الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنسنة العلوم ورعاية العلماء

داخل حسن جريو
أكاديمي

(Dakhil Hassan Jerew)

2022 / 11 / 25
التربية والتعليم والبحث العلمي


يقصد بأنسنة العلوم , تسخير العلوم لخدمة الإنسان وترقيته وتيسير سبل معيشته وتحسين بيئته وضمان إستدامتها وتنوعها وحفظ أمنه وآمانه , أي بإختصار أن تكون العلوم في خدمة الإنسانية جمعاء , لا أن تكون سبيلا لتدمير الحياة الإنسانية الآمنة المستقرة بأي حال من الأحوال , أي أن تسخر العلوم لسعادة الإنسان أينما كان , بصرف النظر عن عنصره ولونه وهويته ودينه ,إذ لا خير في علم يجرد من محتواه الإنساني ولا ينفع الناس , ذلك أن العلم لا دين له ولا قومية ولا ينتمي لدولة معينة أو لجنس بشري محدد , بل هو نتاج إنساني مشترك لجميع بني البشر في مشارق الأرض ومغاربها . ولا ينحصر العلم بفترة تاريخية محددة أو بحضارة معينة. كما لا يقتصر الإبداع العلمي والتقني وكل صنوف الإبداع الفني والثقافي والمعرفي على جنس بشري معين , كما تؤكد ذلك كل وقائع التاريخ حاضره وماضيه , فكل أمم وشعوب العالم جميعها قد أسهمت بصورة أو بأخرى في النتاج المعرفي الإنساني في مرحلة من مراحلها التاريخية بدرجة أو بأخرى ,وما زالت مستمرة على هذا المنوال , وستستمر بإذن الله حتى قيام الساعة . ولا شك أن تتفاوت إسهامات الأمم بحسب ظروفها وتطورها , إلاّ أنها جميعا تسهم بقدر أو بآخر حسب إمكانتها في كل فترة .
لذا لم تكن المعرفة حكرا على أمة معينة ولن تكون كذلك يوما أبدا, كما يحاول أن يروج لذلك دعاة العنصرية في أكثر من دولة بدعوى تفوقهم العنصري وقدراتهم الخارقة التي لا يضاهيهم فيها أحدا , متخذين من ذلك وسيلة لبسط نفوذهم وسلطانهم على الشعوب الأخرى التي شاءت الظروف أن تكون ضعيفة وتعاني في فترة معينة من التخلف لأسباب مختلفة , متجاهلين عن عمد أن الأمم جميعها قد مرت وتمر بفترات صعود وإنحدار بحضاراتها عبر التاريخ .
ولأن العلم بات اليوم ينظر إليه من قبل معظم شعوب الأرض بأنه الوحي الذي هبط على البشرية في عصرنا الراهن لإنقاذها من براثن الفقر والجوع والحرمان والتخلف ,ويشهد العلم اليوم تطورات سريعة ليس من السهل ملاحقتها , لذا فقد أولته حكومات تلك الشعوب إهتماما بالغا , بعد أن أدركت أن العلم ولاشيئ سواه يمكن أن يحقق لها نموا وإزدهارا على جميع الأصعدة وفي جميع مجالات الحياة .
إلاّ انه يلاحظ بأسف شديد أن بلدنا العراق الذي قامت على أرضه أعظم الحضارات عبر تاريخه العريق , الذي إزدهرت فيها العلوم وشتى صنوف المعرفة , يتخلف الآن كثيرا عن مواكبة تطور العلوم والمعرفة الإنسانية بصنوفها المختلفة , بعد أن شهد في عقد السبعينيات من القرن المنصرم بداية نهضة علمية واعدة في شتى صنوف المعرفة وبناء قدرات وطنية لتوظيف معطيات العلوم ومستجداتها لخدمة مشاريع التنمية الشاملة المستدامة , كادت تنقله إلى مصاف الدول المتقدمة علميا , لو قدر للعراق الإستمرار على هذا المنهج العلمي الثابت الذي أبهر الأصدقاء وأغاظ الأعداء .
تمثلت نهضة العراق العلمية بإلزامية التعليم في مرحلة الدراسة الإبتدائية , وجعله متاحا ومجانا لجميع الطلبة بجميع مراحله الدراسية اللاحقة بما في ذلك جميع برامج الدراسات العليا , وتنويع برامجه لتلبية متطلبات خطط التنمية الشاملة المستدامة , ونشر التعليم الجامعي من معاهد وكليات في جميع محافظات العراق , وتأسيس مراكز للبحوث العلمية في الجامعات وخارجها في إطار مجلس البحث العلمي , والإرتقاء بمنظمة الطاقة النووية لتصبح منصة علمية بارزة ليس على صعيد العراق فحسب بل وعموم منطقة الشرق الأوسط , الأمر الذي أفزع الأعداء وأثار حفيظتهم, مما دفعهم لتخريب بعض معداتها في مهدها قبل نصبها في العراق وإغتيال بعض العلماء العاملين في منظمة الطاقة الذرية العراقية . كان آخرها قصف مفاعل تموز النووي في التويثة في السابع من حزيران عام 1981 من قبل إسرائيل أبان الحرب العراقية الإيرانية .
