الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في مفهوم المثقف

نورالدين ايت المقدم

2022 / 11 / 13
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يرتبط مفهوم المثقف أشد الارتباط بمفهوم الثقافة، فإذا كانت الثقافة من بين ما تعنيه هي حضور الأوامر والنواهي على غرار مفهوم الطبيعة حيث غياب الأوامر والنواهي، حسب رائد المدرسة النفسية سكموند فرود، أو هي مجال للحرية وللحق على غرار الطبيعة باعتبارها "حرب الكل ضد الكل" حسب الإنجليزي طوماس هوبز.. فإن المثقف سيحمل في طياته هذه الشحنة التنظيمية والقيمية والاستقامة المندرجة في كل تعريف لمفهوم الثقافة. فالدفاع عن الحق والعدل والحرية والالتزام بالقيم الكونية للإنسان هو جوهر ما يميز المثقف عن محترفي الأنشطة الثقافية الأخرى، ومنه يكون السؤال "ما معنى أن تكون مثقفا؟ يطرح نفسه بشرعية… هل كل من يحمل شهادة معرفية – علمية يصير مثقفا؟ هل الطبيب مثقف؟ هل الأديب والفنان والمعلم والأستاذ… مثقفون؟
إن هذا السؤال مرده هو تبيان أن مصطلح مثقف يحمل دلالات ثقافية متعالية عن المتداول والمعهود بين عامة الناس، فالمثقف وكما ولد في التاريخ يعلمنا أنه غير محدد في فئة بعينها، وإنما المثقف هو كل فرد أو جماعة تتميز بالوعي الحاد بواجب الالتزام بقول الحقيقة ونشرها بين الناس في كل قضية تهم المجتمع أفرادا كانوا أم جماعات، مع الاصطفاف لجانب الحق والعدل والدفاع عنهما، ومنه يتحدد المثقف هنا بوعيه النقدي، ووظيفته هي إضاءة المسارات التي يخطوها المجتمع ومساعدته للوعي بذاته، وذلك بخلق رأي عام داخله يلتف حوله الجميع ويشكل قوة ضغط ضد كل سلطة تريد تغليب المصلحة الخاصة على العامة، ومن ثمة اكتساب شرعية القدرة على مراقبة السلطة السياسية ومؤسساتها وتغييرها وتعديلها كلما زاغت وانحرفت عن أهداف الحق والعدل بمفهومهما العمومي.
ومنه يصبح المثقف اسم يدل على كل فرد أو مجموعة أفراد أو جماعة متخصصة بالعمل الفكري النقدي تجاه قضاياها الاجتماعية والوطنية باعتبار المثقف ضمير المجتمع، ومنه تجد الطبيب والمعلم والحرفي والفلاح ومختلف الفئات المهنية قد يصدق عليها اسم مثقف بغض النظر عن المهنة والشغل الذي يمارسوه، ومنه يكون المثقف هو الناطق الرسمي للمجتمع بقواه التقدمية لبناء نظام سياسي واجتماعي أفضل، وهذه الرؤية لمفهوم المثقف عادة لا تتحقق إلا في المجتمعات القارئة والكاتبة التي تقدس العلم وتحترم الكفاءات الفكرية، وتعترف بقيمتها، والتي تعرف فيها حقول الإنتاج الفكري والثقافي استقلالا نسبيا عن الحقول الأخرى، كالحقل الديني والسياسي بالخصوص، هذه الاستقلالية تكسب للمثقفين سلطة ثقافية، سلطة مضادة لسلطة الحقول الأخرى التي تريد أن تهيمن وتنصب ذاتها كسلطة عليا على الجميع... وسلطة المثقف لا تمارس تأثيرا مباشرا في الحقل السياسي ولا في مؤسساته وفاعليه إلا عند ما يصير المثقف قادر أن يخلق ذلك الرأي العام وإجماع الجماهير حول حقيقة الواقع، وما يطبخ خفية وغير معلن، فيصير