الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السدة ـ راغبة خاتون

عبدالله عطية شناوة
كاتب صحفي وإذاعي

2022 / 11 / 19
سيرة ذاتية


أحاطت ضواحي بغداد الشرقية سدة أقيمت لحماية المدينة من عنفوان فيضانات نهر دجلة، التي طالما نكبت أحياء العاصمة العراقية، قبل إنشاء السدة التي لم يشغلني تأريخ أنشائها، مع أن ألقدر شاء أن تكون طفولتي المبكرة في الأكواخ الطينية التي شيدها المعدمون، خلفها من جهة الضاحية المسماة (راغبة خاتون) التابعة إداريا لقضاء الأعظمية.

في سنواتي المبكرة كان عبور السدة، رفقة أحد أفراد الأسرة الكبار، نحو ضاحية ( راغبة خاتون ) مثل الأنتقال من عالم الفاقة الى عالم الرفاه. فبدلا من عشوائية الأزقة في منطقة الأكواخ الطينية، تجد في راغبة خاتون شوارع منتظمة، بأرصفة ومسارات معبدة ومكسوة بالأسفلت، تتراصف على جوانبها مبان، أبعد من أن تكون فللا أو قصورا، لكنها كانت بالنسبة لطفل مثلي يعيش تحت سقف من جذوع النخيل والحصران المصنوعة من سعفه، تعلوها طبقة من الطين الممزوج بالتبن ليتماسك، وجدران طينية، كانت مباني راغبة خاتون المتواضعة في عيني الطفل الذي كنته، قصورا فارهة. ففي تلك المباني التي نادرا ما تزيد عن طابقين أو ثلاثة، تتلألأ مصابيح كهربائية وهاجة الضوء، مقارنة بضوء الفوانيس النفظية التي كنا نستضيء بها في كوخنا.

وفي تلك المباني شبكات لأيصال المياة النقية التي كنا نحصل على حصتنا منها بجهد مضني كتب على شقيقتي الكبرى أن تتحمله، حيث تنوء كل يوم بصفائح مياه تصعد بها السدة عائدة من أحدى دور ( راغبة خاتون ) التي أتفقت معها الأسرة على مدنا بالمياه النقية مقابل مبلغ مالي متفق عليه. ويحفظ ذلك الماء في خابية فخارية تسمى في العراق ((الحب)) بكسر الحاء. وقد خف ذلك العبء المضني عن شقيقتي بعد سنوات، حين جهزت منطقة الأكواخ بمنصات للتزود بالمياه بشكل جماعي.

وفيما كان عبور السدة رواحا ومجيئا تحت ثقل صفائح المياه عذابا لشقيقتي، كان عبورها، بالنسبة لي، رفقة والدي أو عمي الأكبر متعة هي الأكثر تشويقا. وتبلغ المتعة ذروتها عند الوصول الى شارع ( راغبة خاتون ) الرئيسي الذي تمخره حافلات نقل ركاب عمومي حمراء اللون، أنغليزية الصنع، بعضها مكون من طابقين، بالأضافة الى حافلات نقل عام ذات هياكل خشبية، لا تعود ملكيتها للدولة وأنما لأفراد. هذا فضلا عن سيارات التاكسي، والسيارات الخصوصية متعددة الطرز والألوان.

على جانبي الشارع الرئيسي الذي تتوسطه جزرة وسطية تتراصف محلات ذات واجهات مبهرة بالنسبة لي، أشدها إثارة لأهتمامي محل (( حلويات الخيام )) الذي تحول لاحقا إلى (( حلويات عبدالأمير )) الذي تتشامخ من خلف واجهته الزجاجية أهرامات البقلاوة والزلابيا وأصناف الحلويات التقليدية الأخرى المحشوة بالجوز والفستق.

وحين تكون الرحلة الى ذلك الشارع رفقة عمي الأكبر غالبا ما يكون هدفها مقهاه المفضل، لتدخين النارجيلة، وتبادل الأحاديث مع معارف له أو أصدقاء.

وفي ذلك الشارع شاهدت حدثين حفرا في ذاكرتي، وشاهد الشارع ـ دون أن يعبأ ـ أول عملين قمت بهما في حياتي وأنا في سن العاشرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - قصة مؤلمة ومعبرة
طلال بغدادي ( 2022 / 11 / 19 - 21:36 )
قصة جميلة ومعبرة ومؤلمة في ذات الوقت . فبينما انتقلت وملايين اخرين الى المدنية والحضارة.
ضاقت مديتنا بنا ولم تعد سعيدة ومرحة وفقدت زهوها وتألقها وتبغددها واضحت كمًا تراها الان .

اخر الافلام

.. الأرمن في لبنان يحافظون على تراثهم وتاريخهم ولغتهم


.. انزعاج أميركي من -مقابر جماعية- في غزة..




.. أوكرانيا تستقبل أول دفعة من المساعدات العسكرية الأميركية


.. انتقادات واسعة ضد رئيسة جامعة كولومبيا نعمت شفيق لاستدعائها




.. -أحارب بريشتي-.. جدارية على ركام مبنى مدمر في غزة