الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الايديولوجيا ضد الايديولوجيين !!

ثامر عباس

2022 / 11 / 16
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


لعل الانطباع الذي يرجّح تكونه لدى القارئ سيكون مؤداه ؛ إن الموضوع يرشح بمظاهر الاستنكار للايديولوجيا والاستهجان للإيديولوجيين . وهو في حقيقة الأمر انطباع مغاير بالكامل لوجهة النظر التي نتبناها هنا ، ليس فقط ضمن إطار هذا الحيّز المتواضع من النقاش ، وإنما نشايعها باستمرار كقناعة راسخة وموقف ثابت ، تتمحور حول ضرورة الفصل ما بين الايديولوجيا كنظام معرفي يحايث الواقع الموضوعي ويستبطن الوعي الاجتماعي من جهة ، وبين الإيديولوجيين كجماعة سوسيولوجية تتعاطى هذا الضرب من النشاط الفكري والانخراط السياسي من جهة أخرى .
فبقدر ما يحافظ المثقف على المسافة الافتراضية التي ينبغي عدم تجاوزها ، والفاصل المتخيل الذي يتوجب عدم إهماله ، بقدر ما تكون الايديولوجيا حقل أفكار نسبية قابلة للنقد والمساءلة ، وتصورات مؤقتة مرشحة للجرح والتعديل ، ورؤى آنية مباحة للتفكيك والنقض ، وقيم مطاوعة معرضة للتشريح والتنقيح . بقدر ما يستحيل الإيديولوجيين إلى شريحة مثقفة (انتلجنسيا) ، تتعامل بالأفكار العلمية على سبيل التفاعل ، وتتعاطى بالمعرفة العقلانية على سبيل التواصل ، وتنخرط بالمنهجيات النقدية على سبيل التداول ، واضعة نصب عينيها بديهية / مسلمة صاغها المفكر الجزائري (عبد الله العروي) مفادها ؛ إن (( الثقافة لا يمكن أن تتقلص إلى الايديولوجيا )) ، وإلاّ انقلبت الموازين واختلت المعايير وارتجت الحقائق . فالايديولوجيا وفق هذا المنظور الذي نعتمده هنا ، لا تعد شيئا"نافلا"لا قيمة له ولا جدوى منه ، بل تمسي ضرورة لا غنى عنها ؛ لفهم تناقضات الواقع ، وإدراك تخندفات المجتمع ، واستشراف إرهاصات الوعي ، واستيعاب ارتكاسات السيكولوجيا . إنها وكما جادل الأكاديمي والباحث الفرنسي (فرناند دومون) (( انجازات لا تلخص العلاقات الاجتماعية التي تتعهدها ولا تستنفدها ، بل على العكس ، تقتبس العلاقات الاجتماعية عناصر انبعاثها الخاص من الايديولوجيا . فالايديولوجيا عمل تأليفي ، لا لأنها تكشف عن نمط مجرد يحلل كلية معينة كما تدعي النظرية أنها تفعله ، وإنما لأنها وظيفة إنشاء الكلية )) .
وعليه فمن الخطل أن يناهض المرء الايديولوجيا بصفتها تلك ، وإلاّ فانه سيساق للوقوع في حبائل الايديولوجيا ذاتها ، من حيث كونه يؤدلج مواقفه منها وتصوراته عنها وإسقاطاته عليها . كما انه من الخطأ الاعتقاد بان الايديولوجيا (وعي زائف) – كما حاول البعض توظيف هذه المقولة الماركسية في غير سياقها التاريخي وخارج إطارها السوسيولوجي – يحيد بالمرء عن وضوح الرؤية وسلامة التفكير وسداد الرأي ، حين يتعلق الأمر بترسيم الوقائع على حقيقتها وتقييم الأحداث وفقا"لماهيتها . فالايديولوجيا وان اتشحت بالرموز وتجلت عبر المجرد ، فهي – أولا"وأخيرا"- تعبير عن وجود قائم وإشارة إلى واقع حيّ ودلالة على كينونة فاعلة .
ولطالما أخفق الباحثين والمعنيين بالكشف عن سرّ العلاقة القائمة بين أنظمة الحكم التسلطية في بلدان المشرق ، وبين الولع باحتضان شتى أصناف الإيديولوجيات التوتاليتارية ؛ الليبرالية / البرجوازية ، والقومية / الوحدوية ، والشيوعية / الأممية ، والإسلامية / الطوباوية ، ليس من منطلق الاعتناق لمبادئها والإيمان بفلسفتها والدعوة لقيمها والانخراط ببرامجها ، ولكن من باب التوظيف لرصيدها والاستثمار لتأثيرها والاستغلال لخلافاتها . على خلفية إدراك تلك الأنظمة افتقارها للشرعية الوطنية والمشروعية الدستورية ، التي تضفي على سياساتها العشوائية طابع الواقعية ، وعلى مواقفها المرتجلة سمة العقلانية ، وعلى علاقاتها الانتقائية صفة الإنسانية ، لاسيما وان معظمها دلف إلى رواق السلطة عن طريق (الثورة) المتحالفة مع العسكر ، أو الاستعانة (بالانقلاب) العسكري المباشر والصريح .
