الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية تأشيرة السعادة : الجزء الثاني

صبيحة شبر

2022 / 11 / 13
الادب والفن


الجزء الثاني
(31)
تنجحين في الاتصال بأسرتك بعد محاولات كثيرة فشلت اكثرها ، يفرحك ان تسمعي صوت ابيك بعد غياب امتد لأسبوعين :
- - مرحبا دلال ، كيف انت ؟ وما اخبارك ؟ وكيف هو بهاء ، هل هو معك ؟ أريد التحدث معه!
- - لم يأت بهاء معي
لماذا ؟ لم يشأ بهاء التحدث معي ؟ لابد انك قد اغضبته !
- لم افعل له ما يسيء اليه !
ولماذا لم يحضر معك ؟لماذا لم تبذلي جهدك في اقناعه ؟
- حاولت ولم يوافق !
كوني زوجة صالحة يا ابنتي ، زوجك هو مسكنك ومن يقيك غوائل الزمن !--
- اعرف هذا يا ابي ، لكن بهاء لم يكن لي زوجا صالحا !
- كوني له كما يريد يكن لك ما تحبين !
- حاولت كثيرا وفشلت
- متى كان هذا ؟ انت لم تخبريني ابدا كيف تسير معكما الامور ؟
- كنت اخشى عليك من الاخبار السيئة !
- وهل امتناعه عن مرافقتك في التحدث معي بالهاتف يعتبر من الاخبار السيئة ؟ هذا امر طبيعي يا ابنتي يحدث في كل الأسر ، ومن واجب المرأة ان تصبر فهي التي تبني الاسرة وتحافظ عليها ، اصبري يا ابنتي ولا يصيبك الجزع في اول خطوة ! تعالي غدا مع بهاء وتحدثا معي !
- بهاء لا يحب ان يصاحبني !
- لماذا ؟
- لقد طلقني !
- متى كان هذا ؟ وما يقوله اللسان ليس دائما ما يحمله القلب !
- اول ما وصلنا الى جزيرة السعادة رمى علي الطلاق !
- وماذا حدث ليقوم بهاء بتطليقك ؟
- لم يحدث شيء ، طلبت منه عقد الزواج ، فغضب وطلقني ثم فتح حقيبته واخرج عقد زواجنا ومزقه امام الشهود !
- وانت اين نسختك من العقد ؟
- ليس معي نسخة ، وكنت كلما اطلب منه نسختي يثور متهما اياي انني لا أثق به !
- لم اكن أتوقع ان الامور تسوء بينكما بهذه السرعة ! ماذا ستفعلين يا ابنتي ؟
- سأعود الى بلدي بعد انتهاء فترة التأشيرة !
- حسن يا ابنتي ، حافظي على نفسك !
(32)
ينادى على الاربع اشخاص الى دائرة الامن لمعرفة بعض الامور التي بقيت غامضة :
- لم تخبرونا ماذا تشتغلون في بلادكم ؟
اجاب محمود :
- كل منا يشتغل في عمل مختلف عن الآخر !
- ماذا تعمل انت استاذ محمود ؟
- كاسب !
- ماذا يعني هذا العمل ؟
- اشتري بعض المواد من شركات محلية وابيعها لأربح بعض النقود ..
- وهل تربح الكثير ؟ لتبني بيتا ؟
- انا وزوجتي نتعاون على اعباء الحياة !
- ماذا تشتغل زوجتك ؟
- طبيبة متخصصة في امراض النساء !
- طبيبة وتركتها وحيدة لتنعم بالسفر ؟
- لم تشأ ان تترك عملها وتسافر معي !
- هل لكما اولاد ؟
- نعم ، لنا بنت واحدة وولدان ..
- من يعتني بهم ؟
- زوجتي التي هي امهم ..
- ولماذا لم تصحبهم في سفرتك ؟
- لا أعرف كيف اعتني بالأولاد الصغار ، كما ان امهم لا تستطيع الابتعاد عنهم !
وجه المسؤول الأمني السؤال الى سمير وزوجته :
- وانتما المتزوجان ماهو عملكما ؟
- موظفان في وزارة الزراعة ..
- وكيف استطعتما السفر ؟
- حصلنا على اجازة من العمل لمدة شهر وهذا حقنا ..
- جميل جدا ، وهل راتبكما يساعد في الحصول على منزل مناسب ؟
- لنا منزل صغير تعاونا معا في تأثيثه ...
يوجه المسؤول السؤال الى بهاء :
- انك بلا عمل كما مدون في بطاقتك الوطنية ، كيف تعيش ؟
- نتعاون انا وزوجتي !
- ماذا تشتغل زوجتك ؟
- مدرسة ..
- راتبها كبير ؟
- نعم المدرسون الجامعيون يستلمون راتبا كبيرا من الدولة !
- لكنكما الان منفصلان !
- دلال طيبة القلب وسوف اعود اليها !
- وهل يمكنها ان توافق على عودتك وا نت لم ترغب بتسجيل عقد الزواج ؟

- هي تحبني وسوف تسعد بعودتي !
(33)
تتواصل محاولاتي للاتصال بزوجتي سعدى ، ولكن عبثا ، جميع جهودي لا تنفعني :
- هل انت متأكد ان هذا رقم هاتف زوجتك ؟
- نعم كل التأكد ، هي لم تبدل رقمها منذ ان اقتنت هذا الهاتف !
- قد تكون بدلته حين سافرت ؟
- لكانت قد اخبرتني ، هي لا تقدم على عمل الا وانا اعرف !
- النساء يتغيرن !
- الا سعدى لن تتغير ، سوف تظل حبيبتي !
- حاول الاتصال بإحدى صديقاتها او جيرانكم !
- آه ... نعم هذا رقم ام نبيل صديقة سعدى القريبة !
- لنتصل ونعرف آخر الأخبار !
يتصل الموظف في البريد المركزي في جزيرة السعادة بهاتف ام نبيل ، يرن الهاتف كثيرا ، نسمع بعد طول انتظار :
- ألو ؟ من المتحدث ؟
- ام نبيل هنا ؟
- من يطلبها ؟
- انا الأستاذ غانم جليل !
- ومن تكون انت ؟
- زوج السيدة سعدى !
- سعدى من ؟ جيراننا وصديقة امي ؟
- نعم انها هي ، اين امك ؟
- كيف تتصل الا تعرف ماذا حدث ؟
- متذا حدث ؟ منذ اسبوعين وانا احاول الاتصال ولا اوفق !
- ألم تقرأ الأخبار في الصحف والمواقع النتية ؟
- ماذا حدث ؟ اصبحت اخاف من كلامك !
- حدث انفجار بسيارة مفخخة قبل اسبوعين !
- اين حدث الانفجار ؟
- هنا في منطقتنا هذه !
- لماذا ؟
- كانت صديقة امي سعدى تحتفل بعيد ميلاد احدى صديقاتها ، ودخلت سيارة الى شارعنا وتفجرت ، لأن الاحتفال بأعياد الميلاد حرام !
- -وسعدى ماذا حدث لها ؟
- كل من في المنزل احترقت جثته ! كنت انا وامي في السوق لشراء بعض الحاجات فانقذنا بعادنا عن المكان من الاحتراق !
- واين امك الآن ؟-
- امي مريضة جدا ، اتعبها الحادث ، وتراجع الان طبيبا !
- متى يمكننني التحدث معها ؟
- تراجع الطبيب مرتين في الاسبوع الاثنين والخميس ، تعال ايام الاحد او الثلاثاء او الأربعاء ، هي تحب التحدث معك سعدى كانت صديقتها المقربة !

(34)
اصابك الخبر بالحزن الكبير ، الاستاذ غانم جليل تعرفت عليه هنا في هذه الجزيرة ، وأصبحتما صديقين قريبين من بعضكما ، كلاكما وجد في الآخر الصديق الذي يمكنه ان يحدثه بأقرب الامور اليه ، والخاصة جدا بلا خوف او خشية ، ترافقان بعضكما في مراجعة البريد المركزي وتتمشيان معا حين عودتكما الى الفندق ، لم تجدي راحتك مع الاخرين الذين يشاركونك السفرة الى جزيرة السعادة ، وقف الأستاذ غانم الى جانبك حين ظهر من اخترته زوجا على حقيقته واعلن بكل وقاحة انه غير مستعد الى سجن نفسه في بيت واحد معك باسم الزوجية وأغلالها ، وانه سوف ينأى بنفسه عن كل انواع القيود حتى وان كانت انت الانسانة التي ارتضت ان تعبش مع رجل دون ان يعترف بما يوثق الزواج منها ، مع ما يتبعه عمله ذاك من متاعب لك في مجتمع لا يقدر المتنازلون عن حقوقهم باسم الحب ، والرجل الذي وقف بجانبك سمع بالخبر الذي طعنه واغتال راحته وشعوره بالسعادة التي كان يحملها قبل سماع الخبر ، كيف يمكنك ان تقفي بجانبه وتخففي عنه المصاب الأليم ؟ ماذا بمقدورك ان تفعلي وكل الكلمات المعزية لن تجدي وتظل عاجزة عن الاتيان بالراحة الى النفس الحزينة التي اصابها فقد الاحباب وقضى على اطمئنانها ، ماذا يمكنك ان تفعلي وانت قد اسمعته كل كلمات التعزية التي تقال في مثل هذه المناسبات ؟ وقد لاحظت بأم عينك ان تلك الكلمات لم تنفع في اعادة النفس الحزينة التي فقدت احبابها الى ما كانت عليه قبل سماع الأخبار الفاجعة، تظلين عاجزة عن نجدة الرجل الذي كانت مواقفه الشجاعة تساعدك وجعلتك تنسين موقف اللامبالاة الذي وقفه زوجك منك ومن معاناتك وقلقك ، استطاع الاستاذ غانم ان يجعلك امرأة شجاعة لا تحجم عن اخبار اسرتها بالحقيقة ، وفعلا اتصلت بأبيك ونقلت له الخبر عن الفاجعة التي اغتالت راحتك ، فتفهم ابوك الامر وحاول ان يساعدك ، نزلت دموعك وانت تسمعين ما حل بأسرة الاستاذ النبيل وماذا حدث لزوجته الحبيبة ، كنتما معا في البريد المركزي وحين انهمرت الاخبار الفاجعة لم تتصلي انت بأسرتك ، وقلت في نفسك :
- في المرة القادمة اتصل بأسرتي ، عل الأستاذ غانم يكون في وضع افضل ، فهو رجل شجاع ويستطيع ان يصبر على الفواجع !
تتأملين ان يتحسن وضعك ، فقد لمست انك افضل مما كنت سابقا حين اصبحت صديقة لغانم جليل فهو انسان مختلف عما وجدته في الرجل الذي عاشرته ولم تجدي معه ما تتطلع اليه نفسك من شعور بالسعادة ، عشت غريبة تعرفين الكثير من الناس ولكن لا احد منهم يمكن ان تجدينه الاقرب ، وغانم جليل صديق وفي يمر بفترة عصيبة وعليك ان تقفي بجانبه كما وقف بجانبك حين تخلى عنك في بلاد الغربة من اخترته ليشاركك الحياة ....
الكلمات لا تجدي في اول ايام معرفته بالخبر ، صمت ولم يسمع احدا ، وكل ما نردده من كلمات العزاء لن تنفعه ، لقد فقد الرفيقة والزوجة والحبيبة ، وكان يسبغ عليها اجمل الصفات ، ولم يجد في بلاد الغربة من يشكو اليه مرارة الفقد ، وألم من تغتال عنده الحياة ، سعدى اتخذها حياة يبثها احزانه وتشاركه فرحته ، ولقد استطاعا معا ان يبنيا عشا هانئا سعيدا ، لم يرتفع له صوت وكان كل ما يطلبه تلبيه سعدى ، كما كانت امنياتها منفذة من قبل الزوج والحبيب الأستاذ غانم جليل ....

