الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جَحيمٌ مُرْتَقَب

عبد الله خطوري

2022 / 11 / 15
الادب والفن


يأتي على الإنسان حين من الدهر يعيش مقروءاته التي خَلَتْ، يلفي نفسَه مواجها لها، وفي خضمها المتلاطم يعيش تفاصيلها.حَدَثَ هذا مرارا ويحدث وسيستمر في الحدوث؛ وما على المتأمل إلا آسترجاع ما قرأ أو سمع من مرويات يربط بينها وبين مستجدات معيشه اليومي الذي غذا الاستثناءُ فيه روتينا يوميا وآلطارئُ الناذر حدثا عاديا من أحداث متغيرات الساعة..ذلك ما تجري به مقادير الأزمنة المعاصرة في عصور الأوباء والأدران وآلاوجاع؛ وما على الأريب إلا أن يطلق العنان لحساسيته المرهفة يتملى بها ما تجري به مقادير الأقدار في آخر الأزمان عَلَّهُ ....
في شريط(جلسة سرية وِي كْلُو)من إخراج الفرنسية(جاكلين أودغي)عام 1954، بالأبيض والأسود.موسقى(جوزيف كوسما)اقتبسه وكتب الحوار زوج المخرجة(بيير لاروش)عن مسرحية بالعنوان نفسه للمفكر الفرنسي(جون بول سارتر).مدة العرض 95دقيقة، يجد المتابع نفسه أمام فيلم يستهل متوالياته المشهدية بمقطع سارتري مشهور مكتوبا بالفرنسية على عرض الشاشة...

" Il n y a pas de flamme ni d instruments de tortures. Il n y a pas de supplices physiques.. Et Les bourreaux..ce sont ceux dont on nous inflige la a présence "L enfer c est les autres".

