقع ، أو يُراد منها رسم المسار والخط الذي كان ينتهجه وما كان عليه والخط الذي عليه الأخرين ، وهنا تكون المقارنة واجبة ومطلوبة ، فشخصية الراحل رحمه الله كانت تركز على مجموعة القيم الإنسانية والسماوية ، وكان في حديثه دائماً يركز على مفهوم العدالة المنصوص عليها بالكتب السماوية والقوانين الإنسانية وفي صيغتي الأمر والصفة ، وهو يرى أن تشكل الدولة الناجحة قوامها العدل الذي يسبق المنادات بالأشياء الأخرى ، ويجد في ذلك تكريس لدور الإنسان المواطن من غير توصيفات تابعة ولا حقة ، بهذا الإعتبار تصح المقارنة مع مفكرين تاريخين وفلاسفة نهضويين ، هذا بملاحظة ان الراحل لم يقصي الحاجة إلى وعي المستقبل من وحي تجارب الأمم والشعوب المختلفة ، ولا ضير عنده في التلاقح الفكري والعملي مع المختلفين طالما يجعل من الحاجة البشرية للحياة الحرة العادلة ممكنة ومتصورة .

وخامساً : نقطة الإرتكاز في فهم شخصية الراحل الكبير هو في إصراره على ان النجاح مرتبط بالتنظيم الدقيق لشؤون الحياة ، وهو يرى في ذلك حافزا لتطور ترتيب وإنتظام المجتمع الناجح ، من هنا كان يرى رحمه الله إن ذلك لا يكون ممكناً في ظل سيادة الجهل و النزعات الضيقة ، ولهذا وجه ورعى بشكل مباشر في دعم التعليم المجاني لجميع الفئات والمراحل ، كذلك طالب بجعل التأمين الصحي من جهة الدولة لكافة المواطنين أمراً واجباً ، منطلقاً في ذلك من حماية المجتمع من العبثية والرأسمالية ومن تجار السوء ، وهو يعترف بأن نشأة الطفل في جو أسري صالح وتعليم صحيح يجعل من المستقبل أكثر إشراقاً ، و سيجعل من الأمة قادرة على حماية نفسها من التصدع والخمول ، وبالتالي يدفعها للشعور بمسؤولياتها الوطنية والأخلاقية ، وكان رحمه الله يعتبر أن آفة تمزيق الوطن الرئيسية يكون من خلال الضغط والضخ الطائفي والمذهبي والقومي الضيق ، وكل ذلك لا يخدم أبداً صلاح الجانب الوطني في مجالي التنمية والإعمار .

إن القيم الأخلاقية والميول الإنسانية التي أوجدها فينا ، كانت ترتكز على قواعد معرفية وإيمانية شديدة الوضوح ، وهذه ساعدت في تسهيل عملية الخروج من الأزمات ولم تتأثر بما يروج له أعداء التجارب الإنسانية الداعمة لمشروع العدالة والتحرير ، ففي نهاية حقبة الستينات من القرن المنصرم شارك الراحل الكبير ، في ظهور جماعة الرفض للنظم الدكتاتورية والمستبدة ، وكتب في ذلك رسالة للمراجع في النجف الأشرف يحثهم على التصدي للموجات التي تكبل الإنسان العراقي وتحرمه حقه في الحياة ، وفي تلك المرحلة كانت تربطه بشخصيات وازنة منهم بعلاقة متينة وحوار صريح ، جعلت منهم مشاركاً فاعلاً في عملية الإعداد للإنقلاب في سنة 1969 م .
وهكذا كان في بداياته الأولى جزءاً من مشروع تغييري كبير ، كما كان جزءاً من تنظيم سياسي واسع جامع يهدف إلى بناء دولة الإنسان ، التي تقوم على أساس العدل والحرية والسلام .

وخلاصة القول في هذه المقدمة : إن الكتابة في تاريخ الراحل وسيرته ، تحتل عندنا مكاناً متقدماً مرموقاً فهي بالنسبة لنا ثقافة ومعرفة وعلم ، فنحن أمام رجل يمكن وصفه بالسياسي أو بالأديب أو بالناشط المدني أو بالفيلسوف الداعي إلى الحكمة والموعظة أو بالإنسان الكادح الذي يعمل ويتحرك بين الناس والجماهير ، وهو نفسه رحمه الله جعل من ثقافتنا أكثر وعياً ومراعاة لطرائق الناس البسطاء ، و جعل من وعينا التاريخي وعياً شعبياً بالمعنى الذي تحدث عنه ابن خلدون ، وتبقى معرفتنا به دليلنا إلى فهم تاريخ وسيرة الرجال المجاهدين والمناضلين ، وتشاء الأقدار دائماً أن لا يطوى من سجل تاريخ هؤلاء ، من دون ذكر مبارك يخلد نضالهم ويخرجه من السرية والكتمان إلى الملأ والعلن ، ومع توكيد بسيط نضيفه هنا : بأن الإعتبارات السياسية والإجتماعية كان لهما دوراً في جعل الكثير من عمل الوطنين سراً ، ورب قائل يقول وتلك نعمة لحماية العمل وحماية العاملين ، كذلك نقول : كان للخشية دورا في عدم الكشف لئلا يضيع الحق قبل ان يبلغ نصابه ، ونضيف إلى هذا وذاك ماكان يتمتع به الراحل الكبير من حرص شديد ، وتواضع وتدبر يجعل من قضية تدوين تاريخه وسيرته والإلمام بهما وبحياته يحتاج للمزيد من التنقيب والبحث .

ملاحظة : كان رحمه الله كما نعرفه لا يرغب بالصخب الإعلامي والتهريج والدعاية ، و التي يرغب بهما غيره من الأخرين وهم كثر ، ولهذا كانت وصيته : - أن لا يعرض له أو عنه شيء من غير ضبط أومراجعة أوتحقيق وتقنين - ، وتمشياً مع هذا السلوك الصارم كان لزاماً علينا أخذ الحيطة والحذر أولاً والاستأذان من خاصته من أهله وأخوته ومحبيه ثانياً ، لعرض بعضاً من جوانب حياتيه التي أُخفيت أو غُيبت عن العامة والناس ..

يتبع في الحلقة المقبلة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في قضية ترحيل النازحين السوريين... لبنان ليس طرفًا في اتفاقي


.. اعتقال مناهضين لحرب إسرائيل على غزة بجامعة جنوب كاليفورنيا




.. بينهم نتنياهو.. مذكرات اعتقال دولية بحق قادة إسرائيل بسبب حر


.. اعتقال مصور قناة -فوكس 7- الأميركية أثناء تغطيته مظاهرات مؤي




.. برنامج الأغذية العالمي: معايير المجاعة الثلاثة ستتحقق خلال 6