(35.)
تنتهي فترة الاقامة الجبرية في الفندق المختار في جزيرة السعادة ، وحان لهم الاستعداد للعودة الى بلادهم ، لم يتعرف احدهم على الآخر وبقي جميع الاربعة اشخاص ليسوا ممن يجابه الصعاب ويحاول التغلب عليها ، كان كل منهم معتمدا على غيره ، محمود اتكل على زوجته وترك لها اولادهما تعتني بهم بالإضافة الى تدبير امور المنزل التي تهم كل النساء اللاتي يبدعن في ادارة المنزل والقيام بما يتطلبه العيش من مهام ، والمتزوجان سمير ونادية لهما اهتمام مشترك ويتعاونان في الصرف على المنزل ، ولكن سمير يضع كل الواجبات المنزلية على عاتق زوجته نادية ، فهي تقوم بإعداد الطعام والتسوق وعمل ميزانية البيت فهي مسؤولية الزوجة كما يراها سمير ، كما على نادية ان تقوم بتنظيف المنزل وترتيبه وغسل الملابس وكيها وغسل الصحون :
- ألا تساعدني في الاعمال المنزلية ؟
- يكفي انني اساعد في الاقتصاد ، نتقاسم ما نشتريه بيننا ، انت تدفعين نصف المبلغ وانا ادفع النصف الباقي ..
- لكني اشقى بالأعمال المنزلية .. لا تذكر زوجتي ، انا تجاهلتها منذ البداية ، حين كانت تردد الاقوال المعروفة بحقوق المرأة كنت اقابلها بالأذن الطرشة ، لهذا اعتادت على ان تقوم بكل امر بمفردها ، فأنا الزوج الآمر الناهي !
يلتفت بهاء الى مادية ويقول :
- كل الزوجات عليهن الاعمال المنزلية ، وبعضهن يعانين من المهام الاقتصادية ، خذي الزوجة دلال
- ولكن دلال تمردت عليك !
- لن تتمرد ....هي تحبني ، ولن تستطيع البعاد عني !
- ان نويت التمسك بزوجتك عليك ان تسجل عقد الزواج !
- لن اسجل شيئا ، وسوف تظل دلال معي !
- وهل تبقى معك محرومة من حقوق الزوجة والانسان ؟
- هكذا انا ! منذ البداية عودتها على ان الكلام شيء والفعل شيء آخر ...
- هي ادركت حقوقها اخيرا !
- سوف اجعلها تعود لي !
- لا اظن !
- لماذا لا تظنين بإمكانية عودتها لي سيدة نادية ؟
- لأنني قد رأيت الاصرار على استرداد الحقوق من السيدة دلال !
- كيف رأيتها ؟
- دلال امرأة طيبة ولن تبقى على طيبتها ان وجدت ان الطيبة المبالغ بها تسيء اليها !!
- وما ذا جرى لتتغير ؟ متزوجان منذ عام ولم يحدث شيء !
- احبتك نعم ، ولكنها حين وجدت انك لا تبادلها الحب ، تغيرت !
- ابقيت الحب نفسه منذ ان تعرفت عليها !
- وجدت عدم الحفاظ على عاطفتها فانقلبت !

(36)
تواصل وسائل الاعلام في جزيرة السعادة الكتابة حول التفجيرات التي حدثت في بغداد ، تسأل العراقيين عن أسباب هذا الانهيار في الوضع الامني ÷، ولماذا تكثر عمليات الاغتيال للأبرياء ، أقرأ في الصحافة واشاهد في القنوات الفضائية ان الناس ينسبون بؤس الحياة الى انهم لا يحبون العمل ولا يثقون بالنضال ويستهينون به ، فقد بلغ التشاؤم مداه ، لا اعرف انني يئست من تبدل ظروف الحياة نحو الأحسن ، بقي التفاؤل ملازما لي ،لكنني لم اجد مبررا لكل اعمال العدوان التي ترتكب لتهديد العراقيين ووأد حيواتهم ،وكأن الناس اجمعين اتفقوا على ان يسلبوا من العراقيين صفاتهم الجميلة ورغبتهم ببناء حياة آمنة لا تهددها التفجيرات والاعمال الارهابية ، احاول الاتصال بأم نبيل راغبا بالتعرف على الاسباب الدافعة لاغتيال الحبيبة سعدى ، رغم ان جميع المسافرين معي الى جزيرة السعادة قد وقفوا بجانبي مخففين عني الألم وشعور قاس بالفقدان ، وان كثيرا من الاصدقاء حاولوا ان يتصلوا بي داعين الله ان يخفف عني المصاب ، الا انني يشتد عندي الحزن واتساءل لماذا العراقيون وحدهم يعانون سوء الاحوال ، وانهم ينتقلون من حالة مأساوية الى حالة اشد مرارة وحزنا ، مضى عهد الدكتاتورية وحروبها العبثية المشتعلة ضد الجار والصديق ، وجاء عهد الاحتلال الامريكي حيث السعي الى موت كل محاولة لجعل البلاد تنعم بعد مسيرة شقاء طويل ، تجيبني ابنة صديقة زوجتي السيدة ام نبيل :
- امي ما زالت متعبة ، سعدى صديقتها المقربة !
- اين امك الآن ؟ أرغب بالتحدث معها !
- نقلناها الى المستشفى ، وقعت وسبب لها الوقوع نزفا في ساقها ، فنقلت الى الطواريء ، كي يعتنى بها !
- من معها ؟ ليقوم بالاعتناء ؟
- اختي رضوى تبقى مع امي طوال فترة الصباح ..
- وفي الليل ؟
- اذهب انا في الليل لأقوم بالعناية بأمي ..
- وكيف اصبح حالها الآن ؟
- صارت احسن ، بعد ان منحوها اربع قناني من الدم ..
- هل سالت منها الكثير من الدماء ؟
- بقي النزيف حتى نقلت بأمر الطبيب المعالج الى المستشفى .
- هل يمكنني الاتصال بها في المستشفى ؟
- نعم ، تسألها عن حالها فقط !
- وهل يمكنني سؤالها عن صديقتها ؟
- لا ... لئلا تعود الى التعب مرة اخرى ، يحاولون في المستشفى ان يجعلوها تنسى فقدان اعز صديقة !
- اعرف انها صديقة وفية لسعدى من فترة طويلة وقبل ارتباطنا معا !
- اجل السؤال عن خالتي سعدى لوقت آخر !

(37)
تمرين بوقت عصيب ، تحاولين ان تقفي بجانب الانسان الوحيد الذي آزرك في بلاد الغربة ، تجدين ان كلماتك المشجعة المواسية لا تجدي نفعا انه رجل لا ينسى الحبيبة ، يظل معها مهما اشتد الالم وتفاقمت المصيبة ، يرسل له الاصدقاء رسائل التعزية فيقوم بقراءتها دون ان تنسيه انه فقد الحبيبة الوحيدة ، يحدثني عن مناقبها وانها مثل نادر بين النساء ، وان جميع نساء بلادنا يتميزن بالوفاء ولكن سعدى تفوقهن اخلاصا ومنزلة ، لا تظنين ان غانم جليل سوف يجد البديلة لزوجته الراحلة والتي اغتيلت وهي في عز الشباب والقوة والشجاعة ، تجدين ان الاستاذ غانم رغم حزنه الشديد الا انه بقي محافظا على وقوفه بجانبك ، لم تجدي ما تردين به على كرمه وشدة نبله الا كلمات قلائل ، ماذا يمكنك ان تفعلي والموت الزؤام فاغر فاه ، في كل ساعة يغتال المئات من خيرة ابناء الرافدين وبناته ، هل كلمات التعزية كلها قادرة على التخفيف من الهموم ، وهل الرسائل التي يبعثها الأصدقاء تستطيع ان تنسي الانسان حجم الكارثة ، رجل سعيد جعله الارهاب تعيسا وحيدا ، تحاولين ان تكوني معه ولكن ماذا يمكنك ان تفعلي وقدراتك محدودة ، وانت لا تجدينه الا محاطا بجمع من الناس ، هل يمكنك ان تبيني له انك الوحيدة التي تشعرين بضخامة المصاب وفداحة الألم ، نظر اليك كأخت مرت بأوقات صعبة وحاول ان يخفف المرارة ونجح ، ولكن شتان بين مصابه ومصابك ، حبيبك تخلى عنك وانت غريبة في جزيرة السعادة وتخليه ذاك ساعدك في قلعه من قلبك ، والاستاذ غانم وجه له الارهاب سلاحا مسموما سوف يبقيه طوال العمر حزينا وبائسا ، هل يمكن للايام ان تنسي الاستاذ غانم شدة المصاب ، وهل يمكن ان ينظر اليك كما تجدينه رجلا لا يخون ، والرجال الاوفياء نادرون ، وانت تحلمين !انتظري وقتا لتندمل جراح القلب ثم حاولي ، قد تتحقق امانيك ، من يدري لعل المستقبل القريب يبتسم لك بعد عبوسه الطويل ، لا تتمني المستحيل ، الاستاذ غانم المعجبات به كثيرات ، ولم تتجرأ احداهن ان تنظر الى نفسها بديلا عن الراحلة الحبيبة ، وأنت كثيرا ما وقف بجانبك حين اشتدت الصعاب وحاول ان يذللها ، وقد نجح في ذلك فابتسمت الدنيا امامك بعد ان جعلها بهاء تطيل العبوس ، الناس لا يتشابهون ، وهم مثل المعادن ، بعضهم النفيس والبعض الآخر التعيس ، والتجارب تعلمنا كيف نختار الأصدقاء ! ولكن الازواج كيف يمكن ان نختارهم ، بعد ان تقع الفأس بالرأس نكتشف اننا أخطأنا...
التضحيات الكثيرة التي قدمتها من اجل لا شيء افادتك ، علمتك ان الأيام ان جعلتنا نخسر الكثير ، فانها تقدم لنا العبر الناصعة ، وانت مهما امتد بك العمر ، فما زلت في ريعان الشباب ، سامحت بهاء لإساءاته التي ارتكبها بحقك ، لم تعرفي الحقد انت طيبة تنسين كل ما مر بك من اخفاقات ، وحان لك ان تبتسمي ، فالحياة ترحب بالأقوياء الذين ينتصرون على العقبات محاولين ان يخطوا لأنفسهم الطرق الصائبة للسعادة ...

(38)
الفاجعة التي قلبت حياة الصديق غانم جليل ، قد وحدت الأصدقاء ، وجعلتهم يتخذون موقفا واحدا ، ان الكوارث التي تصيب العراقيين لن تتوقف الا ان وجدت شعبا محبا متآلفا موحدا ، وان الجماهير يجب ان تستفيد مما مرت به ، فأعمال الكراهية لا ينبغي لها ان تمر مرور الكرام ،
الأصدقاء الذين كانوا ينظرون الى الحياة بلا مبالاة ، جعلتهم الكارثة يقفون بجانب الأستاذ غانم جليل ، بكى وشعر بالحزن الكبير حين سمع ان حبيبته قد اغتيلت بفعل سيارة مفخخة ، وبعد ان اتصل به الاصدقاء داخل العراق وخارجه معزين ، عاد غانم جليل الى طبيعته الاولى ، فانه شجاع وقوي لا يسمح لأي حادث ان يسلبه اليقين ان شعبه لابد ان يتغلب على الاعداء الذين يحاولون ان يئدوا كل شيء جميل في نفس الانسان ، كي ينتصر عليه اليأس ويجد نفسه عاجزا ان يفعل شيئا مفيدا ، عاد الاستاذ غانم يثق بقدرته ان يجابه الصعاب وينتصر عليها ..
الأصدقاء الأربعة لم يعودوا يجدون في الحياة اياما يعيشونها ولا يفكرون باليوم الذي يأتي بعدها ، بل أيقنوا ان الأيام لا تكون عبثا ، بل هي سلسلة من حياة المرء يجب ان يحياها الانسان كما ينبغي ولا يدعها تضيع دون ان يقدم شيئا لنفسه او لمجتمعه ..
كان الاصحاب ينظرون الى غانم جليل مختلفا عنهم لا يستطيعون ان يجعلوه قدوتهم ، ولكن بعد ان حدثت التفجيرات واقتلعت حياة سعدى الرفيقة والحبيبة ، صاروا يدركون ان المرء يمكن ان يصنع نوع الحياة التي يحياها ، وان السعادة من صنع البشر كما ان التعاسة نصيب المتخاذلين ....
وتحولت رفقة السفر الى صداقة متينة حين حدثت الكارثة ، فقد غانم جليل الزوجة الحبيبة ، وصار له اصدقاء كثيرون يتمنون وده ، ويدركون ان المصائب تكسب المرء الصداقات الجديدة ، لم يبق الزملاء يتصفون باللامبالاة ، بل اصبح لهم موقف من الحياة ، يعرفون ان الايام السيئة التي تمر بهم ÷، لا يمكن ان تتغير الا ان ناضلوا من اجل تغييرها ، وان كان احد الاشخاص يصبر على مرارة الاحوال ، فان الصبر ليس دائما من الامور المحمودة ، بل يمكن ان نصف الشخص الصبور بالخانع ان اعتاد العيش وكرامته مسلوبة، احاط الزملاء بغانم جليل محاولين ان يخففوا عنه ألم المصاب ، ووجدوه يستجيب لمحاولاتهم بان يكف عن اليأس ويقدم على الحياة ، فان من فقدها رغم محبتها ، فان الأيام كفيلة ان تجد له البديل ...