ولذلك فهي دائما"بحاجة ماسة إلى ما يستر عيوبها ويخفي حماقاتها ويطمطم انحرافاتها ويبرر مظالمها ، طالما أنها تحتضن أقليات قرابية ، وتمثل جماعات قبلية ، وتناصر توجهات تعصبية ، وتشايع أحزاب فئوية ، وتتبنى تطلعات عدوانية . ولذلك فليس (كالمثقف المؤدلج) من يمكنه أن يقوم بهذه المهمة ويجيد هذا الدور ، خصوصا"وان الأرضية التي يقف عليها وينطلق منها ، لا تمثل القاعدة الشاملة للمجتمع الذي حافظت السلطة على تصدع كيانه ، ولا تعبر عن إرهاصات الوعي الجمعي الذي ثابرت إيديولوجيا النظام على إبقاءه شعثا". من حيث إن طبيعة الفكر الذي يحمله ينطوي على تناقض بين حقائق الواقع والافتراضات المتكونة عنه ، وان ماهية الثقافة التي يختزنها تعكس القطيعة بين وقائع المجتمع والتصورات المترتبة عليه ، وان خاصية الوعي الذي يضمره يجسّد الشقاق بين السياق التاريخي والتوقعات المؤملة منه .
ولما كانت الأنظمة السياسية المتريفة محكومة بجملة من القيود الذهنية الصدئة ، والضوابط العرفية المتخلفة ، والمسبقات الرمزية المؤسطرة ، فهي لا تحتاج بالعادة إلى مفكرين عقلانيين بقدر ما تحتاج إلى ديماغوجيين مضللين ، مثلما لا يعنيها إنتاج مثقفين نقديين بقدر ما تفبرك دعاة إيديولوجيين ، فان الانتلجنسيا المشرقية التي تبرعمت في ظلال تلك الأنظمة وتشكلت تحت جناح رعايتها ، نادرا"ما يجتذبها العمل على نقد الأفكار البالية التي تتغذى عليها ، بقدر ما ترغب في تكريس أنماطها وتقديس قيمها ، وقلما تستدعيها الحاجة إلى مساءلة الوعي الشقي الذي تقتات منه ، بقدر ما تسهم في ترسيخ أشباحه وعميق أوهامه .
وإذا ما أخذنا هذه الحيثيات والمعطيات بنظر الاعتبار ، وحاولنا وضعها في إطار مقارن بواقع المجتمع العراقي – موطن المثقف المشرقي بامتياز – فإننا سنلاحظ من جهة وجود فرط في الإيديولوجيات ؛ الدينية والقومية والماركسية والليبرالية والاشتراكية ، وفائض في الإيديولوجيين من كل صنف وطراز ؛ المتأسلمين / الطائفيين ، والقومجيين / الشوفينيين ، والمتعلمنين / المتعولمين ، هذا بالإضافة إلى الجاهزين عند الإشارة والموضوعين تحت الطلب . كل ذلك مقابل إصرار واضح على التفريط بالايديولوجيا الوطنية التي تجعل من الثقافة العراقية الشاملة وعاء تصب فيه جميع تيارات الثقافة التحتية ، بكل ألوانها وأنواعها وأشكالها وأنماطها وأنساقها وقيمها . وبما إن (( انتقال المثقف – كما يؤكد المفكر (عبد الإله بلقزيز) – من لحظة المعرفة الخالصة إلى لحظة المعرفة المجنّدة ، (يمثل) انتقال من الوضعانية – ذات الإيحاء الأكاديمي الكثيف – إلى الايديولوجيا )) ، فان المثقف المشرقي / العراقي سيبقى – بصرف النظر عن مستواه العلمي / الأكاديمي ، وغناه المعرفي / الثقافي ، وانتسابه الحزبي / السياسي ، وانخراطه المهني / الوظيفي – رهين سحر الايديولوجيا وفتنة إغوائها ، أكثر مما سيكون قرين أطر السوسيولوجيا ومحنة ضرورتها ، طالما يحاجج بالأولى ويحتج بالثانية ، ويلهج بالأولى ويضج بالثانية ، وينهج بالأولى ويلج بالثانية !! .
ولأنه سليل ملاحم السرديات الأسطورية ، ووريث أجيال الحاضنات الإيديولوجية ، وربيب أنظمة السلطنات التوتاليتارية ، فقد لبث المثقف العراقي / المشرقي – رغم كل أنواع المصائب وأشكال النوائب – يؤدلج الواقع ويؤمثل الوقائع ، خشية افتضاح خوائه الفكري وجدب مخزونه المعرفي ، وتهرؤ عدته المنهجية ، إذا ما لامس خشونة معطيات الأول واصطدم بقساوة تداعيات الثانية . ولهذا فليس من المستغرب إن يوصف – في بعض الأحيان – بكونه (مثقف) مخضرم ، للدلالة على خاصية السيولة والهلامية التي يتمتع بها ، حيال التبدلات السياسية والتحولات الاجتماعية والانزياحات القيمية ، لا بالمعنى الزمني / التاريخي ، وإنما بالمعنى الثقافي / الفكري . وهو الأمر الذي قيض له ليس فقط النأي عن مخاطر الاحتكاك بمحارم السلطة أو الاقتراب من نواهيها فحسب ، بل والاستفادة من إعراضها عن مطاردته والتضييق عليه في أسوأ الأحوال ، أو استقطابه وإدراجه ضمن أجهزتها الإيديولوجية والإعلامية ومن ثم الإغداق عليه في أحسنها .

