الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التنمُّرُ ... قاتلُ المستقبل

فاطمة ناعوت

2022 / 11 / 19
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


استكمالًا لحديثي الاثنين الماضي حول "التنمّر" الذي هو "قتلٌ عمدٌ مع سبق الإصرار والترصد"، دعوني أُحلّقُ معكم بخيالي لنكتشفَ أن التنمّر والسخرية قتلٌ للمستقبل والعِلم كذلك.
قبل ألف عام، أشار طفلٌ إلى طائر يجوب السماء، وقال لأبيه: “أريدُ أن أطيرَ مثله يا أبي." فسخر الأبُ من ابنه وقال بثقة العالِم: "الإنسانُ لا يطير يا أحمق." فصمتَ الأحمقُ. جلست طفلةٌ على شاطئ البحر تراقبُ الموجَ الهادر، ثم ركضت إلى أمها: “أمّي أودُّ أن أغطسَ في عمق الماء.” فهزأت الأمُّ منها: “كفى غباءً فأنتِ لستِ سمكة!” فكفّت الغبيةُ عن غبائها ومضت تكنسُ الدار. كبُر الطفلان وقالا: “اشتقنا إلى حكايات الجدّة التي تسكن في البلدة البعيدة. كيف يمكنُ سماعُ صوتها عن بعد؟" فضحك الأب والأم من بلاهة الطفلين، وأخبراهما أن الإنسانَ ليس عِفريتًا ليسمع عن بعد. وأنهما حين يكبران سيعرفان أن ما تمنياه مجرد نكتة سمجة. فسكت السمجان وانتظرا أن يكبُرا.
سوف يكبرُ الأطفالُ ويموت الآباءُ والأمهات، وتبقى نظرياتهما خالدةً خلود القوانين. وحين يكبر الأطفالُ سيعلّمون أطفالَهما أن الإنسان لا يطير، ولا يغطس، ولا يُنصت عن بعد. وتمرُّ القرونُ ونصلُّ إلى القرن ٢١ دون أن نعرف شيئًا اسمه طائرة، ولا غواصة، ولا هاتف، ولا حاسوب كالذي أكتب الآن، ولا مطبعة تنقل أفكاري إليكم. فالأسلافُ لا يتكلمون هراءً، وما يُقعّدونه من نظريات لا يجوزُ مسُّها، لأن الأقدمين مقدسون لا يخطئون. وانتقاد قول الأموات خطيئةٌ ومروقٌ وكفرٌ وحمق. ومن تمنطقَ تزندق.
في القرن الرابع قبل الميلاد، قال "سقراط" إن عدد أسنان المرأة أقلُّ من عدد أسنان الرجل. لم يقل هذا كطبيب أسنان، بل كفيلسوف يرى أن المرأة بفمها "النونو"، لابد يحتوي على أسنان أقل. وحين جاء أول طبيب أسنان في التاريخ ليكشف خطأ تلك الفرضية، اِتُهم بالجنون والشذوذ، لأنه يُكذّب عظيمًا من السلف، بالرغم من أن "سقراط" العظيم نفسه، قد حُكم عليه بالموت بتهمة الزندقة والكفر وازدراء الآلهة في شريعة الإغريق لأنه نادى بإعمال العقل وهجر الأساطير! للموت هالةٌ تمنح الميتَ قداسةً افتراضية. ومن حسن الخُلُق توقيرُ الميت ونسيان عيوبه. وفي الحديث الشريف: “اذكروا محاسنَ موتاكم، وكفّوا عن مساوئهم.” وهي خصلةٌ طيبة، لأن الميت لم يعد هناك ليدفع عن نفسه الأذى، فأمّنتْ له الإنسانيةُ أن يرقد في سلام، دون الاضطرار للذود عن اسمه السابق في دنيا تركها إلى غير رجعة. لهذا ننسى أخطاء موتانا ولا نتذكر إلا مواقفهم الكريمة. إلى هذا الحد، يُعدُّ الأمرُ إنسانيًّا وجميلا. لكن الخطورة أن نتجاهل تطور العلوم ونعدُّ نظريات الأقدمين من صحيح العلم.
