الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قطار آخن 28

علي دريوسي

2022 / 11 / 13
الادب والفن


اندفع يقفز الدرج الموصل إلى الطابق الأرضي نصف سكران، وصل إلى باب البناية الرئيسي، توسَّل إلى الله في سرّه ألا يكون مقفلاً، البابُ مفتوح!

بدأ الظلامُ بالانقشاع عن الصبح، لكن المطر غزير والريح باردة. وقف لبرهة ينظر إلى اتجاهٍ ما للهروب، حسم أمره سيهرب في هذا الاتجاه، يساراً حيث مشارف الغابات، زالت عن نفسه غيُوم الاضطِراب لبرهة، حلم بالضوء الساطع في نهاية الغابة والحياة الروتينية، فما بعد الضِّيق إلا الفرج، ثم ما لبث أن اِغْتَمَّ فجأة لذكرى الضوء الساطع في نهاية النفق، بريق الأمل الذي تسبب يوماً في مقتل أحد الأصدقاء أثناء هروبه إلى بلد آخر، ضوء أحد القطارات السريعة القادمة من الاتجاه المعاكس.

لا يعرف ما الذي ينتظره على الضفة الأخرى من الغابة، اندفع راكضاً إلى الشجر الأقرب، جاءه صوت مُحَرِّك سيَّارة، نظر خلفه، رأى قرب مدخل البناية سيارة بيضاء، رأى اِمرأتين بلباس أسود ورجال ثلاثة في وقفة تشاور، وصلته أصوات تطلب منه التوقف، لم يَأبه لها وركض يدخل الغابة، غطست قدمه في الوحل، أرْعبه أَزِيز طلقات رصاص مرت جوار فخذه! السيَّارة تتقدم باتجاهه كوحش أسطوري، غيّر طريقه في الغابة وتابع ركضه بين الأشجار الضخمة إلى أن تلاشى ضوء السيَّارَة، تمهّل قليلاً ومشى يغوص في الوحل حامداً الله في سرّه أنهم تركوه أخيراً وشأنه.

**

جسمي واهنٌ ومتعب، أريد الهروب ولا أستطيع، أريد البقاء ولا أتجرّأ.

ما الذي أتى بي إلى بلاد الغرب المجنون؟ ما الذي يعجبني هنا؟

لماذا قررتُ منذ اليوم الأول لوصولي البقاء في هذا البلد؟ بل لماذا اتخذت قرار البقاء هذا قبل وصولي إليه بسنوات؟ هل كان السبب الفعلي يكمن في الفوضى التي عشتها هناك؟

"الفوضى عدوة الإبداع".

أليس الطريق إلى غرفتي في الشرق أكثر بساطة ودفء من هذا الضياع في الغرب؟
ما الذي يجبرني على الهروب، كجنديّ فرَّ بعد أن ترك موقعَه في المعركة؟
ما الذي يجبرني على العَدْوّ في الغابة كغزالٍ يخشى أن يصطادوه بسهمٍ مسموم؟
ما الذي يجبرني على تحمُّل أَزِيز الريح وأَزِيز الرّعد وأَزِيز مُحرِّك السيَّارة من خلفي؟
"يُرعبني الأَزِيز، أَزِيز طلقات الرصاص في الأعراس والمناسبات الشرقية".
من سيهتم لأمري حين أموت هنا أو هناك؟
على ماذا سأندم عند دُنُوّ الموت مني؟
هل سأندم لأنني عشت حياتي كما اشتهيت وبشجاعة دون أن أتمسك بالعادات البالية والأنماط الاجتماعية القديمة؟
هل سأندم لأن أصدقائي يُعدّون على أصابع اليد الواحدة؟
هل سأندم لأنني غادرت كهف الوفاء للكوكايين؟
أعرف فقط في هذه اللحظة أنّها أسئلة فلسفية لن أستطيع الإجابة عليها إلا على فراش الموت هنا في الغرب، بعد أن أكون قد عشتُ طويلاً وجمعتُ خبرة عشرات السنين من الحياة والتجربة في هذا البلد الأمين حقاً!
ما الذي يجعلني أرى بأم عينيّ كائنات أسطورية مخيفة في الغابة رغم أني
لست محموماً أو سكراناً؟ هل لأنني ما زلت تحت تأثير الكوكايين والغارغويل؟ ألا يعني هذا أنني بكامل قوايّ العقلية؟
ما الذي سيمنعني إذنْ من اِلتقاء ملك العفاريت في هذا الصباح الكوكاييني الباكر؟