(39)
أحاول الاتصال بصديقة سعدى علني اعرف كيف اودت الاعمال الارهابية برفيقة دربي :
- كنت بعيدة عن المنطقة ، ذهبت انا وابنتي الى السوق لشراء بعض الحاجات التي يريدونها في الجامعة ، ويا ليتني لم ابتعد عن منطقة سكنانا ، كنت لا افارق صديقتي الحبيبة سعدى ، وحاولت اقناعها ان تصحبني في ذهابي الى التسوق ، لكنها اعتذرت ، فقد كانت زوجات أصدقائك يزرنها ويستفسرن عن احوالك في الرحلة الى جزيرة السعادة ، وقد اخبرتهم سعدى انكما كنتما تنويان السفر معا ولكن المسؤولين في مكتب الخطوط الجوية لجزيرة السعادة لم يوافقوا على منح التأشيرة لها ، وقالوا انهم في المرة القادمة سوف يمنحونها ، وهم لا يعرفون ان الاعمال الارهابية لن تدع مجالا للإنسان ان يحيا في وطنه ، وان يسعى لتحقيق ما يتمناه ، فقدت صديقتي الحبيبة وفقدت انت زوجتك ..
- من ذهب ضحية للإرهاب ؟
- كل سكان المنطقة الحياتية ، تهدم بيتكم وبيتنا والجيران القريبين من منزلينا ..
- وماذا فعل اهل سعدى ؟ امها وابوها واخوتها ؟
- اقاموا الفاتحة في منزلهم البعيد عن منطقتنا !
- وانت هل تهدم منزلك ايضا ؟
- منزلك ومنزلي تهدما ولم يبق منهما شيء
- ومن كان فيهما ؟
- منزلي كان فارغا فقد ذهبت مع ابنتي الى السوق ، ومنزلك كانت سعدى لوحدها بعد ان غادرتها زوجات الاصدقاء !
- زوجات الاصدقاء بخير ؟
- نعم ، بعد ان غادرن منزلكم بدقائق وركبن سيارة الأجرة ، جاء الارهاب واغتال صديقتي بالمفخخات !
- وهل توصلوا الى معرفة الفاعل ؟
- لم يعرفوا اسم المجرم ، وقد ذهب الى الجحيم !
- هل كان الفاعل سائق السيارة المفخخة ؟
- لا ندري ، ما زالوا يفحصون !

(40)
تنفذ نقودك ، اعطيتها لبهاء حين سافرتما وغادرتما الوطن ، لم تكوني تعرفين انه سيقف موقف المناوئ لك في حقك في تسجيل عقد القران ، كل ما تستلمينه من راتب نتيجة تعبك الطويل ، يأخذه منك ، وانت توافقين ، لقد اخترته لأنه صرح لك بالحب ، ولم تسألي هل مزاعمه صادقة ، وهل يمثل عليك ؟ رغبت برجل محب فجاءك بهاء ووافقت عليه قبل ان تتأكدي انه الانسان المناسب كي تمنحينه ثقتك الكبيرة ، وبقيت طوال عهدكما تمنحينه راتبك ، وهو يعطيك بعص الدنانير حين ترغبين ان تتسوقي للمنزل الذي يضمكما ، وكثيرا ما حاسبك :
- انت تبذرين ! لا تشتري الكثير من الطعام !
- لا يمكن ان نقتر على انفسنا في الضرورات !
- لا يجب ان نأكل كل يوم فاكهة ، او تحرصي على تناول السلطات في وجبة الغداء !
- راتبي يكفي كي نعيش مكرمين !
- وعلينا ان نكتفي باثاث المنزل والطعام ...
- هذه من الاساسيات !
- بل اريد ان اشتري قنينة عرق كل يوم !
- كل يوم ؟
- لن تحاسبيني !
- ولكن راتبي لا يكفي لعرقك كل يوم !
- لا اسمح لك بمحاسبتي !
تصمتين حرصا على سلامة العلاقة ، تحبين من جاءك معلنا حبه ورغبته في الحياة معا ، ولم تعرفي انكما سوف تبقيان دون توثيق عقد الزواج ، وانك تعيشين معه دون ان تصلي الى ما تحققه كل زوجة ، تبذلين ما تستطيعين من اجل ان يسود التفاهم والوئام ، وكل يوم يرتفع صوته وانت تسكتين ..
لماذا تتذكرين الحياة البائسة التي وضعك في أتونها ، مضت الايام ومن حقك ان تبتعدي وتحافظي على ايامك الباقية ، وان تعيشي حياتك كما ترغبين ، دون ان يعكر صفوك صراخ او تنازلات عن حقوقك ..
عليك الان ان تقفي بجانب الرجل الذي ابدا لك فهما واحتراما وتقديرا يمر بموقف صعب وعليك ان تؤازريه ..عليك الآن ان تتخلصي من المشكلة التي ألمت بك نتيجة الطيبة اللامبررة التي تتصفين بها ، كيف تسلمين بهاء راتبك وهو نتيجة تعبك المتواصل واجتهادك ، وثقت به كل الثقة ، وحتى بعد ان رفض تسجيل عقد الزواج في المحكمة وابدا تهمكه من رعبتك ونصيحة ابيك ان تسارعي وتسجلي عقد الزواج ، اخذ يسخر منك كعادته حين تختلفان في الأفكار ، وتتباين وجهات النظر ، فيأخذ بالصراخ متهما اياك بتعقيد الامور ، والتمسك بالمظاهر ، وكل مرة تتنازلين له عن حقك ، هل تخشين صراخه العالي ، او تخافين ان تفقديه ، وحبك له قوي وشديد انت لا تحبين ان تحبي من جديد ، تظنين ان الحب يكون مرة واحدة في الحياة ، وليس في طاقتك ان تحاولي الحب لرجل آخر ، والآن وقد ظهر من تحبينه على حقيقته ونساك ، هل تبقين طوال العمر تتذكرين ما سببه لك من مصاعب ؟لم تصدقي ان الذكريات لم تعد تسبب لك ألما ممضا وعنيفا ، الذكريات تجعلك قوية تعزز ثقتك بنفسك ، وانك قادرة على قتل الضعف داخل نفسك وجعله قوة كبيرة ، تذللين بها الصعاب ..

(41)
طالت ايام السفر والابتعاد عن العمل والمسؤولية ، لا يحتاج المرء الى اوقات طويلة ليشعر انه حر ، وزملاء السفر بقوا اياما طويلة يتمتعون بالفراغ ، وشربوا من كأس اللامبالاة حتى ثمالتها ، وها انهم يتوصلون الى ان المتعة لا تأتي بكثرة ساعات الفراغ ، وان اناسا اخرين حققوا النجاح الكبير بالعمل المثمر وبذل الجهد لإتقان كل شيء يكونون مسؤولين عنه ، فجأة افاقوا على الحقيقة ووجدوا انهم لا يمكن ان يجدوا الجمال ان بقوا بعيدين عن العمل والشعور بالمسؤولية ، غابوا عن الوعي كثيرا ، وأيقظتهم الفاجعة التي حلت بصديقهم غانم جليل ، كانت زوجته الحبيبة تملأ حياته بالبهجة واذا بسيارة مفخخة تغتال كل الفرح الذي يحيا به ، وان كان الحزن قد استبد به في الأيام الاولى ، فانه سرعان ما حاول ان يمتلك رباطة جأشه ، ويضع حدا لحالة الألم التي قضت على بهجته ، أيقن زملاء السفر ان الحزن الطويل لن يجدي شيئا ، وانه غير قادر على صنع الفرح واعادة الحياة الى سابق عهدها ، حاولوا ان يقتدوا بزميل الرحلة غانم جليل ، فهو حزين لكنه لا يدع الحزن يسيطر عليه ويقضي على مكامن الفرح التي تبدو كالضوء يستمد منها المرء الارادة لصنع فجر جديد ، انقلب الزملاء وصاروا على النقيض مما كانوا ، ارادوا ان يبذروا بذرة الفرح والايمان بالنفس المتفائلة بالقدرة على تغيير الواقع المظلم الى افضل ، لم يمتنع الاستاذ غانم جليل عن تناول الطعام في الايام الاولى لمعرفته بالكارثة ، لأنه يدرك ان الجسد يحفظ الروح والعاطفة والشعور ، وان الانسان يفقد كل قدراته ان لم يعتن بجسده ... الزملاء شعروا بعدم الرضا عن حياتهم الماضية ، لأنهم قضوها وهم لا يكترثون بشيء ، ولا يفكرون بغدهم ، ويستغلون من يحبهم ويشاركهم الحياة ، ويظنون ان الاشخاص الذين يعيشون معهم سوف يتحملون اللامبالاة التي يتصفون بها ، وانهم من المستحيل ان يبتعدوا عنهم لأنهم يعشقونهم ، ولكنهم بعد الكارثة التي اصابت زميلهم في الرحلة الى جزيرة السعادة ، أدركوا ان الحياة مشاركة على تذليل صعابها وجعلها تبدو اكثر جمالا ومتعة ، محمود اتصل هاتفيا بزوجته معبرا عن اشتياقه لها ورغبته في العودة لرؤية الاولاد الذي يرى الاب ان بعاده عنهم قد طال ، سمير اخذ يتودد الى نادية رغم انه لم يكن قاسيا معها ، خاف ان يحدث شيء لها فيتسبب في فراقهما عن بعضهما ، وبهاء تمنى لو لم يتعجل في ابداء عدم اكتراثه بالابتعاد عن زوجته حين اصرت على تسجيل عقد القران في المحكمة وعدم الاقتصار على عقد السيد ، حاول بهاء ان يعترف لدلال انه كان مقصرا بحقها وطلب منها ان تسامحه ، ولكن بعد فوات الأوان ، فقد صبرت دلال كثيرا على سوء المعاملة ولم يعد بمقدورها ان تتحمل اكثر ، تمنى الرجال لو كانوا يتصفون بإخلاص الاستاذ غانم جليل ورغبته ان تستمر سعادته مع سعدى ...