وشرع قانون وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ذي الرقم ( 132 ) لسنة 1970 الذي جاء في أسبابه الموجبة :
" لم يعد جديدا القول أن العلم سلاح الشعوب الاول في كفاحها الانساني الازلي للتحرير من الجهل والخوف والتخلف وجميع اشكال القسر والطغيان ,كما انه اكثر ادواتها فعالية وجدوى في تمكينها من السير قدما في اتجاه تحقيق اهدافها الوطنية والقومية والانسانية وبناء عالم افضل .
وإذا كان هذا القول صحيحا في كل زمان ومكان فلا عجب أن تبلغ صحته أعلى مراتب اليقين في عصرنا هذا – عصر العلم – العصر الذي اصبحت تقاس فيه حضارة الانسان بمدى تقدمه في الكشف عن القوانين الطبيعية التي تحكم بناء الكون وحركته وتهيمن على معظم الحياة النفسية والاجتماعية فيه. ذلك لان معرفة الانسان بهذه القوانين وقدرته على حسن استخدامها هما اللذان يمكنانه من ممارسة انسانيته في السيطرة اكثر فاكثر على مسيرة التطور في حركة الطبيعة والحياة والتاريخ وينيران امامه سبل التحرير من أسار الحتمية العمياء والثورة واقعه المتخلف المفروض" .
وقد شهد عقد الثمانينيات تصاعدا ملحوظا في النشاط العلمي والتقني ,على الرغم من تداعيات الحرب العراقية الإيرانية التي إستنزفت معظم موارد العراق المادية والبشرية , تمثل ذلك بتصاعد نشاط منظمة الطاقة النووية العراقية على الرغم من تعرض بعض منشاءنها لعدوان إسرائيلي غاشم عام 1981 , وتأسيس هيئة التصنيع العسكري التي مثلت نموذجا عراقيا متقدما للصناعة. وشهد عقد التسعينيات نشاطا بارزا وملحوظا لمركز إباء للبحوث الزراعية الذي لعب دورا مهما بتنشيط البحوث الزراعية بإدخال أصناف زراعية ملائمة لبيئة العراق الزراعية في ظروف الحصار الإقتصادي المفروض على العراق ظلما طيلة عقد التسعينيات من القرن المنصرم . وشهدت الجامعات نشاطا علميا غير مسبوق تمثل بالترابط البحثي الشديد مع حقل العمل والتوسع الكبير في برامج دراسات الدكتوراه لسد حاجة الجامعات وحقل العمل من حملة الشهادات العليا بعد أن سدت بوجه العراق جميع قنوات التواصل العلمي مع الجامعات الأجنبية التي كانت المصدر الرئيس لرفد العراق بتلك الكوادر.
وشهد منتصف عقد التسعينيات بداية جديدة لعمل المجمع العلمي العراقي بتحويله من مجمع لغوي يهتم بالتراث العراقي , إلى أكاديمية علوم شاملة لجميع صنوف المعرفة على غرار أكاديميات العلوم المعروفة في الدول المتقدمة , وقد أعيد تنظيمه وفقا لهذه النظرة العلمية الجديدة ,بموجب قانونه ذي الرقم (3 ) لسنة 1995 , وتم رفده بعلماء عراقيين بارزين بمختلف التخصصات العلمية لممارسة مهامه .
ولأسباب عديدة شائكة لا نريد هنا الخوض بتفصيلاتها , فقد أجهضت هذه النهضة الوليدة في مهدها , وأعيد العراق منذ غزوه وإحتلاله عام 2003 إلى كل أشكال التخلف والشعوذة والتجهيل تحت مسميات مختلفة , عبر إفساد مؤسساته العلمية وإناطة مسؤلية قياداتها بعناصر ضعيفة قليلة الخبرة حديثة التخرج في معظمها ,لا تفقه من أبجديات ادارة المؤسسات العلمية شيئا , همها الأول حصد منافع السلطة وتأمين الولاء لأولياء نعمتها الذين أوصلوها لهذه المراكز , بموجب نظام المحاصصة الطائفية والأثنية الذي لم تسلم منه الجامعات .فلا عجب أن نرى الجامعات العراقية اليوم خارج التصنيفات الدولية للجامعات , نظرا لإفتقارها إلى أبسط معايير الجودة العلمية , بعدما أن كانت تصنف يوما بين أفضل الجامعات العربية وجامعات منطقة الشرق الأوسط .
بدأت الهجمة بمطاردة علماء العراق وتصفية الكثير منهم تصفية جسدية في وضح النهار دون رادع, مما إضطر الكثير من علماء العراق ومبدعيه الهجرة إلى خارج العراق بحثا عن ملاذات آمنة لهم ولعوائلهم , الأمر الذي أفرغ المؤسسات العلمية من كوادرها , وبخاصة ان الكثير منهم قد طالتهم سياسة الإجتثاث سيئة الصيت, بفصلهم من أماكن عملهم وحرمانهم من موارد رزقهم . كما تعرضت معظم الجامعات والمؤسسات العلمية إلى أعمال تخريب وسلب ونهب لمعظم موجوداتها وأجهزتها العلمية تحت أنظار القوات الغازية وبتشجيع مباشر منها أحيانا . كان المجمع العلمي أحد هذه المؤسسات التي تعرضت بعض أجهزته وكتبه ومخطوطاته إلى أعمال السلب والنهب والتي تم إعادتها بفضل الله وجهود الخيرين .فقد المجمع العلمي ألقه وبريقه العلمي بعد أن فقد معظم أعضائه إن لم يكن جميعهم , فمنهم من توفاه الله ومنهم من إضطرتهم ظروف العراق إلأمنية المنفلتة إلى الهجرة إلى خارج العراق , وبذلك فقد المجمع العلمي نصابه القانوني الذي يسمح له بمزاولة نشاطه , بحيث لم يتمكن من إنتخاب رئيسا ونائبا للرئيس وأمين عام ورؤساء دوائر علمية من بين أعضائه العاملين الذين لم يعد لهم الآن أي وجود فعلي . لذا يتعيين على الجهات المختصة إتخاذ الإجراءات القانونية لوضع المجمع العلمي بوضعه القانوني السليم ,أولا بتسمية أعضاء عاملين في المجمع العلمي من كبار علماء العراق ومفكريه ومبدعيه ,وإصدار مراسيم تعينهم بوصفهم من ذوي الدرجات الخاصة طبقا لقانون المجمع , ليقوموا بعدها بدورهم بإنتخاب رئيس المجمع وإستحصال المصادقات الأصولية لإصدار المرسوم الجمهوري بتعينه كونه بدرجة وزير بحسب قانون المجمع العلمي النافذ ,وإنتخاب نائب الرئيس وأمينه العام ورؤساء دوائره العلمية من بين أعضائه العاملين حسب الأصول القانونية .
ويقتضي الحال إعادة نظر شاملة وجادة بمجمل أوضاع الجامعات العراقية التي بات أحوالها لا تسر عدو ولا صديق , فساد مستشري في جميع مفاصلها , شهادات تباع وتشترى دون أية قيمة علمية لها , معاهد وكليات وجامعات عامة وخاصة تستحدث دون دراسات جدوى مسبقة وبتخصصات علمية لا علاقة لها بحاجات سوق العمل , الأمر الذي أدى إلى تفاقم أعداد الخريجين الباحثين عن عمل في جميع التخصصات , وبمستويات علمية متردية وشهادات مزيفة في الكثير من الأحيان .
وبذلك فقدت العلم بريقه في العراق , إذ لم تعد اليوم للشهادة الجامعية قيمة تذكر , سوى سد حاجة بعض طالبي المناصب العليا لها ,ممن لا تحصيل جامعي لهم إستكمالا لمتطلبات المنصب , وإستعدادهم لدفع ما يلزم للحصول عليها كما تتناقل ذلك وسائل الإعلام المختلفة بين الحين والآخر . وأخيرا نقول لا يصح أبدا إهمال المؤسسات العلمية العراقية التي كانت يوما منار للعلم والمعرفة , وكان علماء العراق ومفكريه ومبدعيه يشار لهم بالبنان , فعلى من تعنيه مكانة العلم السامية , رعاية علمائه وحفظ كرامتهم , فكرامة العلماء من كرامة العراق .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الرد الإسرئيلي على إيران .. النووي في دائرة التصعيد |#غرفة_ا


.. المملكة الأردنية تؤكد على عدم السماح بتحويلها إلى ساحة حرب ب




.. استغاثة لعلاج طفلة مهددة بالشلل لإصابتها بشظية برأسها في غزة


.. إحدى المتضررات من تدمير الأجنة بعد قصف مركز للإخصاب: -إسرائي




.. 10 أفراد من عائلة كينيدي يعلنون تأييدهم لبايدن في الانتخابات