الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية للفتيان البجعة

طلال حسن عبد الرحمن

2022 / 11 / 27
الادب والفن


رواية للفتيان






البجعة






طلال حسن






" 1 "
ـــــــــــــــــــ

خرج ساشي من الكوخ ، بعد شروق الشمس ، قاصداً البحيرة ، التي تقع وراء الغابة ، ملبياً نداء ، لا يدري من أين يأتيه ، أهو من مجاهل أعماقه ؟ أم من حلم لا يكاد يفارقه أم من مكان ما من البحيرة ؟
ولم يلتفت إلى أمه العجوز ، التي لحقت به ، ووقفت عند الباب ، وهتفت : ساشي ، عزيزي ، لا تتأخر ، لن أتناول طعام الغداء حتى تعود .
وأشارت لكلبه أن يتبعه ، فتبعه الكلب مسرعاً ، دون أن ينبح ، أو يصدر عنه أي صوت . وكما أن ساشي لا يلتفت إلى ظله ، حين يمشي في أي مكان من القرية أو الغابة ، فإنه لم يلتفت إلى كلبه ، الذي قلما يفارقه ، في الليل أو في النهار .
وراحت الأم العجوز تتابع ساشي بعينيها الكليلتين ، وهو يسير مبتعداً ، وكلبه يهرول وراءه ، ودخلت الكوخ ، دون أن تغلق الباب ، رغم أن الريح كانت محملة ببرودة الخريف ، آه من ساشي ، وهزت رأسها مبتسمة ، إنه كأبيه الراحل ، لا يكاد يستقر في مكان ، وكأن الأبعاد تناديه دائماً : ساشي .. تعال .. تعال .
وتوغل ساشي في أعماق الغابة ، سائراً كالمسحور ، وكأنه لا يرى ما حوله ، وكلبه يسير وراءه إلى جانب ظله . وتوقف في فسحة بين الأشجار ، حين سمع رفرفة أجنحة ثقيلة ، ورفع رأسه إلى الأعلى ، متمنياً أن يرى البجعة ، التي طالما رآها في أحلامه ، لكن بدل بجعة الحلم البيضاء ، رأى زوجاً من اللقالق ، يطيران متجاورين ، متجهين إلى البحيرة القريبة .
واستأنف ساشي سيره بخطى ثابتة ، متجهاً هو الآخر إلى البحيرة ، لعله يرى بجعة الحلم ، تسبح في المياه الصافية ، رغم أن الخريف ، بدأ يفقدها بعض دفئها ورونقها . وعند طرف الغابة ، القريب من البحيرة ، أفاق على الحطاب العجوز يناديه بصوته الشائخ : هي .. ساشي .
وتوقف ساشي ، والتفت إلى الحطاب العجوز ، وقال : طاب صباحك ، يا سيدي .
وردّ الحطاب العجوز قائلاً، وهو يتكىء على فأسه : أهلاً بنيّ ، توقف قليلاً .
وتوقف ساشي ، وقال : إنني ذاهب إلى البحيرة ، لكن أبقى معك بعض الوقت .
فابتسم الحطاب العجوز ، وهو يمسح العرق عن جبينه المتغضن ، وقال : أكون ممتناً لك .
واقترب ساشي منه ، يتبعه كلبه ، وقال : أنت متعب ، يا سيدي ، أعطني الفأس ، ودعني أساعدك .
وهزّ الحطاب العجوز رأسه ، وقال : لا يا بنيّ ، إنني لا أحتاج إلى هذا النوع من المساعدة .
وصمت لحظة ، متطلعاً إلى ساشي ، ثم قال : إنني كما تعرف ، أعيش وحيداً في كوخي ، بعد أن ماتت زوجتي ، وتزوجت ابنتي ، ورحلت بعيداً مع زوجها .
ابتسم ساشي ، وقال : هذه مشكلة حقاً ، لكن هناك حلاً لها .
ونظر الحطاب العجوز إليه متسائلاً ، فقال ساشي :تزوج ، يا سيدي ، ما زلت شاباً .
وابتسم الجد بدوره ، وقال : هذا محال ، فبعد زوجتي ، التي عاشت معي حوالي خمسين عاماً ، لن أتزوج من أي امرأة ، حتى لو لم أكن في هذا العمر .
وضحك ساشي ، وقال : أعرف هذا ، كما يعرفه جميع من في القرية ، أنت إنسان وفي .
وصمت لحظة ، ثم قال : أريد ، يا سيدي ، أن أساعدك بما أستطيعه .
وربت الحطاب العجوز على كتفه ، وقال : أشكرك ، يا ساشي ، لقد ساعدتني .
ونظر إليه ساشي متسائلاً ، فقال الحطاب العجوز : وقفت قربي ، وحييتني ، وتحدثت إليّ ، هذه أجمل مساعدة يقدمها لي شاب مثلك .
وصمت الحطاب العجوز ، منصتاً إلى رفرفة أجنحة ، في أعالي السماء ، ورفع مون رأسه ، وقد أشرقت عيناه بفرح غامر ، وقال بصوت حالم : آه .. بجع .
ونظر الحطاب العجوز إلى البجع ، الذي يحلق على شكل الرقم سبعة ، تقوده بجعة حكيمة مجربة ، وقال : آه ، ها هو البجع يهاجر بعيداً ، يبدو أن الشتاء سيأتي مبكراً هذا العام .
وتابع ساشي سرب البجع ، وهو يحلق عالياً ، في سماء بدأت الغيوم تغزوها ، وقال : آه ليتني أهاجر أنا الآخر ، حيث يهاجر سرب البجع هذا .
وضحك الحطاب العجوز ، وقال : هذا صعب للغاية ، يا بنيّ مون ، فالبجع يهاجر كلّ عام ، في مثل هذا الوقت ، إلى بحيرة البجع ، التي تقع وراء الجبال البعيدة ، حيث تشرق الشمس .
ونظر ساشي إلى الحطاب العجوز ، وقال : أيها الحطاب ، أنت عشت عمراً مديداً ، وكنت طبعاً شاباً في يوم من الأيام ، ألم تنادك يوماً بجعة من البجع ؟
وابتسم الحطاب العجوز ، وقد التمعت عيناه : كنت في شبابي أحلم ببجعة تأخذني إلى البعيد ، لكن بجعة من قريتني نادتني ، فلبيت نداءها ، وعشت إلى جانبها سعيداً العمر كله .
لاذ مون بالصمت لحظة ، ثم نظر إلى الحطاب العجوز ، وقال : أنا تناديني بجعة في الحلم ، ويأتيني صوتها الساحر من بعيد ، ويبدو أنها تناديني من بحيرة البجع ، التي تقع ، كما قلت ، وراء الجبال البعيدة ، حيث تشرق الشمس .
وشدّ الحطاب العجوز يده على مقبض فأسه ، مستعداً لمواصلة عمله ، وهو يقول : إياك ، يا ساشي ، أن تصغي إلى بجعة ، تناديك في الحلم ، فطالما ضاع فتيان كالورود في متاهات أحلامهم ، ولم يعودوا إلى بيوتهم وأحبائهم أبداً .














