الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدين بين طورين ح 2

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2022 / 11 / 26
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


نعود لمفاهيم الديانات القديمة وتحديدا العراقية لكونها وبرأي هي السلف التاريخي والفكري والمعرفي لكل الديانات الإبراهيمية المعروفة اليوم، هذا ليس أفتراضا بل من وقائع التاريخ المنطقي والتفكير الأجتماعي البشري، قلا يمكن لشعب أن يغير تفكيره الديني بالأتجاه المناقض أو المخالف بسهولة ما لم يحمل معه إرثه باللاوعي وباللا مباشر، حيث تتسلل تلك العقائد والمفاهيم إلى المعتقد الجديد حتى دون شعور بذلك، فالعقائد الدينية تخزن مع كل الذكريات والتجارب التي يمر بها الإنسان في الذاكرة العميقة والبعيدة، من هناك تتحكم ومن هناك نتلمس وجودها دون أن نشعر كيف فعلت ذلك ولم تتغلب عليها العقائد الجديدة، فالإنسان لا يغادر إيمانه بقرار خاصة إذا كان قهريا أو جبريا ولا يمكن له ولو أرد أن يعيد مصفوفاته الذهنية في الذاكرة ولكنه يحاول أن يتأقلم ولو خارجيا لمسايرة واقه أو ضرورات تفرض عليه، لكن باطنه البعيد يبقى وفيا لإيمانه الأول، هذا ليس في العقيدة فقط بل في كل المشاعر الإنسانية والأحاسيس البشرية، لذا قيل وما الحب إلا للحبيب الأول.
فالعقائد والأديان العراقية القديمة بشكلها القريب كما سنرى لمفاهيم الأديان الإبراهيمية لولا التزييف والتحريف الذي مورس ضدها أثناء القراءة والنقل والترجمة، حتى يظن الكثيرون أن العراقيون القدماء بدياناتهم هم عبدة ألهة مهووسين بالتعدد، يعبدون إلها يعبده ملك وحين يتغير هذا الملك يعبدون أخر ويشكلون أديانهم وفقا لإيمان الملك الفرد، عكس النظرية العامة في العقائد التي تنص على أن القادة والملوك دائما ما يتبعون أديان شعوبهم وتشجيعها لأن مصدر قوة لهم، كما أن قوة الملك لا تأت من عوامل خارجية عادة ما لم تنبثق من دعم وإيمان ورضا أفراد الشعب به، خاصة في التعامل مع موضوع حساس وذو قدرة على أستنهاض روح التمرد والعصيان، فالديانات التي تفرض بالقوة سرعان ما يلحقها التحريف وتتداخل فيها عقائد أخرى في محاولة التوفيق بين القديم الراسخ والجديد المفترض بالقوة.
الرأي الراجح عندي أن الديانة العراقية مع تطورها وتعدد المسميات تشترك بالخصائص التالية التي تؤكد وحدتها الأصلية ونسقيتها الثابتة:
• أولا نظام ترتيب الآلهة كما يزعم المؤرخون وعلماء الأديان والأثار، فهناك دوما مجمع ألهة وهناك رئيس ألهة وهناك الآلهة الأكبر الذي يسيطر على الجميع وهو رمز مشترك في كل الأعتقادات العراقية القديمة، فقد كان الإله أنو ANU مثلا وهو أبو الإله أنليل رب السموات والأرض القوة الكبرى والعظمى التي لم يسبقه أحد لحكم العالم، ومنه تفرعت سلسلة الآلهة من بعده وهو في تاريخنا وأدبنا الديني الإبراهيمي ومنه الدين الموسوي فقد ورد في نصوصهم " "كُفُّوا وَاعْلَمُوا أَنِّي أَنَا اللهُ. أَتَعَالَى بَيْنَ الأُمَمِ، أَتَعَالَى فِي الأَرْضِ." (مز 46: 10)، وتماما بنفي الشكل اللغوي والدلالة والنطق ورد في نصوص الدين الإسلامي تحديدا، قد ورد بنفس المسمى والصفة والماهية (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) ﴿٢ النحل﴾، فالإله أنا أو أنو هو بالحقيقة رب السماء والأرض ورب كل شيء، فعندما يتم التحدث باسمه أو نقلا عنه لا يعني أنه إله منفصل أو ذا وظيفة جزئية، ولكن الكلام والصفة التي ترد فيه أو الاسم الوارد يعبر عن جزء من كل من وظائف الله العديدة والمتنوعة.