إذا استيقظت من سُباتي العميق ومن جنوني وغفلتي، إذا مضت الأمور على ما يُرام ووصلتُ غرفتي سالماً، سأنتبه إلى نفسي أكثر بأكثر، سأمتنعُ عن النساء والخمر والسجائر والكوكايين، سأعود للرياضة، سأتعلم لغة جديدة، سأكتب مذكرات يومية، سأعتذر لصديقتي "مانويلا" عن خيانتي لها، سأتبرعُ بكل ما ادَّخرته من المال للفقراء، سأشتري خروفاً وعجلاً من البازار، سأتركُ الجَزَّار يوزع لحمهما على الفقراء في قريتي وسأسامح كل من أساء لي.

إذا نفدت من ورطتي هذه، سأستعمل عقلي مستقبلاً بطريقةٍ بنّاءة.

"مَنْ لا يستعمل عقله بطريقةٍ بنّاءة، يتركه تحت تصرف الآخرين خزاناً لكوكايينهم".
**

وصل إبراهيم تخوم الغابة يغطيه وحل الذكريات، ما زالت الشوارع نائمة، الشوارع مُقْفِرة، السماء مُتجهِّمة، اِسْتَقْبَلَته المدينة الرمادية الفارغة بوجهٍ عَبُوسٍ، يسحب من جيب سترته سيجارة غارغويل ، يتحايل على الريح والمطر، يشعلها، يأخذ نفساً عميقاً، يلمح في البعيد ضوء سيارة بيضاء قادمة، يضع رجليه في مؤخرته ويتابع عملية الهروب التي بدأ يُتقن مبادئها.

الشارع ميت، البيضاء تلاحقه، قدماه في مؤخرته، جسده المقطوع من شجرة يحمل حقيبة وسجائر ويعدو إلى اللاهدف.

سأحتمي في أقرب بيت ألمحه، سأطلب اللجوء عند أول عائلة تفتح الباب لي، سأشرح لها معاناتي، سأقول لصاحبة البيت بصوتٍ مخنوق:
ـ جئت من عائلة فقيرة جداً.
ثم أبكي.
ـ سيدتي، أشتهي من يديك فنجان قهوة وبعض المعجنات.
ثم أبكي.

حينها ستفهمني صاحبة مطبخ البيت، سَتُربّت على كتفي وخدِّي كي أهدأ، ستمسح على شعري لأسترخي وأنام.

نعم، حسمت أمري، سألجأ حين يهدأ هَيَجان اليَمّ إلى أقرب مخبز، أو محطة وقود أو مركز شرطة، سألجأ ولن أعود، ولما العودة؟
"ألمانيا هي جزيرة الكنز التي نحلم في الوصول إليها بإرادةٍ من حديد".

إذا تمكنتُ من الهروب من نساء الكوكايين ولهيب أجسادهن، إذا وصلتُ إلى غرفتي دون أن تخترق جسدي رصاصة عابرة، سأعانق صديقتي "مانويلا" وأبكي أمامها كطفل، سأقول لها من باب الشكر والاِمتنان:
ـ سأُضيفك إلى ذاكرتي ما حَيِيتُ.
"البُوصلَة إما أن تكون في اللُّبّ حيث أصالة البُذُور أو لن تكون".
**








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با


.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية




.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-