" 2 "
ــــــــــــــــــــ

عاد ساشي من الغابة ، دون أن يعرج على البحيرة ، كما كان قد قرر ، حين غادر الكوخ ، ولماذا يعرج عليها ، مادام البجع قد مضى محلقاً في أعالي السماء ، عبر الجبال البعيدة إلى بحيرة البجع ، التي تقع عند مشرق الشمس ؟
وبدل أن يدخل الكوخ ، حيث كانت أمه العجوز تنتظره ، بعد أن أعدت له طعام الغداء ، جلس على المصطبة الخشبية ، التي صنعها أبوه ، قبل رحيله بسنوات طويلة ، ووضعها تحت شجرة الجوز ، وعلى مبعدة منه ، أقعى كلبه ، الذي لم يفارقه لحظة واحدة ، وهو يتطلع إليه بعينيه الصغيرتين اللامعتين .
وعلى الفور ، خرجت أمه العجوز من الكوخ ، وقد اشتمت رائحته ، التي تقول إنها رائحة أزهار الغابة ، واقتربت منه ، وقالت : بنيّ ساشي .
لم يتحرك سلشي ، فمالت أمه العجوز عليه ، وقالت : تأخرت كثيراً في الغابة .
ونظر الكلب إلى ساشي ، كأنه يحثه على الإجابة ، لكن ساشي ظل صامتاً ، فقالت الأم العجوز : بنيّ ، لقد برد طعام الغداء .
واعتدلت الأم العجوز حائرة ، فالتفت ساشي إليها ، وحدق فيها بعينيه اللامعتين ، اللتين ذكرتاها بعيني أبيه ، عندما قرر ذات يوم أن يتركها ، ويذهب إلى وادي الذئاب ، وقال : أمي .
وربما شعرت الأم العجوز بخطورة ما سيقوله لها ، فتراجعت قليلاً ، وقالت : بنيّ ، تعال إلى الداخل ، وتغدّ ، لابد أنك متعب وجوعان الآن .
وأدرك سلشي ، أن أمه العجوز التي حنكتها الأيام ، تريد أن تتهرب من تساؤله ، وكأنها تعرف ماذا سيقول ، رغم أنه لم يفصح لها يوماً عن دخيلته ، فتساءل قائلاً : هل تعرفين بحيرة البجع ؟
لاذت الأم العجوز بالصمت لحظة ، ثم قالت : بنيّ ، إنني جائعة ، ولابد أن آكل ، لقد تأخرت كثيراً عن موعد تناول طعام الغداء .
وقاطعها ساشي قائلاً : أمي .
واستدارت الأم العجوز ، ومضت نحو الكوخ ، وهي تقول : أنت شاب ، ويمكنك أن تتحمل الجوع ، أما أنا فامرأة عجوز ..
نهض ساشي ، ولحق بأمه العجوز عند الباب ، والكلب يهرول في أثره ، وقال : أنت تعرفينها ، يا أمي ، تعرفين بحيرة البجع .
اندفعت الأم العجوز إلى الداخل ، دون أن تلتفت إليه ، وقالت : هذه حكايات مجانين .
وتبعها ساشي إلى الداخل ، وتوقف الكلب ، ودار حول نفسه حائراً ، لكنه لم يتجاوز عتبة الباب ، وقال ساشي : حدثني عنها الحطاب العجوز .
فقالت الأم العجوز منفعلة : الحطاب العجوز ، إنه خرف مجنون ..
قاطعها ساشي محتجاً : أمي .
لكنها واصلت كلامها قائلة : لقد جنّ هذا العجوز ، منذ أن فقد زوجته ، إن المرء يصيبه الجنون ، يا بنيّ ، حين يعيش وحيداً ..
وصمتت لحظة ، ثم أضافت بصوت دامع : وأنا لا أريد أن أعيش وحيدة ، يا بنيّ .
توقف ساشي ، ثم تراجع صامتاً ، وقد بدا عليه التأثر ، وجلس على الفراش ، وقال : الوقت تجاوز منتصف النهار بكثير ، فلنأكل بعض الطعام .
لم تند عن الأم العجوز أية حركة ، فنظر إليها مشفقاً ، وهز رأسه ، وقال بنبرة هادئة مصالحة : آه يا أمي ، أشمّ رائحة سمك .
فمدت الأم العجوز يديها إلى صحاف الطعام ، وقالت : بصوت تبلله الدموع ، إنه السمك ، الذي اصطدته يوم أمس من البحيرة .
ووضعت الأم العجوز صحاف السمك أمامه ، ووقفت دون حراك ، ونظر ساشي إليها ، ، وقال : هيا يا أمي ، لنأكل معاً .
وتنهدت الأم العجوز ، وردت قائلة : كل أنت ، سآكل أنا فيما بعد .
فاعتدل مون ، وقال : اجلسي ، يا أمي ، وكلي ، لن آكل إذا لم تأكلي معي .
وظلت الأم العجوز واقفة ، ثم جلست قبالته ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة . وبعد أن انتهيا من تناول الطعام ، نهض ساشي ، وقال : إنني متعب ، سأنام قليلاً .
وتمدد ساشي في فراشه ، وأدار وجهه إلى الحائط ، وأغمض عينيه ، لكنه لم ينم .
ونهضت الأم العجوز ، ونظفت الصحاف ، وأعادتها إلى أماكنها ، وبدل أن تتمدد في فراشها هي الأخرى ، فتحت الباب بهدوء ، ومضت إلى الخارج ، وجلست على المصطبة ، تحت شجرة الجوز .
وجلس الكلب على مقربة منها ، وعيناه الضيقتان المتلامعتان تطفحان بالحيرة والتساؤل ، وانتبهت الأم إلى الكلب يرفع رأسه ، ويلتفت ، فنظرت حيث كان ينظر ، فرأت رانمارو بعينيه السوداوين اللامعتان تسير وجرتها فوق كتفها ، لابد أنها ذاهبة إلى البئر ، آه في يوم بعيد ، كانت هي أيضاً بجعة شابة ، وكانت تحمل جرتها ، وتذهب لتملأها من البئر ، حتى لو لم يكونوا بحاجة ملحة إلى الماء ، فقد كانت عينا صائد الذئاب تترصدانها .. آه يا صائد الذئاب .



















