الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدين بين طورين ح 1

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2022 / 11 / 26
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الدين بين طورين
يظن الكثير من الباحثين الأكاديميين المتخصصين بالمعرفة الدينية بشكلها المدون أو المبحوث عنها في الأدلة الأركولوجية أو التأريخية، وحتى من رجال الدين الذين بحثوا في تاريخ الدين من خلال مقولات وأفكار الدين ذاته، مما ورد منه في ثنيات وقصص الأنبياء والرسل، أن هناك مراحل ثلاثة متداخلة ومتعاصرة ومنها متعاقبة للدين، المرحلة الأولى أو الطور الأول هو الدين الفطري الذي نشأ أما بالتلقين من الرب كما في الأديان الإبراهيمية، أو من خلال أشتراطات وأفتراضات الواقع عن مؤرخي الأديان الطبيعيين، تطور هذا الدين الشخصي والفردي وتشعب في علاقاته ليتحول من إحساس وأستشعار داخلي إلى مجموعة روابط وعلاقات بينية جمعت الإنسان كمجموع، وصار مؤسسة أجتماعية يدين بها ويتقيد المجتمع بقواعد متفق عليها نتيجة التجربة والأستمرارية في الأعتقاد، إلى أن تم في مرحلة لاحقة تقنن هذا الدين برسالات نموذجية أخرجت الدين من المجموعية المحدودة إلى الكونية البشرية مع أديان إبراهيم ومن ذريته لاحقا.
هذه الأطوار جرى أعتمادها كحقيقة نظرا إلى عوامل عدة فرقت كل طور عن غيره ورسمت لكل مرحلة من مراحل تطور الدين شكلا ماهويا مختلفا عن غيره، أبتدأ من شكل الرب أو الإله الذي يعبد إلى تفرعات هذا الرب وقواعده ومتعلقاته، اسما وشخصا وكونية وكيفية وحتى طريقة تعامله مع البشر أو مع شركاءه في السلطة الدينية في مراحل تعدد الآلهة وتنوع أختصاصاتها، وبناء على الفوارق التي سجلها التاريخ ونقلها الإنسان لدائرة المعرفة أصبح أطوار الدين هكذا، الحقيقة الغائبة دوما أن التاريخ أو المؤرخين وحتى المتخصصين في الأديان ومنهم رجال الدين أعتمدوا على حقائق منقولة دون التأكد من كونها حقائق أو مجرد ظنون وخاصة فيما يتعلق قسم كبير منهن بالأسماء أو الأوصاف من خلال اللغة التي أما ترجمت منها وعنها، أو نقلت عبر وسيط أخر لم يدقق تماما في مضمون النقل ودلالات اللغة نفسها.
لو عدنا للعربية مثلا ومنها ندخل لمفاهيم ومسميات القرآن فيما يخص الله تحديدا أو الملائكة أو حتى مضمون الدين واوصافه، هذا العرض وإن كان ينطبق على القارئ العربي بالأساس بالواقع الفعلي وهو ما جر للخلاف والأختلاف في موارد الفقه والعقيدة، ولكن لو تصورنا أن العربية والعرب أنقرضوا ولم يبقى سوى الأثر المدون، فالقاري الذي سيقرأ ما تركه العرب من مؤلفات سيقول أن الإسلام الدين الذي كان يؤمن به العرب والمسلمون متعدد الآلهة، وهناك منهم من يعبد مثلا رب السماوات والأرض، وأخرين يعبدون رب أبائهم الأولين، ومنهم من يعبد إله أسمه "الله" وهو كبير الآلهة عند العرب والمسلمين، وهناك رب أخر ينافس الله وهو رب الأرباب، ويظن أن دوره يشبه تماما دور رئيس الوزراء في الدولة الحديثة، كل هذا أستنادا إلى النصوص التي نقلت من الأثر العربي والإسلامي، ولو عدنا أضافة للقرآن وتصفحنا الأدب العربي فنجد هناك رب أسمه رب الراقصات وهو الرب المعني بالفن والجمال، لأن الراقصات جزء من ثقافة الفن في بلاطات الملوك والسلاطين المسلمين، أضافة إلى رب الشويهة والبعير وهذا رب كان يعبده العرب المسلمون من الرعاة والبدو تحديدا.