(42)
بعد اسبوع تحل الذكرى الاربعون لاستشهاد حبيبتي سعدى ، اتصل بصديقتها تخبرني ان اسرتها تتهيأ لإحياء الذكرى فقد كانت سعدى غالية على الجميع ،أوجه السؤال لأم نبيل :
- هل تحضرين الاربعين ؟
- نعم جميع الصديقات يتهيأن لحضور المناسبة ، وسعدى صديقتي المقربة !
- واين يتم الاحتفال ؟
- في بيت منزل اختها البعيد عن الطائفية ....
- منزلنا ايضا كان في منطقة يأبى اناسها ان تحل الطائفية في ديارهم !
- لكن الطائفيين كانوا يرسلون المفخخات الى المناطق الآمنة!
- منزلنا في البنوك وأهلها يحبون بعضهم بعضا !
- وارسل الطائفيون سياراتهم المفخخة لتغتال المحبة بين الناس !
- منزل اختها منال في الكرادة ...
- والكرادة لم يهدد احد من ساكنيها بوجوب مغادرة المنطقة الى اخرى ..
- سوف يحضر الجيران والمعارف والأصدقاء لإحياء اربعينية الشهيدة العزيزة ..
- بنفسي ان اعرف المجرم !
- لن تعرفه ، فقد قتل نفسه ايضا ..
- اود حضور الاربعين .
- وهل حان موعد عودتك ؟
- ليس بعد ، عندي شهران تأشيرة اقامة في جزيرة السعادة ... وقد حددت موعد السفر الى اربعة ايام بعد الاربعين ...
- متى ستعود سنتعرف تفاصيل الحادث الأليم !
أسكت وانتظر ، واود حضور الاربعينية للراحلة العزيزة التي موعدها بعد ثلاثة أيام وقد حجزت بعد يومين من مجلس العزاء ، اردت ان اغير موعد حجز التذكرة للعودة ، ولم يوافقوا وقالوا كان عليك اخبارنا قبل السفر بأسبوع على الاقل ، لم افكر بتغيير موعد السفر ، وكان الألم يفترسني ، ولا يجعلني استطيع التفكير ، ولكن نظرة تأملية في الحوادث التي تجري في بلادنا والتي تقيد ضد مجهول ، جعلني ادرك ان سماحي للحزن ان يستبد بي يحيلني الى مخلوق تأباه نفسي وما عودتها عليه طوال عمري من تحكم قليل بمساري في الحياة ..
استطعت ان اقدم معروفا لامرأة كان الظلم من نصيبها ، وبذر الآخر ما كسبته من عمل مستمر وجهد متواصل ، لم تطلب مني دلال ان امنحها نقودا ولو عن طريق الاستدانة ، أخبرتني فقط ان راتبها قد وضعته عند زوجها ، وانه صرف كل النقود ولم يبق لها شيئا ، وانا اعرف قصتها ، وكيف انها وثقت برجل ليس محلا للثقة ، لهذا وضعت جزءا من نقودي تحت تصرفها :
- انت في حالة حزن وتحتاج الى هذا المبلغ ،
- سأدبر نفسي ، اعتبريه دينا وحين تستطيعين ...رديه ، انت تعرفين رقم هاتفي !
- كسبت انسانا كان نعم الصديق ، وصحيح ما قاله المجربون ان الصديق تعرفه وقت الضيق !
- سأكون لك صديقا وفيا ...فأنت رائعة وتستحقين ان تسعدي ..
(43)
بعض الناس لا يمكن نسيانهم ، يقدمون الاعمال الجميلة لكل مخلوق يصادفونه في طريقهم ، ولا تربطهم به اي علاقة ، والرجل الكريم غانم جليل من هذا النوع الذي اصبح نادرا مثاله ، في ايامنا هذه ، حيث قلت الاعمال الطيبة ، التي يقدم عليها الانسان ارضاء لنفسه ، ودون ان ينتظر شكرا وعرفانا من احد ، حين عرف بقصتك وانك لم تكوني موفقة في ارتباطك ، ولم تتمكني من معرفة حقيقة الرجل الذي قبلت ان تقترني به ، وتنازلت عن كل شيء ، وكنت تتوقعين ان يعترف بجميلك ، وانك تحبينه حقيقة وليس تمثيلا ، لم يقدم لك مبلغا للصداق كما يفعل الرجال حين يقدمون على الارتباط بامرأة ويتخذونها زوجة ، وتناسيت كل الحقوق ، ولم تستطيعي ان تخبري اهلك بانك لم تنجحي في اختبار الاختيار ، الذي كان وبالا عليك ، وجدت الاستاذ غانم جليل يقف مدافعا عنك ، ولم يكن يعرفك قبل هذه الرحلة الى جزيرة السعادة ، اخذ يبدي تعاونه وصداقته ويتحدث معك كأخ كنت تعرفينه منذ زمن بعيد ، ادركت حينها ان التجربة خير من يدلنا على حقيقة المرء، اخبرته انك كنت تسلمين راتبك لبهاء وهو يضن عليك ، ولا يدعك تشترين ما تحتاجينه من مواد تجدينها أساسية في صحتك والمحافظة عليها ، لم تطلبي نقودا من الاستاذ غانم جليل ، اخبرته ان بهاء صرف كل نقودكما ، وكان يعرف ان العلاقة بينكما قد انفرطت ، وان بهاء كان يفضل الانفصال على ان يسجل عقد القران ، وضع الأستاذ النقود في يدك :
- لماذا يا أستاذ غانم ؟ أستطيع ان اتصرف واتصل بأسرتي في بغداد !
- قد يطول انتظارك ، وانا اخ لك وصديق !
- وانت كيف تتصرف ؟ وعودتك الى الوطن لم تحن بعد ؟
- سأعود بعد أيام ، وانت تعودين بعدي ، وتحتاجين الى النقود ! وحين تعودين الى البلاد اتصلي بي وارجعي لي النقود في الوقت الذي تستطيعين !
اعتمدت على الاستاذ غانم بعد هذا الموقف الكريم الذي يدل على نبله وطيب معدنه ، واخذت تفكرين كيف يمكنك ان تردي بعض افضاله عليك ، وجدته يشكرك لكلمة تقولينها للتخفيف عن ألمه وهو كبير ، اذ فقد رفيقته في الحياة وحبيبته سعدى ، غانم لا يريد الكثير ليشعر ان معروفه لم يذهب سدى ، كان يشعرك انك تكونين بلسما يزيل جراح روحه في كلماتك المواسية ، يخف احساسك بالتقصير وانك لم تقومي بمعاملة من اكرمك ووقف مؤازرا لك بمثل الكرم الذي اظهره صديقك النبيل وان تتمكني من رد الجميل كما هي الاخلاق التي غرست في عقلك وتعب اهلك في تعليمها لك !
تتمنين ان تخف آلام الصديق العزيز حين يعود الى الوطن ، وان يجد في الأصدقاء وهم كثر من يرى فيهم نسيانا للوجع الذي تفاقم وتضخم ..
سيعود غانم جليل وسوف تبقين وحيدة من بعد عودته ، من اين لك من يبدد عنك الأحزان ويشعرك ان الدنيا ما زالت بخير !الصبر هو طريقك ، لتحمل اعباء جديدة في ايامك المتبقية لك في جزيرة السعادة ..

(44)
يتهيأ الاصدقاء الأربعة لإقامة اربعينية الفقيدة سعدى ، اكراما لزوجها الذي وجدوا فيه نعم الصديق ، وقف بجانبهم ، وخفف عنهم ما يشعرون به من ألم قد يرونه كبيرا عسيرا عليهم ان يجتازوه وينتصروا على أسبابه ، فكروا انهم يحضرون مجلس العزاء ويخبرون من يعرفونه في جزيرة السعادة لحضوره ، وقراءة الفاتحة على روح الراحلة العزيزة ، جهزوا القهوة والشاي وانواعا من السجائر لاحياء هذه المناسبة التي تتزامن في نفس الوقت الذي ستقوم اخت سعدى بإحياء الاربعينية في الكراد ة الشرقية التي يتآلف فيها قاطنوها ويحب احدهم الآخر ، ولا يسمحون لأي جهة ان تفرق صفوفهم ، فقد كانوا بنعمة الله اخوانا ، لم يجبروا احدا على مغادرة مكان سكناه ، واشتعلت بعض مناطق بغداد بالكراهية وارغموا من لا يتحذ نوع طائفتهم ان يرحل بعيدا ، ولكن اهل الكرادة بقو ا كالطود الشامخ يؤازر بعضهم بعضا ..
حضر الكثير من الاصدقاء والمعارف وكل من يحب العراقيين ويصعب عليه ما يمر بهم من متاعب ، واحيوا المناسبة بنجاح ، وقدم الاستاذ غانم جليل الشكر والتقدير لإقدامهم على احياء الاربعينية لتحبيبته سعدى..
اتصل محمود بصديقه كامل الساكن في الكرادة وسمع منه انه يعرف اسرة الراحلة وسوف يحضر الاربعينية ، فطلب منه ان يخبره بكل التفاصيل كي يبلغ العزيز غانم ان الجميع يقدره ، وقد تنسى صديقة سعدى السيدة ام نبيل بعض التفاصيل ، فان الصديق كامل سوف يخبرهم عن كل شيء ..
ترحم جميع الحاضرين على الفقيدة وانتهى مجلس العزاء ورن الهاتف :
- استاذ محمود كن رفيقا بإخبار الاستاذ غانم !
- ماذا جرى ؟
- تكرر الحادث !
- ماذا تقصد ؟
- انفجار شديد امات اغلب الحاضرين في مجلس العزاء !
- يارب ، واخت السيدة سعدى ؟
- ماتت كما مات اغلب اهلها واسرتها !
- لماذا هذه الحوادث في مدينة هادئة ؟
- تأتي الأعمال الارهابية من خارج المنطقة !
- وهل الفاعل مجهول ؟
- قتل الفاعل بحزامه الناسف ، ووجدوا له اثرا يدل عليه !
- ماذا وجدوا ؟
- هويته ... مما يدل على اسمه واسم عشيرته ، وسوف يعرف بواسطة التحقيق عن المجموعة الاجرامية التي ينتمي اليها !
- ويساعد السلطات في القبض على المجرمين وانزال العقاب الرادع !
- ان سارع المسؤولون في التحقيق ! اخبر الاستاذ غانم برفق !
- كيف اخبره ؟ وهو يقفد الكثير من الاحبة خلال ايام ! قد يتحلى بالهدوء ، ولكنه انسان يحب اسرته بعشق ، وقد فقد خلال ايام الحبيبة واهلها ...
- عمليات الارهاب لايمكن الكشف عنها بسهولة، الارهابيون ينتظمون في شبكات قد تكون دولية !
- كل هذا كي لا يستقر العراق ؟
- يشتد الألم ويقوى الشعور انني وحيد في العالم ، كل العراقيين اصبحوا يواجهون أعداء كثيرين لا يعرفونهم ، وانا في عالم تائه فقد معالم الطريق ، لم اكن جازعا او كثير الشكوى ، كنت اتقبل كل شيء وادرك اننا لا نملك احيانا الخيار ، قد نستطيع ان نحقق بعض الامور البسيطة ، ولكن ان نقلب المقادير ، نحن قوم عاجزون ، لماذا نتصف بالعجز والضعف ، أ لأننا عاطفيون ؟يقع علي الخبر كوقع الصاعقة ÷، يصيبني الخرس والاصدقاء كلهم يحاولون التخفيف عني ! ماذا يمكنهم ان يفعلوا فنحن نغوص في بحار من الألم ، نواجه الصخور التي توضع في طريقنا ، ثم نكتشف اننا من العجز والضعف بحيث لا يمكننا ان نفعل شيئا ، بقيت طوال عمري متفائلا ، اظن انني قادر على تذليل الصعاب ، ولكن ان افقد الحبيبة ؟ كيف يمكن للإنسان ان يتحمل كل هذه الأحزان ؟ ولماذا نحن دون خلق الله تقع علينا هذه المصائب ، تنهمر علينا الأمراض والعلل ونفقد الرؤية الصحيحة ، نظل حائرين ماذا بمقدورنا ان نفعل لمواجهة هذا الخضم الهائل من الارهاب الذي انصب علينا ، ظننا اننا وصلنا الى بر الأمان ، واننا يمكن ان نبني ما تهدم منا ، وان نساهم في اصلاح ما اعترى النفوس من أمراض ، ولكن القوى الكبيرة التي وقفت لنا بالمرصاد ، تحارب الآمال وتقمع الرغبات تحول بيننا وبين الوصول الى الغايات ، أليست الشعوب كلها قادرة على صنع حاضرها ومستقلها ؟ ان عرفت ماضيها جيدا ،فلماذا نكون نحن عاجزين عن التصدي لكل الاعداء الذين يحبون ان يميتوا كل رغبة في صنع حياة سعيدة ؟لماذا جرى كل هذا ؟ ولماذا تسيل دماؤنا الزكية ؟ وكيف تزهق ارواح الآلاف منا ؟ وكيف يمكنني ان اعرف لماذا استهدف الارهاب سعدى واسرتها ؟ كيف يمكنني ان اعرف وجميع اهلها قد ابيدوا ؟ كل الصديقات العزيزات اللاتي كنت اعرفهن وتعتز بصداقتهن الغالية ، امتدت اليهن يد الارهاب ، هذه القوة العمياء لماذا استهدفت حيوات الاعزاء ؟ أفكار سوداء تستبد بي ، ويراني الناس قويا اتحمل الطعنات ، ولكن الطعنة الاخيرة اصابتني بمقتل ، قضت على الحبيبة والرفيقة التي تشعرني بسعادة كنت اظنها دائمة ، ماذا افعل لأواجه آلات الدمار التي فتحت أفوهها تستقبل جثامين الأبرياء الذين لم يكن ذنبهم الا انهم عشقوا العراق وارادوا ان يكونوا للحياة شمسها المشرقة ، ارى الاصدقاء يحيطون بي ، لكني وحدي اصارع جنودا مجهولة تفتك بالناس وتزرع في ارضنا الخضراء بذور الألم والعداوة ..كنت قبل الحادث اتصف ببعض التفاؤل وأحرص على ان اكون متطلعا للمستقبل بعيون المحبة للحياة ، بعد الفقدان الأليم انتابتني ساعات كنت افكر بعدم جدوى كل شيء ، فماذا يعني انك تبذل حياتك من اجل لا شيء ، فلا الأيام تتبدل ولا المعاناة تخف ، ونحن نحيا في خضم هائل من الأوجاع ، ولا احد ينجدنا ، وكيف يمكن ان يساعدنا والجميع تشتد معاناتهم ..