" 3 "
ـــــــــــــــــــــ

نادت ابنتها من المطبخ : رانمارو .
أنصتت الأم ، لم تسمع رداً ، ظنت أن رانمارو لم تسمعها ، لكن رانمارو سمعتها ، وظلت تتقلب قلقة ، منزعجة ، على فراشها .
اقتربت الأم من باب المطبخ ، ورأت زوجها في الفناء ، يتأمل مبتسماً شجيرات الورد ، فتطلعت إلى غرفة ابنتها ، ونادت بصوت أعلى : رانمارو .
اعتدلت رانمارو ، إنها تعرف ما وراء هذا النداء ، لكن هيهات ، وزمت شفتيها بغضب ، الأحمق ساشي ، بدل أن يأتي ، ويقابل أمها وأباها ، يركض على شاطىء البحيرة ، وراء البجع .
ولكي تقطع الطريق على أمها ، وتتجنب الحديث الذي لا تريد أن تسمعه ، نهضت من فراشها ، وخرجت من الغرفة ، وتناولت الجرة ، دون أن تلتفت إلى أبيها ، وصاحت من الفناء : أمي ، سأذهب إلى البئر ، وأملأ الجرة ماء .
لم تفلت رانمارو ، فقد أسرعت أمها إليها ، وأمسكتها عند الباب ، وقالت : دعي الجرة الآن ، لدينا ماء يكفينا حتى الغد .
وحاولت رانمارو أن تعترض ، فأخذت أمها الجرة منها ، وأعادتها إلى مكانها ، وقادتها برفق إلى المطبخ ، وهي تقول : أبوك لم يفطر بعد ، تعالي ساعديني في إعداد طعام الفطور .
وانقادت رانمارو لأمها ، ودخلت معها المطبخ ، ونظرت إليها أمها مبتسمة ، وقالت : عندما كنت في عمرك ، يا رانمارو ، رزقتُ بطفلي الأول .
وردت رانمارو ، دون أن تنظر إلى أمها : هذا صار من الماضي ، الزمن يتغير ، يا ماما .
والتفتت إليها أمها ، وقالت : الزواج الجيد فرصة ، يا حبيبتي ، قد لا تتكرر في العمر مرتين .
ولاذت رانمارو بالصمت ، فتابعت الأم قائلة : لو كان ساشي جاداً ، لربما كان زوجاً لا بأس به .
قالت رانمارو : ماما ، إنني أحبه .
ردت الأم قائلة : هذا لأنك حمقاء .
ولاذت رانمارو بالصمت ، فقالت الأم : لا تقولي هذا أمام أبيك ، وإلا قتلك .
وتناهى وقع أقدام من الفناء ، فتطلعت الأم عبر النافذة ، ثم قالت : أقبل أبوك ، سيتناول فطوره .
والتفتت إلى ابنتها ، وقالت : بنيتي .
والتفتت رانمارو إليها ، فقالت الأم : اذهبي ، وخذي الجرة ، واملئيها من البئر .
وردت رانمارو قائلة : لكنك قلتِ ..
وقاطعتها أمها ، وهي تمسح يديها : اذهبي إلى البئر ، واملئي الجرة .
وخرجت رانمارو من المطبخ ، لتأخذ الجرة ، وتملأها من البئر ، ورآها أبوها في الفناء ، فقال متسائلاً : رانمارو ، هل الفطور جاهز ؟
وردت رانمارو قائلة ، دون أن تتوقف : نعم ، ماما تنتظرك في المطبخ .
ودخل الأب المطبخ مبتسماً ، بينما حملت رانمارو الجرة ، وخرجت بها من البيت ، متجهة عبر أزقة القرية إلى البئر لتملأها ماء .
وتوقفت رانمارو ، والجرة في يدها ، لابد أن لدى أبيها أخباراً سارة لأمها ، وعليها أن تعرفها ، لكن أمها صرفتها عامدة ، وقالت لها ، أن تذهب إلى البئر ، وتملأ الجرة ، هذه ليست معضلة ، ما فائدة القوى السحرية ، التي ورثتها من جدتها إذن ؟
ونظرت شو إلى الجرة ، وهمست لها قائلة : أيتها الجرة ، امتلئي .
وعلى الفور ، طفحت الجرة بالماء ، فوضعتها شو على كتفها ، وقفلت عائدة إلى البيت .
وعلى عجل ، دفعت رانمارو الباب ، ودخلت إلى البيت ، حاملة الجرة المليئة بالماء . ورأتها أمها من نافذة المطبخ ، فتوقف عن الكلام مع زوجها ، وهتفت بها : قلتُ لك ، املئي الجرة من البئر .
فأرتها رانمارو الجرة الطافحة بالماء ، وقالت : وهذا ما فعلته ، انظري .
وسكبت بعض الماء من الجرة ، لتريه لأمها ، فصاحت الأم : كفى ، لا تسكبي الماء .
وخرج الأبوان من المطبخ ، واقترب الأب من رانمارو ، مبتسماً ، وقال : مبروك ، يا ابنتي .
وابتسمت الأم ، وقالت : سيأتيان غداً ، الشاب الغني وأمه ، ويخطبانك .
أسرعت رانمارو إلى غرفتها ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة ، فضحك الأب ، ونظر إلى الأم ، وقال : هذا خجل العذارى الصغيرات .
لكن الأم نظرت إليه ، دون أن تبتسم ، أو تتفوه بكلمة واحدة . ثم التفتت إلى ابنتها رانمارو ، التي دخلت غرفتها ، وصفقت الباب بقوة .
وألقت رانمارو نفسها على فراشها ، وضربت مخدتها بشدة بجمع يدها ، آه من هذا الأحمق ساشي ، وجمدت لحظة ، لا فائدة من هذا الكلام ، سيأتي هذا الشاب الغني غداً ، ومعه أمه اللعينة ، و .. لابد أن تفعل شيئاً ، وإلا طار عاشق البجع من بين يديها .


















