الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تعايش العلم والخرافة

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2022 / 11 / 16
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الفكر الغيبي الذي يستمد منابعه من الأساطير والخرافات القديمة ويتجذر في الطبقات المتراكمة على مر العصور للمنظومات الأسطورية والدينية ، ليس مناقضا كما سبق القول لآليات العقل ومناهجه المتعددة، بل بالعكس من ذلك، يلجأ في العديد من الأحيان إلى استحضار المناهج العقلية لتبرير نظرته الميتافيزيقية للكون والمجتمع. ومما هو جذير بالذكر في هذا الخصوص، أن مؤسسي العلم الحديث في أوروبا والذين أرسو قواعد البحث العلمي التجريبي، أغلبهم إن لم نقل كلهم كانوا يسكنون مملكة الله ويسبَحون في بحر الظلمات، مثل كوبرنيك الذي كان عالماً رياضيا وفيلسوفا فلكياً وقانونياً وطبيباً ويعتبر أحد أعظم علماء عصره وأول من صاغ نظرية مركزية الشمس وكون الأرض جرماً يدور في فلكها في كتابه "في ثورات الأجواء السماوية" ومؤسس علم الفلك الحديث، كان راهبا وتابعا لفكر القديس توما الإكويني. وكبلر كان لوثريا ومتصوفا، وجاليليو كان مؤمنا بالله ويعتبره بمثابة المهندس الأعظم Le Grand Géomètre، أما نيوتن فقد كان يعتقد أن خلق العالم قد حدث سنة ٤٠٠٤ قبل الميلاد، وإن كان قد نسي أن يحدد بالضبط اليوم والساعة. دون أن ننسى ديكارت، شيخ العقل الفلسفي ومنهج "الشك" الذي توصل بواسطته إلى وضع قواعده المعروفة للبحث العلمي للتوصل لمعرفة يقينية، وكان له تأثير كبير في علم الرياضيات، حيث اكتشف نظاما رياضيا سمي باسمه وهو "نظام الإحداثيات الديكارتية"، الذي شكل النواة الأولى للهندسة التحليلية، فكان بذلك من الشخصيات الرئيسية في تاريخ الثورة العلمية، ويعتبر الشخصية الرئيسية للمذاهب العقلانية في القرن السابع عشر، لجأ بدوره إلى الله واستحضره ليضمن له هذه المعرفة "إنني أدرك بجلاء ووضوح وجود إله قدير وخير لدرجة لا حدود لها". وحتى بعد الثورة الفرنسية التي تعتبر تتويجا لعصر التنوير الأوربي، ورغم محاولات روبسبيير للقضاء على سلطة الكنيسة ووضع إله جديد سماه "العقل" محل الآلهة المسيحية وتحويل الكنائس إلى معابد للعقلانية وخلق تقويم لا يعتمد على الأساطير اليهودية -المسيحية وتغيير أسماء الشهور والأيام، والعام الذي أعلنت فيه الجمهوريه أصبح العام الأول للتاريخ الجديد، رغم كل ذلك فإن الفكر الديني والغيبي انتصر في نهاية المطاف وعاود سيطرته على الفضاء الفلسفي والأيديولوجي للمجتمعات الأوربية لفترة طويلة. ولكن هذا الفكر الغيبي لم يمنع هذه المجتمعات من إنجاز عملية فصل جذرية بين هذا الفكر الغيبي وبين الإدارة العملية البراجماتية للأمور الدنيوية وللعلاقات الإجتماعية بين المواطنين مما أدى إلى ما يمكن تسميته بـ "الإنفصام العقلي الغربي" إلى عقل نظري ما يزال مرتبطا بالتاريخ الديني والميثولوجيا اليهودية، وعقل عملي يسمح بالحريات العامة اللامحدودة لجميع التيارات الفكرية والممارسات الإنسانية بعيدا عن المصادر اللاهوتية. ومع ان ما يمكن تسميته بالنظام "العلماني" طُبّق لأول مرة في فرنسا في اواخر القرن الثامن عشر أثناء الثورة البرجوازية الفرنسية، الا ان فكرة فصل الدين عن الدولة تبلورت تدريجيا نتيجة لتطورات سياسية ودينية وفكرية مرت بها اوروبا الغربية المسيحية خلال قرون عديدة، حيث نشأت هذه الفكرة وتطورت كرد فعل على النفوذ الكبير الذي مارسته الكنيسة الكاثوليكية على الساحات السياسية والاقتصادية والفلسفية والفكرية عموما في اوروبا الغربية منذ القرن الرابع الميلادي، بفضل ما تجمع لديها من املاك واراض واموال شكل ثروة طائلة ما تزال آثارها وبقاياها حتى اليوم ممثلة في ثروة دولة "الفاتيكان" التي لا أحد يستطيع تقديرها لسريتها التامة، وكذلك بفضل تكريس رجال الدين والكنيسة جل وقتهم في البحث والدراسة وتحصيل الثقافة والعلوم مما أعطاهم مكانة قيادية في مجتمعاتهم قرونا عديدة. ولا شك أن فصل الدين عن الدولة قد أدى إلى تقدم العلوم التجريبية والنظرية وتطورهما السريع، مما أدى بدوره إلى الإسراع في تقليص سلطة الفكر الغيبي وانحساره تدريجيا من الحياة العامة، رغم بقاءه حيا كخلفية ميثولوجية تغذي الخيال الأوربي ويستقي منها هويته التاريخية. وهكذا اتخذت الحياة الإجتماعية والسياسية طابعا إنسانيا، أملته بطبيعة الحال الظروف الإقتصادية والجغرافية والتاريخية لأوروبا الغربية، مجتمعا "متقدما" ومنظما وفق مباديء ومعايير مستقاة مباشرة من حياة البشر وتجارب الشعوب ونضالهم من أجل الحرية، وليس من التعليمات أو القيم الأخلاقية المسطرة في المنشورات الإلهية. وهذا لا يعني إختفاء الفكر الغيبي من الساحة الأوربية، فهو رغم انحساره من الساحة العامة إلا أنه ما زال حاضرا ويؤثر بطريقة غير مباشرة على حياة المواطنين، وحضور أو إنحسار هذا الفكر يتناسب مع وعي المواطن الأوربي وقدرته على مواجهة القوى الرجعية والرأسمالية التي تسيطر إقتصاديا على كل أمور الدولة. ففي سنة ٢٠١٣ شهدت فرنسا تقدما نوعيا شديد الأهمية يتمثل في إصدار قانون يعطي المثليين الحق في الزواج مثلهم مثل بقية المواطنين، وفي نفس الوقت شهدت أسبانيا ودول أوروبية أخرى تراجعا شديد الأهمية بدوره حيث ألغي حق النساء في ممارسة عملية الإجهاض التي اعتبرها الفكر الغيبي السائد موازية لعملية القتل والإغتيال، وهي ضربة خطيرة موجهة لحقوق النساء في أسبانيا وغيرها. فالفكر الغيبي الأوربي الذي يربط "الأخلاق" مباشرة بالنظام الإقتصادي والسياسي، يحاول كلما أتاحت له الفرصة، مثلما في حالة الأزمات الإقتصادية، أن يتجاوز مجال الإقتصاد والسياسة إلى قضايا إجتماعية ليفرض رؤيته الغيبية والدينية على المجتمع كما يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية التي ترتفع فيها أصوات عديدة لتجمعات دينية ظلامية ومنذ سنوات طويلة لإلغاء تدريس نظرية داروين في المدارس. إن فصل الدين عن الدولة أنتج مباديء جديدة مثل "الديموقراطية" و"الحرية" و"مباديء حقوق الإنسان" التي أصبحت بطريقة ما تمثل "كنيسة" الحضارة الغربية المعاصرة، وأصبحت "الديموقراطية" بمفهومها الضيق سلاحا من أسلحة الدمار الشامل، سببت وما تزال تسبب في تدمير كل ما يتعارض مع الفكر الغيبي الأوربي والأمريكي، وبإسمها تشن الحروب وتنظم الإنقلابات العسكرية وتحاك المؤامرات وتدمر المدن وتحرق القرى وتغتال طائرات الدرون كل من يشك في عدائه للإمبراطورية الأمريكية. أما "الحرية" فهي حرية الإستثمار والتجارة والإستغلال وحرية تملك أدوات الإنتاج، بل حرية تملك المصادر الطبيعية التي، عقليا يجب أن يستمتع بها كل إنسان على ظهر الأرض وملك للجميع مثل الأرض والماء والهواء والثروات الطبيعية المخزونة في باطن الأرض. وحلت الشركات الكبرى العالمية محل السلطة الدينية وأصبحت تمتلك كل ما يمكن إمتلاكه على ظهر الأرض، من الماء والكهرباء وشواطيء البحر وثلوج الجبال وهواء البحيرات، إلى الجرائد والمجلات ودور النشر والتوزيع وكل أدوات الإنتاج الفني من سينما ومسرح ومتاحف إلى مصانع السيارات والطائرات والبواخر والأسلحة، وانتهوا بامتلاك منظومة الجينات عند الإنسان والحيوان والنبات، حيث تمتلك شركة مونسانتو،على سبيل المثال، وتحتكر كل ما يستنبت فوق هذا الكوكب. وهي شركة متعددة الجنسيات تعمل في مجال التكنولوجيا الحيوية الزراعية والمنتج الأول بالعالم لمبيد الحشائش جلايفوست تحت اسم "راوند آب" وهي بلا منازع أكبر منتج للبذور "العادية والمعدلة وراثيا"، وتملك 70-100% من أسواق بذور مختلف المحاصيل في العالم. وهي تستخدم تكنولوجيا "تعقيم البذور"، لتجعل من المستحيل على المزارعين إعادة استخدام أو استنبات محاصيلهم إذا ما استخدموا بذور «مونسانتو» لأنها لا تستنبت إلا مرة واحدة مما يضطر المزارع إلى شراء بذورة كل سنة ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نتنياهو: حماس تمارس إبادة جماعية ورفضت جميع المقترحات المتعل


.. الدكتور مصطفى البرغوثي: ما حدث في غزة كشف عورة النظام العالم




.. الزعيم كيم يشرف على مناورة تحاكي -هجوماً نووياً مضاداً-


.. إيطاليا تعتزم توظيف عمال مهاجرين من كوت ديفوار وإثيوبيا ولبن




.. مشاهد جديدة وثقتها كاميرات المراقبة للحظة وقوع زلزال تايوان