المستور مكشوفا ويشكل قضية رأي عام تكون له القدرة حين إذ، على تغيير أوضاعه وعزل حكامه وفاعليه السياسيين، أو تعديل مؤسساته السياسية، وهنا لابد من الإشارة على أن هذا التوجه لا يتحقق إلا في ظل مكونات المجتمع الدمقراطي الحداثي الذي يعترف بالشعب مصدرا أعلى للسلطات العمومية، ففي ظل مجتمعات الحداثة الدمقراطية، انبثق المثقف ومضى في ممارسة النقد العقلاني إلى مداه الأقصى فصار ناقدا اجتماعيا وسياسيا وثقافيا التي لن تستقيم في نظره إلا بفعل قيام بثورة تقلب الموازين لصالح ما يدعو له، ومنه ينصب معبد الثورة والأسئلة الحماسية الملقاة على التاريخ، باعتباره حركة لأجل التطور والتقدم نحو الأفضل.
إذا كان المثقف إذن يحمل على عاتقه مسؤولية تنوير الرأي العام تجاه قضاياه العمومية وكشف المستور الإيديولوجي حولها فإن من واجب المجتمع أن يقف موقف التلميذ من أستاذه، وفق خلفية عقلانية واجتماعية تطورية للتاريخ، تجعل من الفكر هو الذي يحكم العالم ويؤثر في حركيته، ومن ثمة تكون وسيلة المثقف في ذلك وعدته، الخطاب مكتوبا كان أم شفويا، وفي مختلف الوسائط الإعلامية والتواصلية، وفي الساحات العمومية وعبر مؤسسات المجتمع المدني، وهذا ما يفرض على المثقف أن يكون شجاعا قادرا في الوقت ذاته أن ينظر بصرامة عقلية ونقدية في قضايا مجتمعه، وهذا ما يشرعن أن المثقف لا يكون مجرد عامل فكري يكتسب عيشه من عمله الذهني وذكائه العملي فقط. وإنما أن ينخرط في الإضاءة الحضارية لتاريخ مجتمعه والإنسانية عامة.
وإذا ما رجعنا إلى اللحظة التاريخية التي ظهرت فيها كلمة مثقف وشاعت في الاستعمال بوصفها "اسما" تدل على مجموعة أو فرقة ‘’مع أو ضد’’ قضية "دريفوس" Alfred Dreyfus (1859-1935) وهو قبطان في الجيش الفرنسي من أصل ألزاسي يهودي، حكمت عليه المحكمة العسكرية في قضية تجسس عسكري لصالح ألمانيا (عدوة فرنسا آنئذ) بتجريده من رتبته العسكرية، وبنفيه مدى الحياة إلى جزيرة الشيطان في كويانا وهي مقاطعة فرنسية في أمريكا اللاتينية.
وتعود أحداث هذه القضية إلى صيف 1984 عندما اكتشفت إحدى الخادمات المشتغلات لصالح المخابرات الفرنسية، وهي تنظف غرف السفارة الألمانية في باريس رسالة (ضمن محتويات سلة المهملات) تتضمن معلومات خطيرة عن جيش المدفعية الفرنسي والذي كان ‘ألفريد دريفوس’ قد عين في الهيئة المسؤولة عنه.
لقد أدانت المحكمة العسكرية الفرنسية "دريفوس" ظلما وعدوانا، فهو لم يكن جاسوسا وهذه القضية ستصبح قضية رأي عام ما بين (1897-1899)، خصوصا بعد أن ظهر الجاسوس الحقيقي "إسترازي"، ونظرا لكون الحكم قد صدر فالمؤسسة لا تريد أن تتحمل مسؤولية الخطأ، وتحاول بذلك التغطية والهروب بشتى الوسائل حتى لا يكشف خطئها ويفضح خطئها أمام العموم الفرنسي، هنا ظهر المثقف الذي مع مناصرة وحماية هبة المؤسسة، أو ما يطلق عليه في التاريخ "باللادريفسيون" وصنف آخر من المثقفين هم "الدريفسيون"، الذين تجرأوا على فتح نقاش واسع في الساحة العمومية حول أولوية القيم الكونية الإنسانية على