" 4 "
ــــــــــــــــــــ

لم يغادر ساشي فراشه .
والأم العجوز ، لم تغادر المصطبة ، التي تحت شجرة الجوز .
والكلب يجثو على مقربة منها ، متطلعاً إليها بعينيه الضيقتين اللامعتين ، كأنه يريد أن يعرف ، دون جدوى ، ما الذي يجري .
ورانمارو نفسها ، بقيت في فراشها ، متحفزة منزعجة ، وقد أغلقت أذنيها ، عما يتحدث به والداها ، وهما يجلسان ، في الفناء ، بين شجيرات الورد .
ومن بعيد ، لاح الحطاب العجوز ، حاملاً فأسه ووحدته ، يسير متثاقلاً ، متجهاً بتثاقل نحو الغابة ، ليحتطب حطباً ليس بحاجة إليه .
ونهضت الأم العجوز من على المصطبة ، ورياح الخريف المثقلة بالرطوبة والبرد ، تداعب أغصان شجرة الجوز ، ومعها نهض الكلب ، ومضت إلى الكوخ ، وسار الكلب وراءها ، لكنها حين اجتازت عتبة الباب إلى الداخل ، توقف الكلب بعينيه الضيقتين اللامعتين ، وراح يدور قلقاً ، إنه يعرف حدوده ، ولا يريد أن يتجاوزها ، وحدوده باب الكوخ ، لكنه يريد أن يعرف ، ما الذي يجري ، لعله يهدأ قليلاً .
ودخلت الأم العجوز غرفة ساشي ، ونظرت إليه ، إنه مستيقظ ، هذا ما تعرفه جيداً ، رغم أنه منطرح في فراشه ، ووجهه إلى الحائط .
اقتربت منه ، وتوقفت لحظة ، ثم مالت عليه ، ونادته بصوت هامس : ساشي .
لم يردّ ساشي ، ولم تند عنه حركة واحدة ، فهمست الأم العجوز ثانية : ساشي .. ساشي .
وثانية لم يردّ ساشي ، ولم يتحرك ، فتابعت الأم العجوز قائلة : سألتني عن بحيرة البجع ..
وندت عن ساشي حركة لا إرادية ، لكنه لم يلتفت بوجهه إليها ، فقالت : إنني أعرفها ..
لم يردّ ساشي ، ولم يلتفت ، فقالت الأم العجوز : حدثتني عنها جدتي ، وقالت إنها تقع عند مشرق الشمس ، وراء الجبال البعيدة .
واستدار ساشي ، متطلعاً إليها ، دون أن يتفوه بكلمة ، فقالت الأم العجوز : كان زوجها شاعراً ، نادته بجعة ربما في الحلم ، فتبعها عبر الجبال البعيدة ، قاصداً بحيرة البجع ، لكنه لم يعد ، ويقال أنه وصلت منه قصيدة شعرية عنوانها .. بحيرة البجع .
واعتدلت الأم العجوز ، وهي تقول : أنتم الرجال ، تصابون في مرحلة ما من أعماركم بلوثة ، قد تكون أحياناً خطرة للغاية ، إذا لم تعالجها امرأة في اللحظة الأخيرة .
لاذ ساشي بالصمت ، ونهضت الأم العجوز ، وغادرت الكوخ ، وعادت إلى مكانها الظليل ، على المصطبة تحت شجرة الجوز ، وعاد الكلب ، وجلس على مبعدة منها ، وعيناه الضيقتان مازالتا تلتمعان بالأسئلة .
انحدر قرص الشمس الملتهب ، رغم برودة أول الخريف ، وكاد يغرق وراء الأفق ، حين تناهى إلى الأم العجوز ، وقع أقدام ساشي ، خارجاً من الكوخ ، وأنصتت متوجسة صامتة ، وهو يسير مقترباً منها ، ثم أحست به يجلس إلى جانبها على المصطبة تحت شجرة الجوز .
ومن غير أن تلتفت إليه ، قالت : أبوك نفسه ، أصيب بلوثة ، قبل زواجه مني .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : لم يفكر في الذهاب إلى بحيرة البجع ، فقد كانت لوثته من نوع آخر ، كان مولعاً بقتل الذئاب ، وأراد أن يذهب إلى وادي الذئاب ، ولو ذهب إلى ذلك الوادي لما عاد أبداً .
وصمتت الأم العجوز ، فالتفت ساشي إليها ، وقال : ليس فيّ ، على ما يبدو ، شيء من أبي ، بل شيء من جدي .. الشاعر .
لاذت الأم العجوز بالصمت ، ثم نهضت ، ومضت نحو الكوخ ، وهي تقول : لقد غابت الشمس ، لابد أن أشعل القنديل ، وأعد طعام العشاء .
لم يلحقها الكلب ، وإن تابعها بعينيه الضيقتين اللامعتين ، حتى دخلت الكوخ ، ثم التفت إلى ساشي ، محدقاً فيه ، دون أن يندّ عنه أي صوت .
غربت الشمس ، وتغامزت في السماء أولى النجوم ، لكن ساشي ظلّ جالساّ في مكانه على المصطبة ، تحت شجرة الجوز ، وعيناه مشدودتان إلى الجبال البعيدة .
وتحركت رانمارو في فراشها ، وتطلعت عبر النافذة إلى السماء ، النجوم تتلامع ، ويزداد تلامعها مع اشتداد الظلام ، لكن الوقت مازال مبكراً ، فالقمر لم يطلع بعد من وراء الجبال ، ويسطع فوق القرية .
وأطلت الأم العجوز من باب الكوخ ، وهتفت بابنها : ساشي ، تعال ، الطعام جاهز .
ومن بعيد ، لاح الحطاب عائداً من الغابة ، حاملاً على ظهره المتعب حزمة من الحطب ، وسار ببطء متثاقلاً ، متجهاً إلى كوخه البارد ، الواقع في الطرف الآخر من القرية .
ونهض ساشي ، ومضى نحو الكوخ ، والكلب يسير في أثره ، حتى الباب ، ودخل الكوخ ، وجلس قبالة أمه العجوز ، وراحا يتناولان طعامهما صامتين .
وأطلت الأم من النافذة ، متطلعة إلى غرفة رانمارا ، التي يلفها الظلام ، وقالت : يبدو أن رانمارو قد أطفأت القنديل ، ونامت .
ونظر زوجها إليها ، وهو متمدد في فراشه ، وقال : لم أرَ رانمارو فرحة بخطيبها .
وتمددت الأم إلى جانبه في الفراش ، وقالت : لا عليك ، ستفرح حين تراه ، وترى مقدار غناه .
















" 5 "
ـــــــــــــــــــــ

سمعت الأم العجوز ، وهي متمددة في فراشها ، وقد جفاها النوم ، نقراً خفيفاً على باب الكوخ ، فاعتدلت منصتة ، لعل ساشي ينهض ، ويرى من الطارق .
وسمعت الأم العجوز النقر الخفيف ثانية ، وثانية لم يتحرك ساشي ، فنهضت متسللة من فراشها ، وفتحت الباب بهدوء ، ووقفت مندهشة ، ثم هتفت بصوت هامس : رانمارو !
مالت رانمارو عليها ، وهمست محيية بصوت خافت : طاب مساؤك ، يا سيدتي .
وردت الأم العجوز بنفس الصوت الهامس : طاب مساؤك ، يا بنيتي رانمارو .
ولمعت في ذهنها فكرة ، فمدت يدها ، وأغلقت باب الكوخ بهدوء ، وأمسكت بيد رانمارو ، وقالت : من حسن الحظ ، أنك جئت الآن ، يا رانمارو .
دهشت رانمارو ، لكنها استسلمت للأم العجوز ، التي قادتها في ضوء القمر ، وأجلستها إلى جانبها ، على المصطبة ، تحت شجرة الجوز ، وقالت : رانمارو ، أعرف أنّ ساشي يهمك .
نظرت رانمارو إليها ، دون أن تتفوه بكلمة ، فتابعت الأم العجوز قائلة : وأعرف أنك تهمين ساشي .
ومرة أخرى ، لم تتفوه رانمارو بكلمة ، فقالت الأم العجوز : ساشي سيطير منك .
وهنا قالت رانمارو : بل أنا سأطير منه .
وقالت الأم العجوز ، وكأنها لم تسمعها : أنت صغيرة ، وربما لم تعرفي بعد ما يصاب به بعض الرجال من لوثة ، في مرحلة ما من مراحل عمرهم ..
وحدقت رانمارو فيها مندهشة ، فتابعت الأم العجوز قائلة : ساشس جُنّ ببجعة ، يا رانمارو .
هتفت رانمارو : امرأة !
فقالت الأم العجوز : لا ، بجعة بيضاء ، تأتيه في الحلم ، وتقول له تعال .. تعال .. تعال .
وهتفت رانمارو ثانية : هذه امرأة .
وتابعت الأم العجوز ، كأنها لم تسمع ما قالته رانمارو : يقول إنها تناديه من بحيرة البجع .
واتسعت عينا رانمارو ، وتمتمت مذهولة : ماذا ! بحيرة البجع !
فقالت الأم العجوز : هذه بحيرة غريبة ، تقع وراء الجبال البعيدة ، عند مشرق الشمس ، هذا إن كانت هناك فعلاً مثل هذه البحيرة .
وقالت رانمارو : وأنا سيأتيني شاب غنيّ ، ومعه أمه ، وسيخطباني غداً ، ويطير بي إلى قريته ، إن أمي مجنونة به .
فقالت الأم العجوز : أمك مجنونة ، دعك منها ، ساشي لك ، اشفيه من لوثته ، وخذيه .
اعتدلت رانمارو ، وكأنها تتهيأ لخوض معركة ، فقالت الأم العجوز : سأدخل الكوخ ، أطرقي الباب بعد قليل ، وسأدعه يخرج إليك .
ومضت الأم ، وقالت : لا تخبريه بما قلته لك .
فقالت رانمارو : لا ، كيف أخبره ؟ إنني رانمارو .
ابتسمت الأم العجوز ، ومضت إلى الكوخ ، وهي تقول : تهيئي ، أطرقي الباب ، وسترينه أمامك .
دخلت الأم إلى الكوخ ، وتمددت في فراشها ، وبعد قليل طرق الباب ، فاعتدلت الأم ، وقالت : ساشي ، انهض يا بنيّ ، الباب يطرق .
طرق الباب ثانية ، ففتح ساشي عينيه ، وهو يغالب النعاس ، فقالت الأم العجوز : الباب يُطرق ، يا ساشي ، انهض وانظر من الطارق .
نهض ساشي ، واتجه نحو الباب ، فتمددت الأم العجوز في فراشها ، وهي تقول : أغلق الباب ، يا ساشي ، إذا كان الطارق أحد أصدقائك .
وفتح ساشي الباب ، وسمعته أمه يتهامس بصوت خافت حنون ، ثم يخرج ، ويغلق الباب ، فابتسمت ، وقالت في سرها : رانمارو فتاة داهية ، وستشفيه من لوثته ، إن جدتها كانت ساحرة كبيرة .
ونهضت الأم العجوز ، وتسللت بخطوات مكتومة إلى الباب ، ووقفت تتنصت .
جلست رانمارو على المصطبة ، تحت شجرة الجوز ، وقالت لساشي : تعال يا ساشي ، تعال ، اجلس هنا إلى جانبي .
وجلس ساشي إلى جانها ، وهو يهز رأسه ، فنظرت رانمارو إلى القمر ، وقالت : أنظر ، يا ساشي .
ونظر ساشي حيث أشارت رانمارو ، ثم قال : يبدو أنك جئتِ تودعينني ، يا رانمارو .
ردت رانمارو قائلة : هذا ما تحلم به أمي .
ونظر ساشي إليها ، فتابعت رانمارو قائلة : سيأتي الشاب الغنيّ غداً ، ومعه أمه ، وسيتقدم لخطبتي ، وسيطير بي بعيداً ، يا ساشي .
احتجّ مون قائلاً : لكن ..
وصمت ساشي ، فتساءلت رانمارو : لكن .. لكن ماذا ، يا ساشي ؟
قال ساشي : لا تتزوجيه .
قالت رانمارو : إنه شاب ، وغني ..
لاذ ساشي بالصمت ، فنظرت رانمارو إليه ، وقالت : لن أتزوجه إذا أردتَ .
قال ساشي : أنتِ لي .
فقالت رانمارو : لا تسافر إذن .
قال ساشي بصوت مقهور : لابد أن أسافر .
نهضت رانمارو ، ومضت مبتعدة ، حتى تلاشت في الظلام ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة . وأقبلت أمه من الكوخ ، وقد تنصتت إلى كلّ شيء ، وجلست على المصطبة تحت شجرة الجوز ، وقالت بنبرة جازمة :ساشي ، اسمعني جيداً ، غداً مع الفجر ، سأذهب عند أختي ، وأبقى معها عدة أيام .