(45)
تكثر عمليات الارهاب وتودي بحيوات الناس الأبرياء ، وتسجل اغلب العمليات ضد مجهول ، مما يساهم في زيادة النقمة على الوضع القائم ، الذي يبدو انه ليس افضل كثيرا مما كان يعانيه الناس في ظل النظام السابق ، حيث الظلم يشتد ويغتال الناس وكل من يحب الوطن ويدافع عن قيم المواطنة والعيش الرغيد ، طالب الناس بالكشف عن الجناة وعدم جعل الدماء الزكية تذهب دون ان ينال العقاب العادل من سفكها ، ولأن الحكومة بقيت لا تبدي حراكا فعليا للاستجابة لما يريده المواطنون ، فقد كثرت العمليات الاحتجاجية التي تطالب بتوفير الامن والعمل المناسب والغذاء الصحي ، تتابعين الأخبار حسب ما ينشر في الفيس بوك وتدركين ان الجماهير الشعبية لا يمكن ان تسكت طويلا ان لم تجد ايامها تتمتع بالأمن ، سار الناس من ساحة الفردوس الى ساحة التحرير مطالبين الا تقف الحكومة موقف المتفرج امام الضحايا الكثيرة التي تطالها العمليات الارهابية ، تتمنين وانت بعيدة عن وطنك لو كنت قادرة على المساهمة في الاحتجاجات السلمية ، ولكن عدم قدرتك على السفر ،لأن تذكرة العودة تنص على انك ستعودين الى بلدك بعد ايام قليلة ، ولكن هذه الأيام تستطيل وتصبح دهرا لا ينقضي ، تحاولين ان تقفي بجانب الرجل الشهم غانم جليل الذي فقد زوجته وكل افراد اسرتها بعمليات ارهابية لم تفلح الحكومة في معرفة الجناة ، وقف ابناء الكرادة مطالبين بان يكون المحققون على قدر المسؤولية والا يطول الصمت ، واشتعل الغضب الجماهيري الكبير ، وانت تودين ان تؤازري المتظاهرين المحتجين على سكوت الحكومة على سيل الدماء الزكية وتزايد الاعمال الارهابية وان نجح التحقيق في معرفة احد الجناة فان المجرم لا يبقى كثيرا في السجن وان بقي فانه يتمتع بطيب الاقامة وكأنه سائح جاء يرى معالم العمران والجمال في هذا البلد المبتلى ، والذي لم يعرف حياة الامن والطمأنينة منذ عقود طويلة....
قرب موعد رجوعك الى الوطن ، لم تجدي شيئا عجيبا في رحلتك ، و
لم تعثري على سعادة مفقودة في بلادك ، كل شيء يتوفر في العراق الحبيب ، لا ينقص الا الاصرار على العيش الكريم والتعاون على درء المحن التي اخذ سيلها يزداد ويتضخم ، تم انقاذك من امر واحد لم تكوني تعرفين كيف يمكنك الخلاص منه ، ابتعد من يسبب لك التعب المتواصل ، ساعدتك الرحلة في انقاذ نفسك من سجن كبير وقيود احاطت بعنقك طويلا بفعل زواجك من رجل لا يقدرك ولا يشعر بعظم مسؤوليته نحوك ، تصرين على البدء من جديد وعدم تصديق الكلمات المسمومة والتي تقطر عسلا بعد اليوم ... حتى اسرتك التي كنت تحرصين على رضاها وتعرفين انها تحبك ولكنها تختلف عنك في الرؤى والأفكار سوف تناقشين الامور معها بكل حرية وهدوء ، ضاعت الكثير من الاعوام وانت تجاملين ، وأدركت اخيرا انه لا خير في المجاملات وان الصراحة والصدق تنجيك من الكثير من المطبات ومن طرق المنزلقات الخطرة ...
شعرت لبعض السنين انك فقدت الفوة التي كنت تتصفين بها ، وان عشرتك لبهاء وفقدانك لحقوق الزوجة والحبيبة معه قد جعلك امرأة ضعيفة لا يمكن ان تعود لشجاعتها المعهودة ، كنت موضع اعتزاز الأصدقاء والأهل جميعا حين كنت تدافعين عما تعتقدين انه صحيح ، ولا تسكتين عن المطالبة بالحق ، تعرفين ان السكوت عن الحق نذالة وخسة ، وقد جعلتك تلك الصفات الرائعة موضع مساءلة من القوى التي تريد ان تتحكم بالعباد وتحرمهم من الحرية في التعبير ، وقد جلبت لك تلك الشجاعة الكثير من المصاعب ، ظننت لبعض الوقت انك خسرت شجاعتك كما فقدت كل الصفات الجميلة التي ميزت الصديقة دلال التي استحقت اعجاب الأصدقاء والمعارف ، ها انك تحاولين ان تعودي الى اعتزازك بنفسك وثقتك بها ، رفضك العودة لبهاء بعد قيامه بإذلالك ، جعلك تعودين الى نفس القوة التي زعم بهاء انه احبك لاتصافك بها ، سوف تعودين الى الخلال الجميلة التي عرفك بها الناس ،ستعودين الى نفسك الحقيقية ولن ترضي ان تكوني امعة لأحدهم بعد الآن ..ز


(46)
لم يبق الكثير من الوقت ليسافر غانم جليل الى بلاده ، تعلم الزملاء كثيرا من هذا الرجل وعرفوا ان الحياة لا يمكن ان نقف نحو أحداثها بلامبالاة ... سمعوا بتميز هذه البلاد قبل المجيء الى هذه الجزيرة ، صمموا على معرفة اي نوع من الاماكن هذه المنطقة ، ولماذا يحرص ابناؤها على تسميتها بجزيرة السعادة ، في وطنهم الكثير من الكنوز ولكن لا يطلق احد من المواطنين عليها هذا الوصف السحري ، لماذا يجدون الناس في كل الاوطان يصفون بلدانهم بالصفات الحسان وكأنه الفردوس ، اوجده الله لعباده الصالحين كي يتمتعوا بعطايا الله و يعرفوا شدة كرمه ، الشوارع نظيفة والناس سعداء بما وهبهم الله ، لا يرتفع لهم صوت في ندبة حظهم في الدنياـ ولا يصرفون نقودهم من اجل الابتعاد عن الوطن الى بلاد اخرى يرونها تتمتع بالجمال ، ادرك زملاء السفر ان لا شيء ينقصهم في بلادهم ، لتتحول الى احدى الجنائن الرائعة ، الا الامن والطمأنينة ، فكيف يمكن ان يساهموا في جعل وطمهم أكثر أمنا ، وان يعود اليه الاستقرار المفقود ، وكل شخص منهم لا يسير لوحده ، دون ان يضموا اعمالهم الى اعمال الناس الطيبين ، وينظرو ا الى الغد بعيون باسمة تدرك ان لا شيء يظل ثابتا ، فالدنيا تتحرك ، والمثابرة على العمل الجميل تجعل الايام تبتسم ، قد يغير الانسان بعض الأفكار التي كان يؤمن بصحتها ، ويعترف لنفسه ان الصواب جانبه ، وان عليه ان يتمتع بالشجاعة لتغيير بعض القناعات ، والزملاء مضت عليهم سنين العمر وهم لاهون ، ولكنهم ادركوا بضرورة ان يكون للمرء موقف من الاحداث والناس ، فليس من مصلحة احد ان يقف موقف المتفرج امام النيران المشتعلة التي يريد مشعلوها ان يجعلوا الوطن تستمر معاناته والا يبصر السعادة وان يظل ابناؤه في حرمان متواصل ، اصبح الزملاء الأربعة اصدقاء بعد ان وجدوا ان التفرق لا يجدي وان عليهم ان يكونوا متآلفين ، الوطن في محنة ، وكل يوم يشهد انهارا من الدماء الزكية تسفك ، وان صديقهم فقد اعز الأحباب ، وان المصائب سوف تستمر في جريانها ان لم تتحد الأيادي لتضع لها حدا ، انهم يحمدون الله ان رجوعهم الى الوطن بات وشيكا ، وانهم ادركوا ان عليهم ان يغيروا طريقتهم ونوع عيشتهم ، ليكونوا جديرين بالوطن الذي يغبطنا عليه جميع من يسكن في بلدان اخرى ، لم يعرفوا قبل يومهم هذا ان الالتزام واحترام النفس يكسب الانسان تقديرا لذاته وثقة بها ، مواقف قليلة اثبتوا فيها انهم ضد الارهاب من اي لون كان ، جعلتهم يشعرون كم هو رائع الانسان الذي يتخذ من الكلمة الملتزمة طريقا وهدفا ..

(47)
غدا أعود الى بغداد الحبيبة ، وأساهم مع الأصدقاء في اماطة اللثام عن عمليات الارهاب التي تطال الأبرياء ، في مواقع التواصل الاجتماعي اجد الناشطين المدنيين يعلموننا عن اخبارهم واقامتهم الاحتجاجات في ساحة التحرير في بغداد وباقي ساحات العراق مطالبين بان تقوم الحكومة بالتحقيق لمعرفة الجناة ومعاقبتهم وفق القانون ، فان بقاء المجرمين مطلقي السراح يهدد حيوات المواطنين ويقضي على الامن ويحول دون ازدهار العراق وتقدم اهله ، يطالب المحتجون بمعرفة قاتلي سعدى رفيقتهم في النضال وفي ساحات الاحتجاجات لمكافحة الفساد واعادة المال المسروق الى مالكيه الحقيقيين ، كانت سعدى الحبيبة دائمة المشاركة في سوح النضال ، تذهب مشيا على الاقدام من منزلنا في الكرادة الشرقية الى ساحة التحرير ، كان النشاط والعزيمة تملؤها املا وتفاؤلا ، وتعتقد ان الغد يصنعه ابناء العراق المخلصين ، عمليات الارهاب ارادت ان تقضي على ارادة الأحرار ، وان ترغم الناشطين على الصمت ، والا تسمع اصواتهم من قبل الجماهير المتعطشة الى سماع الاخبار التي تبين ان النضال لا يعرف الوهن والخنوع ، وان النصر على الطغاة تصنعه الارادة ، كنت اشارك في تظاهرات الاحتجاج احيانا ، فمرض الم المفاصل كان يمنعني من المشي الطويل كما نصحني الطبيب المعالج ، سعدى كان مرضها الطويل في الدوالي والم الظهر لا يمنعانها من المشاركة ، وكثيرا ما كنت انصحها بان تنفذ نصائح الطبيب وان تقلل من اشتراكها في المسيرات الاحتجاجية ، كانت تقول فتفحمني :
- ان كنت انت لا تساهم وانا لا اشترك فمن يمكن ان يعمل لتخفيف الظلم واعادة النور الى حيواتنا التي ارهقها الحرمان ؟
اجد ان معها الحق فيما تقول ، فان اكثر الناشطين من كبيري السن ويعانون الكثير من الأمراض التي تمنعهم من مواصلة المسيرات الاحتجاجية ، والتقيد بنصائح الاطباء قد يؤدي الى بقاء اكثر الناس قابعين في منازلهم ، وتسير الحياة بوضعها الحالي ، ولا نشهد تحسنا في الخدمات او تخفيف البطالة واصلاح التعليم والعمل على توفير الحياة الصحية لكل المواطنين ، الايام تمضي والمسيرات الاحتجاجية تعمل على اصلاح ما تراكم من اخطاء وان كانت المكاسب تجري ببطء شديد ، فان العين المنصفة تراه بوضوح ، ولا تكتفي بالشكوى ..
وبعد ان ابعدوني عن الحبيبة ، سوف اكون من الناشطين الذين لا يترددون ولا يعرفون الخنوع ، شريكتي ضاعت مني ، فلم البقاء بعيدا عن صانعي الحياة والمناضلين من اجل تحسين ظروفها ؟
ساعات قليلة واركب الطائرة لأعود الى بلدي الحبيبة ، التي ان ابتعدت عنها اياما يقتلني الشوق اليها وتستبد بي اللهفة الى لقياها ، كلي امل ان يأتي الغد سريعا ولكن اين اذهب وقد فجر الارهاب بيتي ؟ سوف استعين بفندق حتى انظر ماذا يمكنني ان افعل ، لم اعرف الحقد يوما ، ولم اطلب القصاص لغرض فردي ولأن احدهم اساء لي شخصيا ، انما اسعى كي يجد العدل طريقه في بلاد الرافدين التي تاه اناسها عن طريق الحق بفعل اشتداد الظلم وتفاقم المعاناة ، وبعد ليل الدكتاتورية جاء من لم يعمل لتخفيف صعوبة الظلام الذي نعيش في اتونه ..

(48)
غدا يعود الرجل الوحيد الذي وجدته اهلا للثقة ، جعلك تنظرين للحياة بتفاؤل وتطلع الى الاحسن ، كنت قبل التعرف به قد فقدت الثقة بنفسك وبالآخرين ، بعد ان جعلك بهاء مخلوقة ضعيفة لا تعرف كيف تتصرف بحياتها ، وتجعل سفينتها بأيد لا تحسن التصرف ، تسرعت في قبول بهاء زوجا لك بعد ان طلبك وكنت قد خرجت معه تتنزهان مرة او مرتين ، ولكن في بيئتكما يجب على الفتاة التي خرجت مع رجل قبل الزواج ان تقبل به زوجا حين يتقدم لها ، كانت امك تخاصمك ان اطلت البقاء خارج المنزل :
- ماذا اقول للناس وانت تتأخرين في العودة ؟
- ولماذا يسيء الناس الظن بي وانا لم اقترف ذنبا ؟
- هذه اعرافنا يا ابنتي وعليك احترامها ، لماذا تتأخرين في العودة ؟
- ازور صديقتي علياء !
- ولماذا لا تزورك هي ؟
لا تتجرئين على اخبار امك انك تقابلين رجلا في نزهاتك خارج المنزل ، صحيح ان بهاء شقيق صديقتك علياء ولكن كيف يمكن ان تعلم امك انك تقابلين رجلا غريبا وأسرتك لا تعرف عنه شيئا ، زارتك علياء في منزلك عددا من المرات وارتاح لها اهلك ووجدوا فيها نعم الصديقة التي تصاحبها ابنتهم ، وهناك في منزل علياء تعرفت على بهاء ، ظننت انه يحمل نفس الصفات الحسنة التي وجدتها في صديقتك علياء ، لم تري به صفة تأباها نفسك كان جميع الاصدقاء والمعارف يثنون عليه ويمدحونه ، ويقولون انه هاديء وحلو الطباع ، خرجت معه وحدثك بالحب ، وانت الظمأى التي كانت تتعطش لسماع هذه الكلمة السحرية من رجل ، حاولت ان تكوني كما تريد اسرتك وأنت تتحلين بمكارم الاخلاق ، وبما استقر عليه العرف ، لم تحبي بهاء في البداية ، ولم تقنعك الكلمة الساحرة التي قالها ، ولكنك تشبثت بها وانت الغريقة في بحر متلاطم الامواج ، لا تعرفين كيف تسير بك دفة السفينة ، وتخشين ان تفوتك الحياة ، وانت تدركين ان الحب هو الحياة ، وقد اعترف لك بهاء بالحب فقد احياك وانت الميتة وجعلك تنظرين الى الدنيا بمنظار باسم ، لم تستطيعي ان تعرفي ان الحب الذي ادعاه بهاء صادق وكيف تعرفين ؟ كنت في وضع لا تحسدين عليه ، كل يوم حين تعودين الى المنزل تسألك امك :
- اين كنت ؟
- في بيت علياء !
- هذه اخر مرة تزورينها ،
- هي صديقتي !
- لتزرك هي ونحن ترحب بها !

(49)
يسافر غانم جليل ويشعر الأصدقاء ان صديقا وفيا نادرا قد فارقهم ورغم ان عودتهم الى بغداد قربت ، وبقيت ايام قليلة ليسافروا الى البلد الحبيب الذي لم يشعروا بمعزته الا بعد فراقهم اياه ، وكان قربهم مع الاستاذ غانم جليل قد ساهم في تعريفهم بمزايا العراق التي كانوا يسمعون بها لكنهم لم يشعروا بها وهم يقطنون في هذا البلد الذي تراكمت عليه الأعباء واشتدت عليه المحن .. فكر الاصدقاء بقضاء ما تبقى من ايامهم في جزيرة السعادة بان يزوروا معالم هذه الجزيرة ، والتي سبق لهم ان زاروها حين وصلوا الجزيرة في الايام التي أعقبت وصولهم الى هنا ، اعجبوا كثيرا بجمال التنظيم وحرص المواطنين على المحافظة على روعة الاماكن حتى تظل محطا يقبل عليه السياح ، فكروا بهذه المعالم وقارنوا بينها وبين المناطق المهملة المهجورة في بلادهم ، ووجدوا ان جمال هذه الاماكن يعود الى اهتمام الناس بها ، والحرص على معالمها واظهروها للزائرين والسياح وهي تزهو بروعة اخاذة تجعل القادمين الى الجزيرة يقدمون اليها مرات ومرات ، واليوم بعد ان بقي لهم في هذه الجزيرة اربعة ايام فقط ، قرروا ان يذهبوا الى البحر وان يسبحوا رغم تلاطم الامواج ، صحبتهم السيدة دلال ولم يكن عندها مايوه ، فهي لا تحسن السباحة ، وجلبت السيدة نادية لباس السباحة رغم انها لا تعرف كيف تصارع الامواج وتعلو فوقها ، فالنساء في بلاد الرافدين لا يسمح لهم بان يلبسن ملابس السباحة ، ويتعرضن للسؤال دائما ان فكر احدهم بان يصحب زوجته معه الى ان ترافقه في رياضة السباحة :
- كيف تسمح لزوجتك ان يراها الاغراب وهي عارية ؟
- ليست عارية انما تسبح اسوة بكل نساء الارض !
- لسنا مثل الباقين ، عندنا عادات وقيم علينا المحافظة عليها !
تنظر السيدتان الى الرجال وهم يسبحون بفرح وتتساءل دلال في نفسها :
- كان علي ان اتعلم السباحة هنا في جزيرة السعادة ! مضت ايام السفر وحان موعد العودة وسوف اجابه الكثير من المحرمات في بلادي ...
نادية لا تفكر بهذا الامر وتجده طبيعيا ، هناك اشياء تحرم منها النساء ولا يتعبها ان تكون السباحة ضمن الامور المحرمة على النساء في بلاد معروفة بان النساء في المنزلة العاشرة في سلم الحقوق ..
تنتهي مدة السباحة ويخرج الرجال من البحر والفرح يملأ وجوههم ويرتسم على حركاتهم ، يذهب الاصدقاء الى المطعم القريب من البحر ÷، اصناف الطعام متنوعة يطلب كل شخص منهم ما يشاء ..

(50)
ساعات قليلة اقضيها في الطائرة ، لتنقلني الى بغداد الحبيبة ، أفكر بسعدى الراحلة ، وكيف يمكن ان تكون العراق بدونها ، رغم اني اعشق بلادي ، الا انني ارى الحياة بدون صديق للعمر تصبح صحراء قاحلة ، لا احد يبادلك الشعور ويحنو على جراح الروح ، وتجد انك تعيش مع نفسك ولا انفصام بينكما ، أفكر ان لي اصدقاء كثيرين في بغداد والمحافظات الأخرى ، ولكن لا احد يرتقي الى منزلة سعدى ، التي كانت تشاركني الأفكار ، وتتنفس بقلبي وانا ارى بعينيها ، ارى العالم جنة ساحرة من الجمال ، وان الناس نخيل باسقة تمنحنا البهاء ، لست متشائما ولكن رحيل سعدى ويقيني انني لن اراها بعد اليوم يجعلني أتضور ألما ، وافكر بالثكالى الذين ازهقت الارواح حيوات فلذات أكبادهن ، اشفق لمن بقي وحيدا بعد ان غادره صنو الروح وتوأم الفؤاد ، يا رب ....الرحمن الرحيم خذ بيدي ، ارحم ضعفي وانر طريقي ، وبدل احزاني الى راحة ، ابتهل الى الله وادعوه ان يساعدني على اجتياز المحنة ، والايام الطويلة التي سأقضيها وانا وحيد ، لا احد بجانبي يخفف عني وعورة الطريق ، سعدى التي كانت الحبيبة والرفيقة جاءت قوة هوجاء لسلبها مني ÷، لتحيل حياتي الباسمة الى احزان دائمة ، لكن لست انا بمن يندب الحظ ويظل ساكنا ينتظر ان تستقيم الحياة ، سوف اعود الى بغداد وانضم الى جيش المطالبين بالإصلاح وان يوضع حد للفساد ان يعيث بربوع بلادنا ، سوف اكون ضمن المناضلين من اجل ان تتغير حياتنا البائسة الى اخرى اجمل ، حيث لا تسلب الحقوق ولا تسرق الجهود ، ولا يطول ليل الظلم ، حياة جميلة اساهم بصنعها مع احرار بلادي كي ينبثق النور وتتبدد الظلمات ، لا أجد في الطائرة ما يجعلني اتناسى مصابي ،بان سعادتي سلبت مني وانتهكت حقوقي ، ولم يعثروا بعد على الجناة الذين حولوا جمال حياتي الى قبح دائم ، لم تظلم سعدى احدا ولم تسيء الى انسان ، كانت تحب الناس كلهم وتتمنى لهم الخير ، وان يعيشوا متمتعين بخيرات بلادهم الوفيرة ، القوة الهوجاء الظالمة قضت على ينبوع الجمال وبددت شعوري بالسعادة ، وها انا أعود وانا محاط بالأحزان ، ادعو ان تتكلل الجهود بمعرفة الظالمين الذين يزهقون الارواح البريئة التي لم تقترف اثما ، لا أدري هل علم جميع المعارف بحالي وهل درى افراد اسرتي ان مصابي جلل ؟ وأين هم أفراد أسرتي ، وقد حصدت الة القمع في النظام السابق حيواتهم ، اعدموا ولم يرتكبوا اثما ، انما الرغبة في العيش الكريم والتطلع الى حياة افضل ، ليس عندي احد في بغداد ، بعد ان انتقلت اختي الكبرى الى خالقها الرحيم ...أقرر انني سأقضي ليلتي في احد الفنادق المعروفة في شارع السعدون ، اعرف الكثير من الاصدقاء في المناطق القريبة من الشارع ، فهل عرف الاصدقاء انني فقدت أعز الناس ، وان الرغبة الكبيرة تجتاحني في معرفة الحقيقة والتوصل الى الجناة ، لن اطالب بالثأر ، القصاص العادل ومعاقبة المعتدين المطلب الاول كي تنعم بلادنا بالاستقرار ، يعلنون في الطائرة اننا وصلنا الى سماء بغداد ، وان الطائرة تستعد للهبوط ، اي عشق يستبد بي ايتها المدينة الساحرة الجمال ؟ وكم هو رائع شعوري انني عائد الى الارض الحبيبة المعطاء ، وانني لن اكون وحدي في اجتياز هذا الخضم الهائل من الاهوال والزلازل التي تعرقل مسيرتنا ، اللهم صبرك ، اعنا للمسير الصحيح وساعدنا لمواصلة الطريق رغم انها شديدة الوعورة خطرة المزالق ومتباينة الاتجاهات ..

(51)
يسافر الرجل العزيز فتشعرين انك وحيدة تصارعين اعداء لا مرئيين ، وتواجهين لوحدك الاهوال والمصاعب ، كل عمرك وات تشعرين انك وحيدة في العالم ، غريبة كنت في بيت اهلك ، وغريبة صرت في بيتك المشترك الذي يصر بهاء انه بيت له لوحده ، تدفعين ايجاره انت ويكتب اسمه في عقد الايجار ، وحين تسلمين مالكه مبلغ الايجار ، يعطي بهاء الوصل الذي يثبت انه دفع الايجار ، وكلهم يعرفون انك تدفعين وان بهاء لا عمل ثابت له ، وحتى لو كان له عمل ، فانه يحرص على ان تقومي انت بكل الاعباء المالية :
- ما المشكلة انك تدفعين الايجار وانت تدعين انك مساوية لي ؟
- ليس الايجار فقط ما اقوم بدفعه ، انما المأكل والمشرب وكل ما نحتاج ..
- ولماذا لا تدفعين ؟ لماذا تتذمرين وتكثرين من الشكوى ؟
لم تكوني مقتنعة ان بهاء سوف يسعدك ولكن تخاصم الابوين وصراخهما المستمر يجعلك تقبلين ببهاء زوجا ، وتواصلين معه الحياة رغم انه لم يمنحك احد حقوقك ، بقيت تطالبين ان يسجل عقد الزواج وبقي يعد ولا ينفذ الوعد ، ومضت الايام ، وأنت تخافين ان تكوني اما كباقي النساء ، وسارت بك الايام وانت غريبة ، طالبت في بداية عيشكما المشترك ان تكون لك حقوق ككل النساء ، وان تنعمي بالأمان الذي يمنحه لك عقد الزواج ، وحين لم تجدي اذنا صاغية خفت صوتك ، وانعدم بمرور الوقت ÷ لم تعودي تطالبين بأي حق ، بعد ان وجدت بهاء غير آبه بك ، ولا يعنيه ما تلاقينه من تعب ،مع غانم جليل شعرت انك مع انسان وددت لو انه يعرف انك تحبينه كثيرا ولكن كيف يمكنه ان يعرف وانت لا تعرفين كيف تعبرين له عن عظيم شعورك نحوه ، كما انه لم يعرف امرأة اخرى ، وكانت كل عواطفه مع حبيبة الحياة الوحيدة، انت ايضا احببت سعدى من طول حديث غانم عنها ووصفه لها بأجمل الصفات وأروع الشمائل ، وحين اغتال الارهاب حياة الحبيبة ، حزنت انت وكأنك تعرفينها تمام المعرفة ، غادر غانم جزيرة السعادة عائدا الى البلاد وشعورك انك وحيدة في العالم عاد اليك بأقوى مما كان ، اعطاك غانم رقم هاتفه في بغداد وسوف يسعدك حين تتصلين به وتعبرين عن كبير الشوق الى صديق عزيز عرفته في ديار الغربة وكان لك نعم الاخ والمؤازر ، تمنيت لو كانت معرفتك به قبل هذا اليوم ، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه كما تعلمين .. بعد أيام يحين موعد رجوعك الى الوطن ، الذي اصبحت تعشقينه حين وجدت الأستاذ غانم عاشقا له ، لم تعرفي حياة النضال والاصرار على استرجاع الحقوق المسلوبة ، كانت حياتك بائسة لا طعم لها ، سمعت من الصديق غانم ان طريق النضال يكسب الانسان سعادة غامرة ، ويجعله يعرف ان الحياة الكريمة عطاء متواصل ، وان الانتصار الذي نحققه ونحن مع الناس يكون اجمل بكثير من طعم الانتصارات التي نصل اليها ونحن بمفردنا ، سوف تتغير حياتك وتكسبين السعادة التي ظننت انها مستحيلة ، اصبحت قادرة على صنع الحياة الكريمة بعد ان وثقت بنفسك وأمنت بقدرتك على تغيير الحياة ، خرجت مع الاستاذ غانم بعض المرات واستطاع بحديثه معك ان يجعلك تنظرين الى نفسك نظرة اعتزاز وثقة ..


(52)
يدرك الاصدقاء انهم كانوا اتكاليين على غيرهم ، وان الايام كانت تسير بهم دون ان يضيفوا شيئا جديدا ، وانهم حين تعرفوا على صديقهم الأستاذ غانم جليل علموا ان لذة الحياة يصنعها العاملون من اجل ان تكون اجمل ، قرروا ان تختلف ايامهم عما كانته سابقا ، وان يساهموا بتغيير الواقع البائس الذي نعيشه الى حياة تبتسم ، عرفوا انه لا يجدي ان يطول انتظارهم لمن يستلم زمام المبادرة ، بهاء حاول ان يحصل على السماح من دلال التي عانت من سوء معاملته طويلا ، لم تستطع ان تنسى الايام الكالحة التي اذاقها لها ، ومرارة العلقم الذي بقيت تتذكره ، عرف بهاء ان الظلم لن يدوم ومن حق المظلومين ان يثوروا للقضاء عليه والتخلص من تبعاته ، يتفق الزملاء ان يستضيف كل واحد منهم الأستاذ غانم جليل لمدة اسبوع كامل حتى يتمكن صديقهم غانم من حل مشكلة السكن ، فقد تفجر منزله واغتيلت زوجته ، الاصدقاء كانوا مصرين على ان يقفوا مع الصديق العزيز الذي يمر بأزمة كبيرة ، لقد عرف الاصدقاء انه لا خير في حياة يغلب عليها التفرق ، وان من الخير لهم ولمجتمعهم ان يكونوا متعاونين ، فقد جربوا التشتت وعرفوا انهم مغلوبون لا يمكنهم ان يقفوا ضد المتاعب التي تقف في طريقهم ، اتفق الاصدقاء ان يتصلوا بصديقهم قبل ان يستفلوا الطائرة ليعودوا بها الى بغداد الحيببة ، كل واحد من الاربعة يعرف رقم هاتف الاستاذ غانم جليل ، واجمعوا ان يتصل به الاستاذ محمود ليخبره عن قرار المجموعة التي اجمعت على الا يكون الاستاذ غانم لوحده يتصدى للإرهاب ، حاول محمود ان يتحدث مع غانم جليل ولم يحظ بالجواب ، ترك له رسالة على الهاتف تخبره بقرار الجماعة باستضافته حتى يوفقه الله في ايجاد حل لمشكلة السكن التي احدثها الارهاب بتفجير منزله في البنوك والذي كان يظنه آمنا ، حتى انه لا يستطيع ان يذهب الى منزل شقيقة سعدى الذي كثيرا ما استقبله بترحاب حين كان يزوره مع سعدى ويجد راحتهما في المنزل الذي يحبهما كل افراده ويتمنى له الخير والتوفيق ..
يتهيأ الأصدقاء لمغادرة جزيرة السعادة التي تعرفوا فيها على خير الاصدقاء والشخصية الفريدة التي اعجبوا بها جميعا وحاولوا ان يتخذوا منها اسوة وقدوة ، ويكتب بهاء للأستاذ غانم رسالة هاتفية اخرى مخبرا اياه انهم سوف يكونون في بغداد بعد يومين وانهم مصممون على رؤية صديقهم قبل ان يعودوا الى اعمالهم وانهم سيحلون مشكلة السكن التي يعاني منها الاستاذ غانم قبل ان يقوموا بعمل آخر ، لان الاطمئنان على وضع الصديق الحزين يعتبر من اولى الاهتمامات ...فقد اكسبهم ذلك الصديق صفات لم يكونوا يعرفونها مثل الايثار وحب الوطن والتضحية من اجله ، وان الوطن لوحده يستحق ان نتفانى في سبيل اسعاده ورفاه شعبه ، يغير بعض الاصدقاء مواعد سفرهم وعودتهم الى البلاد ، يظل محمود وبهاء محافظين على موعد رجوعهما ويجدد سمير وزوجته نادية تأشيرة البقاء في جزيرة السعادة ، ويقولان :
- لم يكن الوقت كافيا للتمتع بمناظر الجزيرة الخلابة !
- وماذا ستفعلان ؟
- جددنا التأشيرة وجعلنا موعد السفر بعد اسبوعين !
- هل يعني هذا انكما لا تعودان معنا ؟
- نعود بعدكم بعد اسبوعين !
- وقد اعطينا كلنا وعدا للأستاذ غانم اننا سنظل معه !
- كيف يمكننا ان نكون معه ؟ ونحن امام اعداء خطرين يهاجموننا كل وقت ؟
- سنوحد كلمتنا !
- نحن نعلن عن عجزنا ، لسنا اقوياء مثلكم !
- ما زلنا في البداية ؟
- نعلن عن موقفنا في البداية قبل ان نغادر ونحن نشعر اننا عاجزون تماما عن فعل أي شيء !ثم نحن زوجان امرأة ورجل قد لا نتمكن من الوقوف معكم ضد التيار !
- لسنا ضد التيار ، انما نعلن التضامن مع من تعرض للظلم !
- ومن الظالم الذي تسبب في حرمان الاستاذ غانم جليل من زوجته واهلها ؟ انه ليس من البشر العاديين !
- نعرف هذا ونعلم ان هناك قوى لا تريد ان يقف العراق على قدميه بعد طول معاناة وحروب واحتلال ، سوف نساند القوى التي تأبى الظلم وتستنكر العدوان ، وانتم احرار فيما تتخذون من مواقف وتؤمنون به من افكار !

(53)
أصل الى بغداد في ساعة متأخرة من الليل ، اقضي وقتا طويلا في العثور على حقيبة السفر ، وحين اجدها انطلق بسرعة الى سيارة الاجرة التي سوف تقلنا الى ساحة عباس بن فرناس ، يتراكم علي سائقو سيارت الاجرة ، كل منهم يرغب ان استقل سيارته للوصول الى الكرادة الشرقية ، احن الى هذا المكان رغم علمي ان كل افراد اسرة حبيبتي قد ابيدوا بعمل ارهابي قامت به مجرمون لم تتوصل الجهات الامنية الى معرفتهم ، لم يعلموا لحد اليوم من المجرم الذي قضى على الحياة ووأد الحب وقضى على الابتسامة في عملية بائسة اخذت تتكرر في عراقنا ، ونعلم من خطط لها وان كنا نجهل من قام بالتنفيذ ، ولماذا انعدمت فيه قوة الضمير ومحبة البشر والرغبة في مساندة الانسانية ، لماذا نجد اناسا ينظرون الى بهجة الحياة بتشاؤم ولا يجدون فيها اي قدرة على الانتصار على الألم..
اجد المنزل المتهدم والعمارة والاسواق التي تجاوره قد اعيد تصليح ما تهدم فيهما ، اعرف ان اهل المسكن قد غادره اهله كلهم فمن يمكنه ان يقوم ببناء منزلهم واعادته الى الحياة في الوقت الذي رحل اهله الى الاخرة قبل الموعد بسنوات ، تنهمر دموعي رغما عني ، ألاحظ ان عشرات الشباب يقفون قرب الاسواق والعمارات التي اعيد بناؤها ، ويقومون بإشعال الشموع تحية للأصدقاء الذين فجعوا برحيلهم فبل الاوان ، وقفت مع الواقفين انتبه لي بعض الاصدقاء وقاموا بتعزيتي انا الذي فقدت زوجتي واهلها في اوقات متقاربة ، استمعت الى اللحن الحزين الذي ينبعث من ناي الموسيقي احمد سامي والذي يحرص على تحية الراحلين الاعزاء بكل الامكنة التي اخذت تتكرر وتتعدد في كل مناطق بغداد الحزينة ، اخبرني الصديق علي ماجد ان قرب بيتي في البنوك تقام كل ليلة جلسة تأبينيه لأرواح من فقدناهم ، وان زوجتي الحبيبة سعدى ليست الوحيدة التي قضت نحبها قبل الاوان ، انما جميع المنازل المجاورة لمنزلنا قد فقدت شهداء رائعين لا يمكن للأيام ان تعوضهم ، وان المناطق المجاورة من سومر واور تحتفي بأوجاع الحزانى الذين فقدوا الاحباب وما زالوا يفقدون بعمليات ممنهجة كل ساعة رفيقا وصديقا وحبيب ، سارعت في سيارة صديقي علي ماجد الى زيارة المناطق المنكوبة ، وقفت قريبا من مكان الحادث الرهيب حيث منزلي المهدم وتراءت لي الاحداث التي شهدناها في عراقنا منذ الخمسين وحتى الان ، منذ الانتفاضات والمسيرات الاحتجاجية المطالبة بتحسين ظروف الحياة ، والى ثورة تموز التي لم ننعم بها كثيرا ، وانقلبت علينا احداثا فجائعية قدمنا فيها مئات الشهداء ، وهجرة اجبارية جعلت الكثير من محبي هذا الوطن يغادرون الى المنافي والقفار ، ومن حروب عبثية حرقت كل شيء ، وأبادت الانسان وتسببت في تراجع القيم وانقلاب المقاييس ، ومن مجيء القوات الامريكية واحتلالها لأرض العراق وانتهاك سيادة الوطن ، وبقيت الجرائم تتوالى لتحرق كل ينابيع الجمال ، ايقظني من شريط ذكرياتي انني رأيت الكثير من المعارف والاصدقاء ومن كان جيران لنا في اابنوك ، وانهم كلهم فجعوا برحيل الاحباب ، شعرت انني لست وحدي في هذا الخضم الهائل من الاحزان ، بل ان جميع الطيبين معي ، ساهمت في اشعال الشموع وفي الاستماع الى الموسيقى ، التي لم تكن تدل على اليأس من الموت المخيم على ربوعنا ، بل كانت بالإضافة الى حزنها تحث السامع على النهوض وعلى مواصلة المسير ، وان الحياة مهما كانت ايامها كالحة السواد ، فإنها لا يمكن ان تستمر ان كان الناس يتميزون بالإرادة والاصرار على دحر الظلام ، بقي المحتفلون يحرصون على احياء ذاكرة الشهداء بالشموع والموسيقى باحتفالهم حتى انبثاق الفجر ، اخبرني صديقي علي ماجد ان اهل البنوك يقيمون الاحتفال بشهدائهم كل ليلة ويشغلون الشموع ويستمعون الى الموسيقى التي تحثهم على الاصرار لجعل الايام تبتسم من جديد ، اخبرني ان اهل البنوك كل ليلة تقوم عشر اسر بتجهيز طعام الفطور ،اننا حين ننتهي من تناول طعام الفطور سوف يستضيفني في منزله هذه الليلة والليالي الاخرى ريثما اجد السكن المناسب الذي سوف اقطنه ، وان توالي الفجائع وحد المواقف ...
(54)
تصلين الى بغداد وحلم واحد يشغلك ، لا تبالين بموقف اسرتك ، فانت المتزوجة التي تركها زوجها ، واسرتك لم تدري انك لم تدركي متع الزواج ، ولم تتمتعي بما يضيفه الازواج من نعيم وما يخلقه وجودهم من سعادة في حياة النساء ، مضت السنوات القليلة مع بهاء وانت تبذلين عمرك من اجل ارضاء مخلوق لا يمكن ان تجعله كل اعمالك من اجله راضيا عنك ، محبا لك ، ادركت ان السعادة بعيدة عنك مهما فعلت ، لهذا شعرت بانك امرأة تتوقين الى الدفء والكلمات الجميلة التي تحييك ، وانك مثل النساء اللاتي تسعدهن الرجولة ، سمعت كلمات احيت الامل في داخلك من رجل تعرفت عليه في السفر ، وقف بجانبك وجعلك تدركين انه ليس كل البشر سواء في العواطف ، فهم يتباينون في القدرة على اشعال البهجة في داخل النفوس المتعطشة الى الحب ، تركك بهاء دون ان يستجيب لتوسلاتك في تسجيل عقد الزواج الذي يقوم به كل المتزوجين استكثر عليك حقا من حقوق من يقدم على الارتباط سواء كان رجلا ام امرأة ، وصلت الى بغداد التي تعشقين وكلك امل ان تتصلي بالإنسان الذي جعلك تسعدين من كلمات دافئة اسمعك اياها ، فانت الانسانة والمرأة التي تأمل بالحب والصداقة وقد حرمك بهاء من النعمتين الكبيرتين ، تسألين نفسك كيف تكون معاملة اسرتك لك وقد عدت اليهم وانت المطلقة التي تركها زوجها في بلاد الغربة ، تعرفين ان موقف اهلك سوف يكون هينا أبسط من ان يعرفوا الحقيقة وانك كنت تعاشرين رجلا دون عقد زواج ، سوف تثيرون غضبهم المستعر ان عرفوا حقيقتك ، سوف لن يعودوا الى احترامك والى التقدير الذي زرعوه في نفسك منذ ان كنت طفلة صغيرة وحتى وصولك الى الشباب ، ولكنك تخليت عن كل ما استقر في عقلك من قيم حين سمعت كلمات قليلة تدل على الحب من بهاء ، وانت لم تسمعي بهذه الكلمات قبل معرفتك بالرجل الذي خدعك واستمرت كذبته مهيمنة عليك ، حتى ادركت انه جعلك تشعرين في قرارة نفسك انك تخليت عن الكرامة وكل ما يجعل المرأة مستحقة للتقدير ومحلا للثقة ، ها انك تعودين الى بغداد ، وتتوقعين الا ترضى اسرتك عن الحآل الذي وصلت ابنتهم اليه ، ولكنك مطلقة في عرفهم والمطلقات كثيرات ، سوف تتحملين ما تسمعينه من اسرتك من خشن الكلام ، فانت تعرفين جيدا انهم يحبونك ، فانت ابنتهم العزيزة التي وافقوا على طلبك حين قدمت لهم بهاء على انه الرجل الجدير بك ، من كان يدريك ان بهاء سوف يسلبك كل الحقوق التي تتمتع بها النساء المحترمات وانك سوف تعانين لوحدك من اعباء الاقتصاد ومن مسؤولية الاجتماع وانت تسمعين كلماته اللامبالية بما تقومين به من تضحيات :
- ماذا يعني انك تصرفين على البيت ، كل النساء يتحملن العبء الاكبر !
- لكني لوحدي اصرف على البيت !
- انا لم اقصر ! الم اشتري كيلوغراما من الموز قبل ثلاثة ايام ، ودعوتك على الغداء قبل اسبوع !
- انت دعوتني وانا دفعت ثمن طعامك وطعامي !
- انت زوجتي ، ماذا يضرك ان قمت انت بالإنفاق ، فانا راتبي قليل !
- لأنك لا تحترم العمل ، وتقضي وقتك في التسكع في الطرقات !
ومضت ايامك مع بهاء خالية من المعنى ، يزرع العلقم في طريقك وانت تحاولين ان تحصدي الورد ، عرفت ان حياتك مع بهاء اشواك ومتاعب ومنغصات ، سوف تسمعين كلمات اسرتك العاتبة ، لأنك لم تحسني الاختيار ، وسوف تنتظرين الى الصباح لتتصلي بالأستاذ غانم جليل ، الذي اشعل في داخلك قناديل الفرح ، وكنت يائسة بعد ان هجرك بهاء ، اعادت كلمات غانم جليل لك الثقة بالنفس التي فقدتها ، ولكن الفرح سرعان ما انطفأت جذوته حين تلقى غانم جليل النبأ الفاجع الحزين ، سوف تتصلين به غدا ، وتقفين الى جانبه لتسعديه وتسعدي قلبك ....