القيم الخاصة والوطنية والقومية والإثنية، بعد أن اجتمعوا وهم من مختلف الفئات والمهن ومن مختلف الأقطاب الفرنسية حول فكرة الدفاع عن قضية إنسان بريء... لا بد ونشر التصريح بحقيقة براءته في وجه كل المؤسسات العسكرية والمدنية التي تواطأت تحت خلفية مصالحها الفئوية والوطنية والإيديولوجية، لدفن وإخفاء الحقيقة وتزييفها بارتكاب أعلى درجات الجور والظلم في حق الإنسانية جمعاء... هنا تظهر صورة المثقف بالمعنى الذي نتحدث عنه في هذا الشق، مستحضرين في القضية الفرنسية التاريخية صورة "الروائي والكاتب "إميل زولا" Emile Zola (1840-1902) الذي نشر رسالته المشهورة "J’accuse" "إني أتهم" بعد أيام فقط من الحكم الذي أصدره مجلس الحرب في حق " الكومندار "إستيرازي" Walsin Esterhazy ‘’والقاضي بتبرئته من التجسس لصالح ألمانية بالرغم من الحجج الدامغة التي تثبت تورطه وبراءة "دريفوس".
تجيب رسالة زولا، بمدلولها لا بمنطوقها، والرسالة كما هو معروف موجهة لرئيس الجمهورية الفرنسية : ليبين "زولا" أن مسؤولية بناء الإنسان والمؤسسة ثم المجتمع والدولة المنشودين هي مسؤولية تقع على فاعلين اثنين :هما المثقف و رئيس الدولة أو صاحب سلطة عليا في البلد، لأن صاحب السلطة العليا في الدولة وهو ممثل في شخصية رئيس الجمهورية ليس وكيلا في هياكل الدولة لهذه الجماعة السياسية أو الإثنية أو الدينية ضد أخرى، وإنما هو ممثل ووكيل لهذا الكوني الذي يتجلى في الخير العام المطابق بالضرورة للعقل ولروح الأمة، يدافع عن قواعد وقيم وجودها وتعايش أفرادها وجماعاتها، وتعلو هذه القواعد والمبادئ مصالح الأفراد والجماعات. أما مسؤولية المثقف، فهو هذا الكائن (صورة زولا) الذي كرس حياته في الكون الاجتماعي للبحث عن الحقيقة واكتشافها، ونشرها بين الناس، فالمثقف بهذا المعنى هو المخول له مراقبة مدى استقامة ممارسة المؤسسة العمومية للواجب الكوني والإنساني ومدى احترامها للحق وسيادة ثقافته، فالمثقف إذن، هو هذا الكاتب أو الأديب أو العالم أو الحرفي أو الفنان الذي يهاجر وظيفته الأصلية التي يعترف المجتمع بقيمتها وضرورتها، لينخرط في وظيفة مغايرة، قد لا يتوافر بالضرورة على المؤهلات الكافية بصددها. كما لا يطلب منه أي أحد بأن يقوم بها بل قد تعرض حريته وحياته للخطر، وهذه الوظيفة المغايرة والخارجة عن تخصصه ومهامه المعيشي هي الانخراط في معترك المجال العمومي والانخراط في قضاياه والالتزام بالدفاع عن القضايا العادلة في مجتمعه بل في المجتمع البشري عامة، إنه ينصب ذاته ضميرا عموميا لحقوقه وعدالته ورخائه في أبعاده الإنسانية الكونية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 200 يوم على حرب غزة.. ماذا حققت إسرائيل وحماس؟


.. سمير جعجع لسكاي نيوز عربية: لم نتهم حزب الله بشأن مقتل باسكا




.. قطر: لا مبرر لإنهاء وجود مكتب حماس | #نيوز_بلس


.. بكين ترفض اتهامات ألمانية بالتجسس وتتهم برلين بمحاولة -تشويه




.. أطفال في غزة يستخدمون خط كهرباء معطل كأرجوحة