• إن ورود أسماء على أنها ألهة أو أبناء ألهة أو ربما منهم الذكور ومنهم الإناث إنما بنيت بناء على تخصصاتهم الجزئية أو وظائفهم الموكلين فيها، الخلط والتشويه والتحريف جرى نتيجة الخلط بين المعنى وبين الدلالة وفقا للغلة الأصلية مقارنة بالفهم الجديد والغريب لهذه الدلالات والمسميات، فمثلا يرد عند المؤرخين أن ملك العواصف البابلي الإله أدد ADAD والذي هو نفسه الإله أمورّو AMURRU - ذلك الاسم الأكدي والسومري لإله العواصف /السماء ، الذي يخص القبائل الأمورّية، هو بالحقيقة الملك الموكل بالريح والعواصف عند الأديان الإبراهيمية والمسمى "إسراف إيل" أو إصراف إيل"، وهو الملاك المتوكل كما في الأدبيات الدينية بتصريف الرياح والسحاب، هذا التشابه في الأسماء والوظائف ربما يؤكد بشكل جازم أن ما ورد في الترجمات والنقل عن الأديان واللغة العراقية القديمة لم يكن سوى خلط غير مفهوم لأشياء وكائنات ومسميات واحدة تثبت أن الدين في طوره الأول والثاني هو دين واحد، وما يعزز هذه الفرضية أن الكثير من المسميات التي تخص ما يعرف بآلهة الواجبات مثل "جبرا إيل" أو أنزو ANZU الذي كان مكلفاً بحراسة ألواح القدر التي شرّعت قوانين الإله الأعلى الى البشر، و " عزرا إيل" وهي الإلهة بيليت ـ تسيري BELIT-TSERI - الكاتبة البابلية في العالم السفلي، وتظهر راكعة في عرش "اريشكيگال" من خلال اللوحات والمنحوتات . تسجل أسماء الموتى وهم يدخلون عالم الظلام، و "الروح التي وردت في الكتابات الدينية القديمة بعنوان باسمو BASMU - الثعبان الأكبر في بلاد الرافدين، وله علاقة متبادلة مع الولادة وإلهة الولادة، أو مع "ننگيشزيدا"، إله العالم السفلي وعند اقترانه بالولادة، يتم تمثيل باسمو كرمز مشترك مع ننگيشزيدا، وهما متشابكان حول عصا، الذي يمثل شعار مهنة الطب، وقد ورد هذا التمثيل أيضا في قصة مريم في القرآن الكريم عندما تمثل لها بشرا سويا (فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) ﴿١٧ مريم﴾ .
• كانت الوظيفة الأولى للدين في طوره القديم ما قبل الديانات المدونة وأبرزها الإبراهيمية هي إرساء القواعد الأساسية للتعايش البشري على الأرض، والتي وردت في النصوص القديمة باسم " أريدو" أو "أرضو"، فليس في الحقيقية هناك مدينة أسمها أريدو وحتى الآثاريين وعلماء الأركولوجيا لم يعثروا لشكل متقن على أن أريدو مكان محدد بالرغم من ورود المسمى كثيرا وخاصة في الكتابات الدينية القديمة، هذا يؤشر إلى حقيقة مهمة ومغيبة عن الجلاء وهي أن الأرض التي إنزل إليها "أدم أو أدابا" هي أرضو أي الأرض التي وعد الله سابقا أن تكون مستقرا ومقاما (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) ﴿٣٠ البقرة﴾، فعندما نجد كثرة الشرائع والقوانين المدونة في عهود عراقية ساحقة بالقدم في أرض الرافدين وحدها تدل على أن تلك القوانين هي الجزء المهم والغالب من مضمون الدين وشكليته، خاصة وأن الإشارات التي رافقت هذه القوانين منحوت عليها كما في مسلة حمورابي أن أستلمت من رسول إلى الملك أو النبي الذي كان واجبه تطبيقها، خاصة وأنها كانت تحظى بالتقديس والتعظيم مما يدل على صبغتها الدينية الخالصة.
• هناك الكثير من القصص الديني الثابت بشخصياته وأحداثه الدينية في النصوص المعروفة بالرسالات أو الكتب المقدسة، هي نفسها موجودة في الأدب الديني العراقي القديم من قبيل قصة الطوفان وقصة الملكين بتابل هاروت وماروت، وقصة يأجوج ومأجوج التي تطابق تماما تفاصيل قصة لعنة أكد التي سأنقلها بالتمام كما هي، الفكرة واحدة لكن التاريخ الزمني للحدث والتوقيت هو الغائب هنا، هذا يدلل أيضا على أن جذور الدين الإبراهيمي بكل تنوعاته نجده حاضرا في الديانة العراقية القديمة، فمثلا قصة يأجوج ومأجوج التي وردت في القرآن (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) ﴿٩٤ الكهف﴾، (حَتَّىٰ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ) ﴿٩٦ الأنبياء﴾، وبالرغم من أن العلماء التاريخيون ورجال الدين مثلا ينكرون أن قصة يأجوج ومأجوج حدثت، لكن النص العراقي القديم يثبت حصولها بشكلها الوارد في الأدب الديني الإبراهيمي وتحديدا في مدينة أمد في عصر الملم نارام سين والذي هو قريب تأريخيا على عهد الإسكندر، ومما يعزز أنه لا يوجد حدث تاريخي ثابت يؤكد خراب أكد وأساب ذلك الخراب غير اللعنة التي تضمنتها الرواية الدينية العراقية القديمة (رفع الإله السومري العظيم "إنليل" رعايته عن مدينة أكد، وبسبب ذلك، فقد مُنعت الآلهة الأخرى من دخول المدينة ومباركتها)، هذا الأمر دفع الملك إلى (ذا فهو أخذ يصلّي ويسأل عن البشائر والتنبؤات، ومن ثمّ يقع في اكتئاب مدته سبع سنوات وهو ينتظر إجابة شافية من إلهه، أخيراً سئم الانتظار)، فما كان منه إلا أن يفعل المحذور الديني ويهاجم الآلهة في عقر تعبدها (أعدّ جيشاً سار به إلى معبد إنليل في "إيگور" عند مدينة نيپور كي يدمرّه)، كان رد فعل الآلهة هو تدمير أكد وملكها على الجرأة والوقاحة التي عوملت بها مقدسات السماء في الأرض (أثار غضب ليس فقط الإله إنليل، بل الآلهة الأخرى أيضاً الذين بدورهم قد بعثوا "الگوتيوم Gutium " "وهم أقوام لا يعرفون الخوف، يمتلكون غرائز بشرية ولديهم ذكاء الكلاب وخصائص القرود"، لغزو مدينة أكد وجعلها أطلال)، هذه هي القصة الكاملة لسقوط أكد على يد يأجوج ومأجوج " الگوتيوم".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ينهي الرد المنسوب لإسرائيل في إيران خطر المواجهة الشاملة؟


.. ما الرسائل التي أرادت إسرائيل توجيهها من خلال هجومها على إير




.. بين -الصبر الإستراتيجي- و-الردع المباشر-.. هل ترد إيران على


.. دائرة التصعيد تتسع.. ضربة إسرائيلية داخل إيران -رداً على الر




.. مراسل الجزيرة: الشرطة الفرنسية تفرض طوقا أمنيا في محيط القنص