انتبه المفكر الإنجليزي "فرنسيس بيكون"، إلى تلك الآفة البشرية في "تقديس الأولين"، دون مجرد الرغبة في تحليل أقوالهم وغربلتها وتمييز الصالح منها والطالح، والعميق منها والعفوي، والعلمي منها والاعتباطي. وأطلق على تلك الآفة: "صنم المسرح"، ضمن الأصنام الأربعة التي تعوّقنا عن معرفة الحقيقة. واستشهد بتجربة علمية عملية أجراها مُجايله الإيطاليّ العالِم الفلكي الفيزيائي "جالي ليو جاليلي”، الذي أثبت بالتجربة، أمام علماء الرياضيات والفيزياء، وحشود العامة أننا لو ألقينا من أعلى "برج بيزا"، حجرين يزن أحدهما رطلا، والآخر عشرة أرطال، أن الحجرين يصلان الأرض في لحظة واحدة. وشاهد الناسُ ذلك بعيونِهم، لكنهم كذّبوا عيونَهم واتهموا "جالي ليو" بالجنون! لماذا؟ لأن "أرسطو" الفيلسوف الإغريقي الشهير، الذي مات قبل تلك اللحظة بعشرين قرنًا، قال إن الحجر الأثقل وزنًا، يصلُ الأرضَ أسرع! "أرسطو" "قال" ولم يثبت. و"جالي ليو" قال و"أثبت". لكن الناس صدقوا "الميت"، ولم يصدقوا "الحيَّ"! لماذا؟ إنها "هالة الموت" التي تجعل من الأموات قديسين وعلماء لا يخطئون. وتكرر الأمرُ حين أثبت "جالي ليو" بالمعادلات الرياضية أن الأرضَ تدورُ حول الشمس، فحكمت الكنيسةُ عليه بالموت لأن في هذا مخالفة لما فهموه من الكتب المقدسة أن الأرضَ مركزُ الكون، تدور حولها الشمسُ. فاضطر "جالي ليو"، إنقاذًا لحياته، إلى العدول عن قوله ومجاراة أقوال الكهّان المغلوطة.
أديرُ الآن رقم هاتف "جالي ليو" وأعاتبه قائلة: لو كنتُ مكانك لتمسّكتُ برأيي ولم أخف." فيضحك ويقول: "الحياة غالية يا عزيزتي وهم لم يستحقوا المعرفة. وقد أنصفني التاريخُ حين خرجت أوروبا من غفلتها الغيبية وأفاقت على نور العلم بعد موتي بقرون.”
بعد "جالي ليو" والطفلان، جاء أطفالٌ آخرون، أخبرهم آباؤهم أن الإنسان لا يطيرُ كالطائر ولا يغطسُ كالسمكة ولا يسمع عن بُعد كالعفريت، لكن أولئك الأطفال أنعم اللهُ عليهم بمَلكة عظيمة اسمها "الشكّ". فكانت الطائرةُ وكانت الغواصةُ وكان الهاتف. لا تسخروا من الأحلام، فهي المستقبل.
               ***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تنمر الدولة على الطفل شنودة
Magdi ( 2022 / 11 / 20 - 17:55 )
مقالكم ممتاز يسخر ممن تنمروا زمان على أطفالهم ولم يتصوروا أن البشرية سوف تعرف الطائرة والغواصة والهاتف والحسوب.
ما رأيكم فى تنمر الدولة حاليا على الطفل شنودة - دون ذنب جناه - والمحروم حتى من زيارة والدية فى دار الرعاية .ارجوا الأطلاع على تعليقى الذى كتبته اليوم تحت عنوان :مارسيل بروست والطفل شنودة
----
فرنسا تحتفل هذا العام بمائة عام على رحيل أشهر كتابها مارسيل بروست ( 1871- 1922).
فى تحفته : البحث عن الوقت الضائع - مجلد 2
A lombre des jeunes filles en fleurs,P.333
تحدث عن فئة من البشر تفوح منهم القذاراة ومع ذلك يجولون فى المجتمع ظنا منهم ان الناس لن تحس برائحتهم الكريهة .
السلطات فى مصر تتصورأن العالم على غير دراية بالأنتكاهات لحقوق الأنسان.
وأذا نما على علمهم نداءات الرحمة يظل النظام أصم وابكم بكثير من البلة وعدم المسؤلية كما لاحظ أ على سالم ( أنظر تعليقى على مقال أ فاطمة ناعوت :مصر الراهنة ...فى عيون الأشقاء ) .أنظر أيضا مقال الصديق صلاح الدين محسن
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?ecom=1&aid=774671#858077
----------------------------
تحياتى .مجدى سامى زكى
Magdi Sami Zaki

اخر الافلام

.. شبكات | مكافآت لمن يذبح قربانه بالأقصى في عيد الفصح اليهودي


.. ماريشال: هل تريدون أوروبا إسلامية أم أوروبا أوروبية؟




.. بعد عزم أمريكا فرض عقوبات عليها.. غالانت يعلن دعمه لكتيبه ني


.. عضو الكنيست السابق والحاخام المتطرف يهودا غليك يشارك في اقتح




.. فلسطين.. اقتحامات للمسجد لأقصى في عيد الفصح اليهودي