" 6 "
ــــــــــــــــــــ

دخلت عليها أمها الغرفة ، والشمس لم تشرق بعد ، واقتربت منها ، وهتفت بها بصوت يشي بفرحها : رانمارو ، استيقظي .
لم ترد رانمارو على أمها ، رغم أنها كانت مستيقظة تماماً ، فهزتها أمها برفق ، وقالت : انهضي ، يا عزيزتي ، سيصل خطيبك اليوم ، ومعه أمه .
وهمهمت رانمارو بكلمات مختلطة ، لا يفهم منها أي شيء ، فمضت الأم خارجة إلى الفناء ، وهي تقول : الفطور سيجهز بعد قليل ، الحقي بي .
وتوقفت الأم لحظة عند الباب ، فقد خيل إليها ، أنها سمعت رانمارو تقول : لن يصلا .

ولسبب ما ، وعلى غير العادة ، ظلّ رانمارو منطرحاً في فراشه ، رغم أن الشمس كانت تطل عليه من شباك الكوخ ، وقد خلا تفكيره ـ ويا للغرابة ـ من بحيرة البجع . وحتى كلبه ، الذي يستيقظ عادة ، قبل أي ديك من ديكة القرية ، كان مستسلماً لإغفاءة عميقة ، عند عتبة باب الكوخ .

واعتدلت رانمارو في فراشها ، وخاطبت جدتها ، التي لم ترها في حياتها مرة واحدة : جدتي ، إنني حفيدتك رانمارو ، لن يصلا ، يا جدتي ، لن يصلا .
ولم تسمع رانمارو جدتها تردّ عليها ، ونهضت من فراشها مطمئنة ، فجدتها ساحرة عريقة ، وهي تعرف بالضبط أنها سمعتها من عليائها ، وأنها توافقها على ما صممت عليه ، بل وستساعدها على تنفيذه ، مهما كلف هذا الأمر .

وفي غضون ذلك ، كان الخطيب الشاب كينشن ، يستبدل ملابسه على عجل ، وحانت منه نظرة إلى قميصه ، الذي كان يبكل أزراره ، وهتف بأمه ، التي كانت ترتدي ملابس الخروج في الغرفة المجاورة : ماما ، أين قميصي الأزرق ؟
وأطلت أمه من باب الغرفة ، وألقت عليه نظرة سريعة ، وقالت مندهشة : أوه ، هذا هو قميصك الأزرق ، يا كينشن ، أنت ترتديه .
ونظر كينشن إلى قميصه ، ولم يتوقف عند لونه ، الذي لم يكن أزرق ، فإن عليه أن يسرع ، فعربته بالباب ، يجرها حصانه الأدهم ، وسيأخذه على جناح السرعة إلى خطيبته الشابة .. رانمارو .
انطلقا بالعربة ، كينشن وأمه ، على طريق زراعيّ ، تحيطه حقول خضراء زاهية ، مترامية حتى الأفق ، ولم يلتفت الشاب إلى حصانه ، الذي لم يعد ـ كما كان ـ أدهم ، وقالت أمه ، دون أن تلتفت إليه : لا تسرع ، يا كينشن ، فالطريق إلى بيت خطيبتك رانمارو ليس طويلاً .
وخفف كينشن سرعة العربة ، لا لأن أمه قالت له ، أن لا يسرع ، بل لأنه رأى بحيرة على جانب الطريق ، لم يرها في هذا المكان من قبل ، وعاد إلى سرعته ، حتى عندما رأى أن من يقود العربة ليس حصانه ، الذي لم يعد أدهم ، بل كائن آخر ، لم ير ما يشابهه في محيط عالمه ، فقل لأمه ، دون أن يلتفت إليها : ماما ، أنظري رجاء ، وأخبريني ، من الذي يقود عربتنا ؟
ونظرت أمه ، وقالت : هذا جمل .
وتساءل كينشن : إذا كان هذا جملاً ، فأين هو حصاني الأدهم ، يا ماما ؟
وهزت الأم رأسها ، وقالت : واصل قيادتك للعربة ، ، ياكينشن ، المهم أن نصل ، سواء بعربة يجرها حصان أدهم أم جمل أم .. فيل .
ولم تكد الأم تنطق بكلماتها ، حتى كان فيل ضخم ، يجر العربة ، في طريق صحراوي قفر .

وأعدت الأم الفطور ، وجلست إلى جانب زوجها ، وقبالتهما جلسترانمارو ، وراحوا يتناولون صامتين طعام الإفطار .
ونظرت الأم إلى رانمارو فرحة ، وتراءت لها فرحتها في مثل يومها هذا ، ورمقت زوجها بنظرة سريعة ، وغمزت له ، فمال عليها زوجها مبتسماً ، وهمس لها : أنت أيضاً كنت خجلة هكذا ، عندما زرتكم لأول مرة ، ألا تذكرين ؟
وكتمت الأم ابتسامتها ، ولكزت زوجها قائلة : كلْ الآن ، كلْ ، كلْ .
وهزت رأسها ، هل كانت حقاً خجلة هكذا يوم ذاك، أم أن هذا ما أرادت أن تريه يومها لخطيبها ، فهي تعتقد ، أن الرجال عامة يريدون أن يروا الخطيبة خجلة ، وهذا ما حرصت وقتها أن تريه له .
ونظرت الأم ثانية إلى رانمارو ، وقالت : كلي ، يا ابنتي ، كلي ، فهذا يومك .
وردت رانمارو ، دون أن ترفع وجهها إلى أمها : إنني آكل ، يا أمي .

خرج مساشي من الكوخ ، بعد أن تناول القليل من الطعام ، فأمه عند أختها ، وهي من كانت تحثه دائماّ على تناول المزيد من الطعام .
وجلس على المصطبة ، تحت شجرة الجوز ، وعلى مقربة منه ، أقعى كالعادة كلبه ، وعيناه الضيقتان اللامعتان تتابعانه في حركاته وسكناته .
ورفع ساشي رأسه ، وتطلع إلى أعالي السماء ، فقد خيل إليه أنه سمع صوت بجعة ، تحلق في الأعالي ، منطلقة إلى البعيد ، لكنه وعلى امتداد الأفاق ، لم يرَ أثراً لبجعة واحدة .

ارتجت العربة ، وتلفت كينشن حوله ، لقد اختفت الصحراء ، ومعها اختفى الفيل ، وها هي العربة يجرها الجمل على طريق تحفه الأشجار ، فالتفت إلى أمه ، وقال : ماما ، يبدو أننا لن نصل مطلقاً .
فقالت أمه : لا تتعجل ، يا بنيّ ، سنصل حتماً ، فلكل طريق ، مهما طال ، نهاية .
وواصل كينشن طريقه ، واندفعت العربة ، يقودها حصان أدهم ، تدرج على طريق زراعي ،تحيط به حقول خضراء زاهية ، مترامية حتى الأفق ، وعند غروب الشمس ، وحلول الظلام ، توقفت العربة ، فنزلت الأم منها ، وقالت : لقد وصلنا أخيراً ، يا بنيّ ، انزل .
ونزل كينشن من العربة ، ونظر إلى البيت ، وقال : ماما ، هذا بيتنا .

دخلت عليها أمها الغرفة ، وعلى ضوء القنديل ، رأتها تجلس في فراشها ، وعيناها تلتمعان ، فحدقت فيها بنظرة متهمة ، وقالت : لم يصلا .
فردت شو قائلة : هذا شأنهما ، يا أمي .

بزغ القمر ، من وراء الجبال ، وأطل ساطعاً على القرية ، فنهض ساشي من على المصطبة ، التي تحت شجرة الجوز ، ومضى نحو الكوخ بخطوات كسولة ، والكلب يسير كالعادة في أثره ، ودفع مون الباب ، ودخل الكوخ ، لكن الكلب توقف عند الباب ، رغم أنه طالما تمنى لو يدخل الكوخ ، ويرقد قرب ساشي .
وتمدد ساشي في فراشه ، وأغمض عينيه ، وأغفى على صوت بجعة يأتيه من بعيد ، ويهتف به بصوت آسر أن .. تعال .. تعال .. تعال .







" 7 "
ـــــــــــــــــــــ

أطفأت رانمارو القنديل ، وجلست في فراشها ، تتطلع عبر النافذة ، إلى السماء المعتمة ، التي بدأت النجوم تتلامع في فضائها الشاسع ، وتنهدت نافدة الصبر ، ترى متى يطل القمر من وراء الجبال البعيدة ؟