هذا الأمر ليس خيالا فكريا محضا، ولا أفتراضا بلا معنى وبحاجة إلى سند ودليل خاصة وأن اللغة لم تنقطع فجأة ولم ينقطع التحدث بها بدون مقدمات أو أسباب واقعية، الحقيقة هذا الأمر حاصل فعلا حتى مع وجود العرب والمسلمون محافظين على لغتهم ونصهم كما جاء، لكن الخلاف ليس فقط في دلالات النصوص ومعانيها الخاصة والعامة، بل تعدى الأمر إلى حقيقة كون اللغة العربية يمكنها أن تعطي معنى عاما بمفردات عدة عكس المعنى الخاص والقصدي فلا يمكن أن يكون للدلالة القصدية الخاصة غير لفظ واحد، فكثيرا من الكلمات وعلى سبيل المثال ورود كلمة أولياء وأل وأهل ومولى وولاء وأولي الأمر والصلاة والكثير من المفردات التي تتعلق بأحكام الدين تستند إلى كشف المراد القصدي من الكلمة الواردة، مقال لهذه الإشكالية عندما يرد نص " وأتموا الصيام إلى الليل" أنقسم المسلمون في تحديد الوقت بين ما هو مصداق لكلمة الليل ويستوعب الدلالة اللفظية والقصدية، وبين من يرى أن الليل هو بداية أخر نقطة من النهار، بمعنى الوصول للحد الفاصل بين نهاية النهار وبداية الليل دون أن يكون هناك مصداق فعلي لمعنى الليل في اللغة وهو ما يعرف بالأليال أي غياب الضوء والعتمة بشكل غاب على أن يكون للضوء النهاري من وجود.
إذا مع كل ما تقدم من واقع نعيشه ونفهم إشكالياته بوضوح ونقر بحقيقة الخلاف الحاصل، لكننا عندما نعود للتاريخ وخاصة للشعوب والأديان واللغات التي كانت تعتمد لغة ومفاهيم خاصة بها، قد لا ندرك مقاصدها بالتمام الآن ولا نعرف هل الترجمة والنقل عنها بما نفهم هو الصحيح والمطابق للسائد حينذاك، وربما هناك بعض الكيفيات التي لا ندرك ماهيتها ولا هويتها الخاصة والعامة، إلا ما أستنبطناه وأستقرئ من أدلة خاضعة أساسا للتفسير والتأويل وبالنتيجة الأختلاف في التقدير النهائي، نعتبر هذه النتائج مسلمات وحقائق نبني عليها نظريات وأفكار جازمة تؤشر لطور أو عصر من أطوار وعصور الدين، في الديانة العراقية القديمة وربما مثالها أوضح هنا لكون العربية والسومرية والأكادية والبابلية والأشورية والآرامية كلها ضمن سياق لغوي واحد في منطقة واحدة ولمجتمع وبيئة واحدة، هناك مثلا (كان الإله أنليل وإنكي وأبسو وإنانا وإيميش وشقيقه الأخر إنتين)، هذا الكم من الآلهة في الحقيقة هو مسميات لرمز واحد أعتمادا على الصفة أو العلاقة التي تربط الاسم الكلي مع الإنسان، تماما كما في رب الراقصات ورب الشويهة.
يقول الباحث عضيد جواد الخميسي في مقالته المنشورة على موقع الحوار المتمدن والمعنونة (آلهة ورموز بلاد الرافدين في الأساطير القديمة) ( الجزء الأول ) مؤكدا ما نذهب له دائما، من أن الأختلافات اللغوية والدلالات القصدية يمكن أن تؤدي إلى أختلافات كبيرة جدا لا يمكن تجسيرها بين ما هو حقيقة وبينما هو تقدير أو تقرير وربما تفسير قاصر في غالب الأحيان، فقد أورد في مقدمة المقالة ما نصه (ثقافة بلاد الرافدين تختلف من منطقة لأخرى، ومن دولة مدينة إلى دولة مدينة أخرى، وعليه فإن الإله مردوخ مثلاً لا ينبغي أن يُعتبر ملك الآلهة مثل الإله زيوس في اليونان، في حين كان الإله مردوخ يُقَدّس كثيراً في بابل، ومثله الإله إنليل في سومر)، ويعلل الباحث هذا الأمر إلى قضية لم يطرحها بشكل مباشر ولكنه أشار لها سريعا وبدون تركيز حينما ذكر (كما نشير إلى أن الكلمة الإنكليزية " ديمن Demon والتي تعني "العفريت " تُفهم على أنها روح شريرة، فهي مشتقة من الكلمة اليونانية "دايمون Daimon" التي تعني "الروح"، وأن العديد من المسميّات الإلهية في بلاد الرافدين المصنّفة على أنها "عفاريت" هي ليست بالضرورة شرّيرة أو عدائية)، هذه الملاحظة العابرة عند الباحث أشارت إلى التشويه والتحريف وربما تغيير الحقيقة من وجهها الثابت إلى أوجه أحتمالات وظن هي التي بدلت وغيرت مفهوم الآلهة والدين والمسميات القديمة، لأنها ترجمت وفهمت ونقلت إلى لغة أخرى لاحقة لا تربطها باللغة الأصلية ولا بالبيئة المحلية ومفاهيمها من رابط أو علاقة معرفية أو دلاليه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دعوات في بريطانيا لبناء دفاع جوي يصُدُّ الصواريخ والمسيَّرات


.. جندي إسرائيلي يحطم كاميرا مراقبة خلال اقتحامه قلقيلية




.. ما تداعيات توسيع الاحتلال الإسرائيلي عملياته وسط قطاع غزة؟


.. ستعود غزة أفضل مما كانت-.. رسالة فلسطيني من وسط الدمار-




.. نجاة رجلين بأعجوبة من حادثة سقوط شجرة في فرجينيا