ولذلك يبدو إن هناك عقد (غير معلن) بين المثقف العراقي / المشرقي من جهة ، وبين الأنظمة السياسية المتريفة من جهة أخرى ، تمتنع هذه الأخيرة ، وفقا"لبنود هذا العقد الافتراضي ، من التعرض لهذا النمط من المثقفين المشايعين (المؤدلجين) – حتى وان لم ينتموا لفكر السلطة – مقابل التزام الطرف الآخر (المثقف) بعدم (دس أنفه فيما لا يعنيه) ، والإشاحة عما لا يرضيه والإعراض عما لا يغنيه . وبالتالي البقاء ضمن حدود الحكمة التي تقول : لأعيش أنا وليكن من بعدي الطوفان !!! .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - -1- حول الادلجة
د.لبيب سلطان ( 2022 / 11 / 16 - 12:46 )
الاخ الكاتب المحترم
شكرا على مقالتك التي اراها تحتاج لقراآت متعددة للاحاطة بجوانبها التي تبدو لي احيانا متقاطعة ، وليست متلاقية، اي بعضها ينفي البعض، ودعني اتشارك في نقاش بعض النقاط
اولا ان الادلجة هي تحويل الأفكار والمناهج الى مقولات ومسلمات جاهزة على الرف لأتخاذ موقف تجاه امر واقع والخلاف هنا واضح بين الايديولوجيا والمنهج العلمي كون الاخيرينطلق من الواقع ومعطياته لبناء موقف عكس الاولى التي تحاول تلبيس الواقع بما تمليه المقولة وهذا هو اكبر تناقض يقع فيه المثقف المؤدلج من الماركسيين العراقيين والعرب مثلا، كما وفي العالم ايضا، فهم ينسفون الماركسية النظرية التي تقول الاخذ بالواقع المادي محل المقولة الهيغلية ومنه نرى انهيار الماركسية على يد الماركسيين ومنه خرج غورباتشوف مثلا ليقول اننا زوقنا الواقع لنبرر صحة المقولة
ثانيا ان الليبرالية كمنهج ليست ايديولوجيا كما تذكرون فهي اساسا لاتعترف بوجود حقائق مطلقة في الايديولوجيات الدينية او القومية او الماركسية بل تنتهج مبادئ قائمة على الحريات والحقوق الفردية والمدنية كسلاح بوجه الادلجة اي كالمضادات الحيوية ضد الفيروسات او المقولات الجاهزة
يتبع


2 - حول الايديولوجيا 2
د.لبيب سلطان ( 2022 / 11 / 16 - 13:31 )
عدا تؤدلج المثقف والتي بها تنازله عن اهم سمة له وهي موضوعيته ، فالايديولوجيا هي اداة تعبوية للعامة من الشعوب حول شعارات قومية او دينية او عقائدية وهنا خطرها الحقيقي حيث تتحول من تعريفها النظري المجرد- كما في مقالتكم- الى اداة للقمع والتصفية الجماعية واقامة الديكتاتوريات الشمولية هذا مارأيناه في ايديولوجية هتلر القومية وماركسية ستالين وادلجة الدين عند ايات الله في ايران ووهابية المملكة السعودية والقومجية الصدامية عشرات من امثالها حيث تبسط الايديولوجيا سطوتها على الشعوب وعنفها في تصفية الحريات ومن هنا نقطة تضادها مع الليبرالية وصراعهما الطويل منذ قرن مع بروز الاحزاب والتيارات الايديولوجية في العالم الحديث
والواقع الاساس يشير ان الليبرالية هي ضد التؤدلج وكونها كذلك فلاتجد لها في العالم العربي احزابا وقلة من المثقفين كون التخلف التعليمي والعلمي في مجتمعاتنا هو السائد ومنه سواد الايديولوجيا التي تسهل تجييش اوسع قطاعات الشعب بمقولات سهلة وشعارات براقة تجمع حولها ملايين دون دراية انها تقتل حقوقهم وحرياتهم كبشر خلقوا معها
مع الشكر والتقدير

اخر الافلام

.. صواريخ إسرائيلية -تفتت إلى أشلاء- أفراد عائلة فلسطينية كاملة


.. دوي انفجارات في إيران: -ضبابية- في التفاصيل.. لماذا؟




.. دعوات للتهدئة بين طهران وتل أبيب وتحذيرات من اتساع رقعة الصر


.. سفارة أمريكا في إسرائيل تمنع موظفيها وأسرهم من السفر خارج تل




.. قوات الاحتلال تعتدي على فلسطيني عند حاجز قلنديا