لم يغمض جفن للأم العجوز ، وتراءى لها ابنها ساشي يرقد في فراشه ، لينطلق مع الفجر إلى بحيرة البجع ، وراء الجبال البعيدة ، عند مشرق الشمس ، عندئذ اعتدلت في فراشها ، وصاحت في داخلها : رانمارو ، تحركي ، تحركي بسرعة ، ربما تحركك البارحة ، كان مبكراً ، غداً سيفوت الأوان ، الآن هو الوقت المناسب ، يا رانمارو ، تحركي .. تحركي يا رانمارو .
رقد الزوج في فراشه ، ورقد ت زوجته إلى جانبه ، وقد لاذ كلاهما بالصمت ، بعد ما كابده طول اليوم من ابنتها رانمارو ، وعدم وصول كيتشن وأمه ، لم تنم الأم ، بينا ارتفع غطيط الأب بعد فترة قصيرة .
وتراءت لها ابنتها رانمارو ، وتملكها ضيق غريب ، ترى ماذا تفعل رانمارو الآن ؟ هذا ما أرادت أن تعرفه أمها ، فنهضت بهدوء ، وبهدوء تسللت عبر الفناء إلى غرفتها ، ودفعت الباب بهدوء ، و .. وقفت مصعوقة ، لم تكن رانمارو في فراشها ، ترى أين مضت في هذه الساعة من الليل ؟

استسلم ساشي للنوم في فراشه ، وخارج الكوخ ، عند عتبة الباب ، استغرق الكلب في النوم ، لكن الأم العجوز ، ورغم أن أختها استغرقت في نوم عميق ، ظلت مستيقظة ، تتطلع إلى القمر عبر النافذة ، وهو يسطع فوق البيوت النائمة ، وقالت في نفسها : رانمارو هذا يومك ، وإلا طار ساشي من بين أيدينا ، وجننا أنا وأنت من الوحدة .
نبح الكلب في الخارج ، على مقربة من باب الكوخ ، وانتبه ساشي إليه ، لكنه لم يحفل بنباحه ، فهذا الكلب سيسكت بعد حين ، فطالما نبح كائنا ما رآه في منامه ، لكنه هذه المرة لم يكف عن النباح .
واعتدل ساشي ، حين سمع الباب يُطرق ، ترى من يكون الطارق في هذا الوقت من الليل ؟ طرق الباب ثانية ، والكلب لم يتوقف عن النباح ، فنهض ساشي ، وفتح الباب ، واتسعت عيناه ذهولاً ، إذ رأى بجعة تقف أمامه ، وقد ارتخى جناحاها ، وبدت وكأنها ستتهاوى منهارة على الأرض .
وأفاق ساشي على البجعة تحييه بصوت متعب جريح : آه .. طاب مساؤك .
وبدل أن يرد ساشي على البجعة ، نظر إلى الكلب ، ونهره قائلاً : كفى ، ابتعد من هنا .
وكفّ الكلب عن النباح ، وتراجع منكسراً ، وتوقف على مقربة من المصطبة . ونحت البجعة ساشي برفق ، ودخلت الكوخ ، وهي تقول : أرجوك ، أغلق الباب ، إنني أشعر بالبرد .
وتوقف ساشي لحظة ، ينظر إلى البجعة ، ثم أغلق الباب ، ووقف مذهولاً يحدق فيها ، فنظرت إليه بعينين متعبتين ، وقالت : تأخرت عن السرب ، الذي طار قبل أيام إلى بحيرة البجع ، التي تقع خلف الجبال البعيدة ، قرب مشرق الشمس .
وجلست على الفراش متأوهة ، وتابعت قائلة : أخرني المرض ، وخفت أن يشتد البرد ، فحاولت اللحاق بهم ليلاً ونهاراً ، آه ..
أسرع ساشي إليها ، وأسندها برفق ، وهو يقول : تمددي هنا ، وارتاحي قليلاً .
تمددت البجعة ، وهي تتنهد متوجعة ، وقالت : سأبقى عندك إلى الغد ، إذا سمحت ، ثم أواصل تحليقي عبر الجبال البعيدة إلى بحيرة البجع .
وصمتت البجعة متأوهة ، ثم قالت : آه أشعر بالبرد ، أغلق النافذة .
والتفت ساشي إلى النافذة بصورة لا إرادية ، وهو يقول : النافذة مغلقة .
وتناول لحافه ، وراح يغطيها به ، وهو يقول : ستدفئين الآن ، فهذا لحاف سميك .
وأمسكت البجعة بيديه ، وقالت : حدثني ، يا ساشي ، حدثني ، لعلي أدفأ .
وصمت ساشي مذهولاً ، إنها تعرف اسمه ، لكنه قال ، وهو يتطلع إلى عينيها المتعبتين : أنا أيضاً أريد أن أطير إلى بحيرة البجع .
وربتت البجعة على يده ، وقالت بصوت متعب : أنت لست من البجع .
وقال ساشي : نعم ، لكن هناك بجعة تناديني في الحلم ، وتقول لي ..
وصمت ساشي محدقاً فيها ، ثم قال : صوتك ليس غريباً عني ، لا أدري أين سمعته .
وتنهدت البجعة ، وقالت : من يدري ، ربما سمعته في الحلم .
وصمت ساشي لحظة ، ثم قال : نعم ، ربما .
ونظرت رانمارو أليه ، وقالت : لو كنت بجعة حلمك ، هل تتزوجني ؟
لاذ ساشي بالصمت ، فقالت البجعة : أنت ستطير عبر الجبال البعيدة ، لتلتقي بها هناك ، في بحيرة البجع ، أنظر ، قد أكون أنا بجعتك .
صمت مون لحظة ، ثم قال : لا ، لا أستطيع ، لدي واحدة هنا .
تساءلت البجعة : تحبها ؟
هزّ ساشي رأسه ، فطوقته البجعة بجناحيها ، وهي ترتعش ، وتقول : ما أشدّ البرد ، ضمني يا ساشي ، ضمني ، لعلي أدفأ .
استسلم ساشي لجناحيها ، لكنه سرعان ما رفع رأسه ، وصاح : رانمارو !
وضمته رانمارو بجناحيها ثانية ، وقالت : نم ، يا عزيزي ، إنني بجعتك .
قبل منتصف الليل ، تمددت الأم العجوز في فراشها ،وأغمضت عينيها ، وتنهدت بارتياح ، وهي تقول في نفسها مبتسمة : هذا ما عرفته منذ البداية ، فساشي لن تشفيه من لوثته سوى .. رانمارو .
29 / 6 / 2012








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/