ليس ثمة نيران تشتعل أو آلات تعذيب في الغرفة المغلقة.ليس هناك لهب ولا مُعدات تعذيب ولا أنَّات جسدية ولا جلادون، فقط ثلاثة شخوص جارسان+ أنيز+أستيل يدركون تماما ومتيقنون بأنهم في مكان آسمـه:(الجحيم)..غرفة ضيقة بلا نوافذ بلا مرايا..فقط ثلاث أرائك.أريكة لكل واحد منهم..وأينما وَلُّوا وجوههم يلْفون أنفسهَم اتجاه أنفسِهم..كل واحد يواجُه الآخرَ، ويجب عليهم أنْ يتعايشوا مع بعضهم البعض بأي طريقة كانت..لا مجال للخيار لا مجالَ للفرار.. يجلس(جارسان)و(أنيز)و(استيل)ثم يقفون ويجلسون،وقد يتبادلون الأرائك والوضعيات؛ لكن..لا شيء يتغير..إنهم هنا سيظلون هنا.إنه جحيمٌ بمواصفات خاصة. جارسان وصلَ أولا خائفا مرعوبا. تسأله(أنيز)بوقاحة غير مُصْطَنَعَة عن سبب ردة فعله هذه، فينفي ببرود مصطنع خوفه ويلتمس من محاورته التزام قواعد الأدب واحترام خصوصيـة الآخريـن إنْ كان لابد من الاستمرار في اجتماعهـم هذا في مكان واحد، الشيء الذي ترفضه(أنيز)التي ترى أن مثل هذه الرغبات قد ولى تاريخها وانصرمَ عهدها وعلى كل واحد أن يتحمل مصيرَه الحالي المَحتوم بمسؤولية رصينة ووعي مدرك لحقيقة الأمور كيف تدور دون ممانعة أو جدال عقيم أو توجس زائف أو آضطراب أو قلق أوْ وَجَل..لقد ولى زمن الخوف وحل زمن المواجهة، فنحن في زمن الجحيم لا في زمن تلبية الرغبات أو الاختيارات..فكل شيء مفروض الآن ووقت الاختيار فات..وما عليهم والحالة هذه إلا عيش العذاب المُعَدّ لهم بشجاعة وصلابة وثبات.وعن أسباب"وجودهم الجديد"في مكانهم السعيري، يَدعي(جارسان)بأنه كان من دُعاة السلام حارب وناضل من أجل هذا السلام ولا يستحق أَنْ يُجَازَى بنظير هذا العذاب الأبدي، فهو قد مات ضحيةً لأرائه المثالية الانسانية في الوقت الذي أخلصتْ (أستيل)للحياة الزوجية ولطفلها.إنهما شخصيتان ثابتان إيجابيتان بالمفهوم القيمي الدنيوي، ومن الظلم تواجدهما في مثل ذا المكان،بيد أن(أنيز)تواجه الجميع بوضوح وقح تعترف ببساطة بأن لا علاقة لها بما يسمى الأخلاق والمُثل وما إلى ذلك من الكلمات الدنيوية الفضفاضة..إنها غاوية مومس سحاقية وقل ما شئت من النعوت والصفات..وماذا بعد..لا نَدَمَ لها على أي شيء فعلته وآعْتُبِرَ من طرف من يهمه الأمر أو لا يهمه شذوذا أو نشازا أو آنحرافا عن ما تعارفت عليه الجموع..لا دموع أمس لا دموع آلآن لا آجترار لنكوص أو آنتكاس أو حنين سخيف؛ لقد كانتْ تتمنى أن تستمرَّ في علاقاتها الغرامية مع الجميلات من النساء..لمَ لا.. فهي مازالت بعدُ شابة والوقت كله كان أمامها؛ لكن الموت..!!..هذا الحُكْم القاسي هَدَّم كل شيء..إنها لمْ تعد تبالي أن تكون في هذا الجحيم أو في غيره مادامتْ قد رحلتْ أو بالأحرى رُحِّلَتْ مرغمة وحرموها من مُتعها..إنها شفافة بسيطة واضحة، عاشت حياتها وكفى..وعلى (جارسان)و(أستيل)أن يكونا واضحيْن كذلك مع نفسَيْهِمَا ويرفعان اللَّبْسَ..اللَّبْس كله عن سبب وجودهما هنا..ولأن الشخوص الثلاثة غير متفقة في نزوعات آرائها، فإنها تدخل في حوار دائري مغلق يشبه الاستنطاق، لكنه آستنطاق بارد يسترجِعُ في لوعة لحظاتٍ منْ دنيا غابرة مليئة بالمفارقات والخطوات العاثرة؛ لا مجال للكذب الآن..لا مجال للمواربة..حتى أولائك الذين خلنا أننا كنا نعيش لهم وكانوا يعيشون لنا وشكلنا وإياهم قضية مصير مشترك، هاهم قد رمونا وراء ظهورهم ونسونا في زحمة الحياة.. لقد نسيَ آلأحياءُ آلأمواتَ، دفنونا تخلصوا منا وآنتهى الأمر.لقد أمسينا في أحسن الحالات ماض ربما في أحسن الأحوال قد يُحكى..قد يُتَذَكَّرُ..أو يُنْسَى..إنه ماض يمضي وكفى.في الجحيم لا يُسمح بالالتباس بالمجاملة والمراوغة الاجتماعية التي كانت دَيْدَنَ الجميع هناك في الدنيا..الآن..حانت ساعة المواجهة..وتدخل الشخوص في تعالقات جديدة تُعيدُ النظر والحساب في الخطايا السابقة..ورغم كل المحاولات في التنصل والانسلات والهروب منها وإنكارها والتنكر لها؛ فإن التجربة الجديدة تعيدها بالطريقة نفسها بالبشاعة نفسها..بالقدَرية الصارمة نفسها المحتومة سَلفا تُعَادُ حكاية الوجود القميئة مع سبق الاصرار والترصد..لا مفر من هذا الثقل الذي نحمله على ظهورنا بطواعية..وحتى إذا أُعْطِيَتْ لنا الفرصةُ لاجتناب هفواتنا السالفة،فإننا سنعيدُ آرتكابها من جديد.. الجحيم_أيها السادة_يُثبت ذلك يؤكده، ولعل هذا هو دوره الأساسي..تعرية الذواتِ أمام ذواتِها دون غبش أو تشويش أو مناورة..لا مجال للهروب..لا مجال للمواربة..تلك هي أهمية العيش مع الآخرين..انهم يكشفون جحيمنا الداخلي..ونحن محكومون باللحاق بهم أبد الأزل..انهم العذاب..انهم الجحيم المنتظر والجحيم المعيش الآن هنا، وفي كل زمن وفي كل مكان؛ وما على المرء إلا أن يزيح الغشاوة عن قصور نظرته للحياة المدثرة بأعراف أصباغ المجاملات وتقاليد النفاق؛ حتى إذا حان حَيْنُ آلحَيْن يلفي غريزة آلحياوانات البدائية الساكنة مهامه بني آلإنسان تَخرج تنفلت من أطواقها من قماقمها تعبر عن ذواتها ووجهها المرعب بأبشع صورة..ليبدأ جحيم دنيا الأنام قبل حلول جحيمهم المرتقب...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة