الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بخطى طليقة- غرف العار

عصمت منصور

2022 / 11 / 25
أوراق كتبت في وعن السجن


كما يطير العصفور من يد الصياد اذا ما تراخت يده قليلا، او عند اول فرصة تتاح له، كان المتورطون في العمالة مع مديرية السجون يفرّون الى إدارة السجن عند أول فرصة تتاح لهم، ومن هنا جاءت التسمية الشائعة لهم "العصافير".
لم تكن ظاهرة العصافير هامشية ولا مؤقتة، بل ظاهرة مزمنة لازمت الحركة الأسيرة منذ نشأتها الأولى واصبحت جزءا عضويا من تاريخها العريق والمشرّف، وواحدة من أدوات مديرية السجون في مواجهة الأسرى وإضعاف جبهتهم الداخلية ومحاولة كشف أكبر قدر من المعلومات عنهم وعن قياداتهم وخططهم المستقبلية، كما أنها استخدمت من أجل بث الإشاعات والأخبار الكاذبة بهدف نشر روح الإحباط وتثبيط العزائم في المواجهات المفتوحة، أو خلق فتن وصراعات داخلية وافتعال شتى انواع الأزمات التي كانت كفيلة بأن تشغل الاسرى عن صراعهم الأساسي مع عدوهم المركزي المتمثل في مديرية السجون، وأذرع أجهزة الاحتلال الأمنية.
أجهزة الأمن التي شكلها الأسرى في مواجهة هذه الظاهرة (راجع حلقة رقم 8 – الامن) جاءت استجابة غريزية وطبيعية بهدف تمتين الجبهة الداخلية، وصونها والتصدي لمحاولات الاختراق التي تنوعت وتعددت أساليبها وتحولت الى حرب ظلال خفية ومعقدة، قادت في نهاية المطاف الى خلق ساحة صراع مركّبة بين الأسرى وما بين العملاء/العصافير تجسدت في محاولة كشفهم ومحاسبتهم واتقاء شرهم من جهة ومع مديرية السجون التي كانت تمسك بالخيوط التي تحركهم من جهة أخرى.
أنتج هذا الصراع الخفي ظواهر وأعراضاً جانبية مثل انتشار التعذيب بوسائل عنيفة، وتفشي حالة من الخوف والرهبة بين صفوف الأسرى وصلت لدى البعض الى حد الهوس والجنون، كما انها لم تخلُ من وقوع أخطاء جسيمة أدت الى ظلم البعض وتشويه سمعتهم لمجرد الشبهة، او بسبب تآمر آخرين، وأحيانا بسبب خلافات حزبية داخلية.
هذه الظاهرة التي بدأت فردية ونتيجة ضعف بعض الأسرى وعدم امتلاكهم القوة الداخلية الكافية في مواجهة مصير الأسر، او احتمال أساليب التعذيب والتنكيل التي مارستها أجهزة أمن الاحتلال ومن ضمنها مديرية السجون عليهم، ليجدوا انفسهم في معسكر العدو، وأداة من أدواته لمحاربة أبناء جلدتهم، تنظمت مع مرور الزمن واخذت شكلا جماعيا، بحيث لم يعد العميل الفرد يؤدي مهمة محددة تنحصر في جمع المعلومات ونقلها لمشغّليه من إدارة العدو، او افتعال فتن وخلق مشاكل وصراعات بين الأسرى، وينتهي دوره بمجرد اكتشافه، بل انها تحولت الى غرف او أقسام، وباتت تلعب دورا محوريا وإحدى ركائز الأمن التي تستند اليها إسرائيل في الصراع اليومي الذي لا يهدأ على مدار الساعة بين الأسرى وامتداداتهم النضالية الخارجية وبين سجانيهم.
أدت عملية الملاحقة المنظمة، وتجند الاسرى ومؤسساتهم النضالية والتنظيمية الى الكشف عن الكثير من العملاء، وقد قاد ازدياد هذا العدد من الهاربين من قبضة اجهزة أمن الأسرى داخل السجون من جهة، وعدم صلاحيتهم للعمل بين الأسرى مرة أخرى بسبب انكشاف هويتهم ومهماتهم التي كلفوا بها من جهة اخرى، وأيضا الخطر الذي يتهددهم اذا ما عادوا، الى تحولهم الى عبء على مديرية السجون، التي كانت تتخذ إجراءات معقدة تستنزف طواقمها وإمكانياتها من أجل نقلهم من مكان الى آخر وتأمين مكان ملائم يضمن حمايتهم وعدم احتكاكهم ببقية الأسرى.
في سعيها للتخلص من هذه الكتلة منتهية الصلاحية وغير المنتجة قامت مديرية السجون بابتكار آلية جديدة تضمن لها (إعادة تدويرهم وانتاجهم من جديد) على نحو أكثر خطورة حيث قامت بتجميعهم في غرف جانبية تكون خاصة بهم تكون عادة بعيدة ومنفصلة عن أقسام الاسرى لكنها تحاكي نمط حياتهم.
هذه الغرف والأقسام عرفت فيما بعد باسم غرف العار، وكان كل قاطنيها من العملاء والفارّين من العقاب او المتورطين في قضايا أخلاقية او جنائية.
أصبحت غرف العار مصيدة ووكرا لا يستوعب العملاء ويحتويهم فقط، بل يؤدي خدمات أشد خطورة لصالح مديرية السجون، حيث كانت تتعمد إدخال الأسرى الجدد إليها وايهامهم انهم بين زملائهم وسحب اعترافات منهم، او إجبارهم على الإدلاء بمعلومات وكشف اسرار لم يعترفوا بها أمام المحققين الاسرائيليين.
اسم غرف العار الذي أطلقه الأسرى على هذه الغرف جاء للتدليل على المهمة القذرة التي يؤديها العملاء فيها وأيضا كنوع من الاحتقار لهؤلاء العملاء والمكانة المنحطة التي وضعوا انفسهم فيها.
استخدم نزلاء غرف العار خبرتهم التي اكتسبوها اثناء تواجدهم بين الأسرى، ومعرفتهم الجيدة بظروف الحياة داخل السجون وآليات عمل التنظيمات والوسائل التي تتبعها ونمط الحياة الاجتماعية التي ابتدعوها ولغتهم الداخلية، للإيحاء لكل قادم جديد ترسله أذرع أمن الاحتلال، وخاصة جهاز الأمن العام "الشاباك" من اجل انتزاع اعتراف منه، فقد كان كل قادم جديد يتم ادخاله الى هذه الغرف يشعر أنه وصل الى السجن، وانه بين رفاقه الأسرى، وما ان يشعر بالأمان بعد فترة تحقيق طويلة ومضنية، حتى يطلب منه تقديم تقرير مفصل حول نشاطه ودوره النضالي ومن هم شركاؤه، بذريعة ان هذه المعلومات ستكون مفيدة للثورة بهدف استمرار النضال والتواصل مع افراد خليته بعد أسره وتحذيرهم.
أسرى كثر وقعوا ضحية هذه الأساليب الرخيصة خاصة من بين حديثي العهد وعديمي التجربة، وهو ما خلق تحدياً جديدا أمام أجهزة الامن التابعة للأسرى، والتي رغم كل ما راكمته من خبرة وتجارب، إلى الهالة المرعبة التي أحاطت بها، كانت محكومة بمعادلة الأسر والقيود التي يفرضها تحديدا في مجالي التواصل والحركة.
لا توجد إحصائيات حول عدد الاسرى الذين ارتبطوا بإدارة السجون، ولا حول الضرر الذي تسببوا به، وربما لن نتمكن أبدا من معرفة هذه المعلومات بسبب غياب جهاز موحد لمتابعة هذه الظاهرة وتوزع المهمة على كل فصيل او سجن بشكل منفصل حتى من أبناء التنظيم الواحد، وأيضا بسبب عدم التوثيق بشكل علمي ومنهجي، وتعرّض ممتلكات الأسرى وارشيفهم للمصادرة او التلف، لكن الشيء المؤكد الذي يجمع عليه كل من عايش العقود الأولى من تجربة الحركة الأسيرة هو أن صراعا قذرا ومرعبا ومكلفا جدا، دار في الخفاء بين الأسرى وآسريهم ترك ندبا وآثارا ليس من السهل نسيانها، وان الأسرى كانوا خلال هذا الصراع ضحايا مرتين حتى عندما يحققون انتصارا ما لأن مادة هذا الصراع وذخيرته من ابناء شعبهم.
ان هذا الشعور بانعدام مذاق الانتصار ونكهته دفعت الأسرى، وكلما نضجت تجربتهم وتصلب عود مؤسساتهم، الى البحث عن سبيل آخر وهو الإصلاح ومحاولة استعادة من تم التغرير بهم وإسقاطهم في مستنقع الرذيلة والخيانة، لذا اخذوا يصنّفون هؤلاء العملاء الى درجات حسب الخطورة ودرجة التورط في العمالة، كما أنهم كفوا عن دفعهم الى الهرب والارتماء في أحضان عدوهم واكتفوا بعقوبات داخلية مثل المقاطعة الاجتماعية، او عقوبات جسدية يمكن احتمالها (الجلد) ومن ثم محاولة إصلاحهم واستيعابهم من جديد.
ما بين جدران الأسر، نشأت قصص صراعات وحروب خفية لا يمكن اختزالها او رسم صورة واضحة لها لشدة تداخلها وديناميتها وتفاوتها بين حقبة زمنية وأخرى.
ان الخلاصة الوحيدة المؤلمة من هذه التجارب هي ان الزمن كان أسرع بكثير من قدرة منظومة الأسرى على مجاراة مديرية السجون، وأن السكين كانت تنغرز في لحمهم الحي، وان كل درس تعلموه وحولوه الى قانون دفعوا ثمنه مضاعفا، قبل ان يستقربهم الحال الى ما وصلوا إليه الآن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيرانيون يتظاهرون في طهران ضد إسرائيل


.. اعتقال موظفين بشركة غوغل في أمريكا بسبب احتجاجهم على التعاون




.. الأمم المتحدة تحذر من إبادة قطاع التعليم في غزة


.. كيف يعيش اللاجئون السودانيون في تونس؟




.. اعتقالات في حرم جامعة كولومبيا خلال احتجاج طلابي مؤيد للفلسط