(55)
الأصحاب الاربعة الذين وحدهم السفر ، وجعلتهم الصعاب التي مروا بها يتخذون مواقف متشابهة تجاه الاحداث ، تركهم الزوجان سمير ونادية اللذان مددا فترة أقامتهما في جزيرة السعادة ، عاد الى بغداد محمود وبهاء ، محمود الذي يتطلع الى كسب صداقة غانم جليل الذي كثيرا ما وقف بجانبه مساندا ، وبهاء يرجو ان يستعيد دلال ، يعرف انه اساء اليها ولم يحافظ على حبها له وعاملها بقسوة في الوقت الذي وهبت له كل شيء ، كان كثير الصراخ لايابه بالمشاعر التي يهرقها دون مبالاة وفي وقت صعب حين وقفا امام خطورة الوضع ، ورغبت دلال ان تحصل على حق واحد من حقوقها الزوجية ، تصدى بهاء للمطلب العادل ، ووقف معارضا ، ابتعدت دلال عنه ، شعر ان هناك بونا شاسعا يفرق بنهما ، لم يعد يجد ذلك الانصياع لما يريد ، الايام التي قضاها في جزيرة السعادة اثبتت له ان المشاعر كالنبتة لابد من رعايتها وتعهدها بالعناية والسقاية والارواء وازالة النبات الضار من طريقها ، والا ماتت ، لم يدرك هذه الحقيقة الا بعد فوات الاوان ، لكنه يأمل ان تستمع دلال الى اعذاره من جديد ، كان في السابق لا يبالي ان تقدم لها بالاعتذار وكثيرا ما يرتفع صوته صارخا بوجهها امام المعارف والأصدقاء ، وهي تصبر لعله يرعوي ، ويرى ان الحياة لا يمكن ان تكون بالصراخ المستمر ، وان دلال رغم طيبتها وحسن خلقها لم تستطع ان تستمر بالعيش مع رجل فقدت معه كل شيء ، عاد بهاء الى بغداد والتمنيات تصاحبه ان تستجيب دلال لرغباته الكثيرة ، عاش معها مدللا ، ما ان يرغب بشيء حتى يجدها وقد قامت بتنفيذه ، اليوم يجد ان صبرها نفد ، كما ان لكل شيء طاقة محددة ، تعززت صداقته مع محمود واخذ يستمع لنصائحه الكثيرة بضرورة تغيير بعض طباعه الجافة التي جعلت دلال تنفر من صحبته ، بغداد جميلة رغم ما تعيشه من صعوبة ، ينظر من النافذة ويجد محمودا قد فتح جهاز التلفزيون ليشاهد فيلما فكاهيا ، يدعوه محمود ان يحذو حذوه ، فيستجيب لدعوته ، أحلامه بعودة دلال اليه تشغله كل فترة السفرة ، لم يكن يدري انه يحبها الا بعد ان غادرته ، يفكر ان يتلمس رضاها وصفحها ، فقد تجاوز حده ، يعلن عن وصول الطائرة الى مطار بغداد ، يشد الحزام ويبقى جالسا ، تنزل الطائرة ، يكثر الازدحام ، يظل جالسا حتى يخف قليلا ، يسير مع محمود ، يرى ان الطابور قد طال وكثر العائدون الى بلادهم المتطلعون الى رؤية الاحبة ، ينتظران طويلا ، النوافذ المخصصة للعراقيين يكثر عليها الازدحام ، والنوافذ المخصصة للعرب والأجانب يقل عليها الوافدون ، لا شيء يشجع سفر الأجانب الى بغداد في هذه الاوقات اللاهبة ، ولكن العراقيين لا يمنعهم اي شيء من العودة الى بلادهم الحبيبة ، وبغداد في نظر الأحبة الدرجة الاولى بين المدن الحبيبة ، اما العرب فيمكن تأجيل رحلتهم الى ان تستتب الامور ، ويسيطر الهدوء على الاحداث ، محمود يتطلع الى اللقاء بصديقه العزيز الذي تعرف عن طريقه على معنى الصداقة الحقة ، وبهاء يختلف عن الاسباب التي يجدها محمود ، ولكل منهم غايات متباينة وان اختلف الهدف ، بهاء يريد ان يعرف الطريقة المثلى للعودة الى دلال ، ادرك بعد فوات الاوان انها عزيزة عليه ، لا يمكنه ان يبتعد عنها ، يثق انها طيبة وسوف تغفر له سوء المعاملة السابقة ، وجميع المعارف الذين يعرفونهما يؤكدون له ان عودة دلال الى صحبته من جديد رغم الكوارث التي حلت بها من اثر هذه الصحبة امر شبه مستحيل ..
يحين دورهما ، يقدمان جوازيهما الى موظف الجوازات ، يختم عليهما ، يخرجان من المطار بعد ان عثرا على حقيبتي السفر ، يفتحان باب المطار ، فيهب عليهما هواء ساخن يدركان معه ان الحرارة بلغت اكثر من الخمسين درجة ، يؤشران لسيارة الاجرة التي سوف تنقلهما الى ساحة عباس بن فرناس ...

(56)
لم يتركني الاصدقاء يوما ، كنت اطمح ان اخفف العناء عنهم وابحث عن فندق يأويني بعض الايام ، ولكن اصرار الاصدقاء والمعارف في منطقة البنوك كان يثير الاعجاب ، كل منهم يضيفني في منزله مدة اسبوع كامل ، ويتحمل نفقات الضيافة وكل المصاريف ، وتقوم اسرة صديق اخر ، بتجهيز طعام العشاء للمحتجين المطالبين بتحسين ظروف الحياة والقصاص من القتلة ، الذين احالوا جمال الحياة الى نقم واحدة تتلو الاخرى ، واشعلوا العراق نارا لا تعرف من تلتهم ، نيران تشعل كل المخلوقات وتجعل العراق رمادا ، ولكن الطيبين من الاصدقاء والجيران والمعارف لن يقبلوا ان يدعوا نيران الاعداء تحصد ارواح الأحباب ، كنت اشارك معهم في المسيرات والمظاهرات الجماهيرية التي تطالب بوضع حد للتراجع الذي شهده بلدنا ، فأرواح الناس عزيزة وان كان هناك اختلاف في وجهات النظر والتطلعات فان الحوار يمكن ان يخفف من جذوة اي خلاف ، لا شيء يستوجب العداء ، هذا ما أمنت به طوال عمري ، لم اعرف الحقد ولا التشفي ، ولم اطلب ان أثأر للحبيبة التي اغتيلت وهي في عز الشباب ، طالبت بالكشف عن المجرمين وتقديمهم للمحاكمة العادلة ، والا يأخذ البريء بجريرة المذنب ، ويبدو ان حلمي هذا اصبح من صعاب الأمور ، وان قلة من الناس يتطلعون الى تنفيذه ، لم اكن انام الا بعض الساعات التي تعقب طعام الفطور الذي تقدمه لنا احدى الاسر ، كلها كانت مفجوعة برحيل الاحبة بعد عمليات ارهابية بسيارات ومفخخات ، يشعل الحزانى كل ليلة الشموع على ارواح الشهداء و تعزف الالحان في هذا الاحتفال المهيب ، في الصباح اذهب الى عملي ، أفاجأ ان الزملاء كلهم يعرفون بمصابي وهم يحاولون ان يخففوا من الألم الذي احاطني بجيوشه الفتاكة وأنيابه التي لا تترك ساحة للفرح ، الناس كلهم ينبذون العدوان ولا يريدون ان يستمر ، وانا انسان مثل باقي البشر، كل يومي مشغول ، في الصبح اذهب الى عملي وفي الظهر اعود الى بيت الاسرة التي رحبت بي وضيفتني فأتناول طعام الغداء مع اشخاص اصبحوا ضحايا للعنف والاعمال الارهابية وبعد استراحة قصيرة تبدا الاحتفالات بمسيرات ومظاهرات حاشدة وبعد انتهائها يبدا احتفال اشعال الشموع ، يحاولون ان يكون الاحتفال قرب مراقد الشهداء ولكن اكثر الشهداء لم تستخرج جثامينهم من باطن الارض التي ابتعتهم وسعدى كانت ضمن هؤلاء ، ولكني اشعل الشموع لروحها الجميلة التي اشعر انها ما زالت معي تحرسني من الأذى وتقدم لي الحب ، استمع الى الموسيقى التي لم تكن جنائزية انما موسيقى حزينة لا تجعل من يسمعها قانطا يائسا ، بل تجعله مصمما على ان يكون المستقبل احسن حالا مما عشناه حتى الان ، اجد الاختلاف في النوعين من الانشطة التي اشهدها ، في المسيرات تكون الشعارات مصاحبة لها ، وفي اشعال الشموع يهيمن الهدوء ويسمع صوت الموسيقى ، بعد انتهاء احتفال الشموع تبدا فترة العشاء وتكون في وقت متأخر ، لهذا لا استطيع النوم الا لوقت قصير ، استرجع غيه قوتي وقدرتي ان اكون نشيطا فعالا في العمل ، نسيت الاصدقاء الذين تعرفت عليهم اثناء السفر ، بقيت امرأ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان


.. كل يوم - طارق الشناوي: أحمد مكي من أكثر الممثلين ثقافة ونجاح




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي لـ خالد أبو بكر: مسلسل إمبراطور


.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي: أحمد العوضي كان داخل تحدي وأثب




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي : جودر مسلسل عجبني جدًا وكنت بق