الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقْصَلةُ آلأعْمار

عبد الله خطوري

2022 / 11 / 28
الادب والفن


كانت اللحظة الممتدة بين وصولي الى مبتغاي قادما على قَدمي من حومة الكرطي بلمهدي الى ساحة سينما المعراج(١)، وبين آقتناء تذكرة الدخول إلى القاعة السحرية المعتمة وبداية مُشاهدة سحر الصور، كانت مديدة رصاصية مليئة بثقل صهد بخار الزحام والعَرق ورائحة مازوط السيارات ووطيس حر شمس آب اللاهب وزمجرة التدافع والتلاسن والتراشق بما لم يلذ ولم يطب من الكلمات النابية بين جمهور متلاطم يزدحم على أبواب ضيقة مغلقة متلهف للولوج أولا لاقتناص ما يراه أمكنة مناسبة تُخول متابعة جيدة، وبين بائعين لأوراق الدخول من سوق سوداء شرسة طرابندو..بَالْكُو فُوتُويْ الفوقْ ولْتَحْتَ ورقة بقات الفيلم بَدَّا(٢)..وبين مُتصيدي فرص سانحة يمكن أن تجود بها غفلة اكتظاظ لا يلين، وبين زعيق كَرانْ باريدا قاوْقاو معقودة ميلفاي..(٣)بين ذاك وذا تاه الذي تاه..لكنه لم يتلف؛ظل متشبتا بقامته المنتصبة المحدودة؛ولكي يفلت من براثن الوقوع في فخ ما لا تُحمد عقباه، راح الفتى ذو آثنتي عشرة خريفا أو صيفا أو شتاء سيان يتأمل صورة أفيش الإعلان العملاقة.وقف تحت لوحتها العلوية مباشرة يتملى شخوصا شفيفة رشيقة طائرة في الهواء وأسلحة صفيح ونحاس حادة باترة خارقة تقصل الرؤوس عن أجسامها والنفوس عن أرواحها بضربة ماحقة عن بعد تُلقي بها رميةُ متقنة مركزة من لبيبِ شاوُولينٍ حصيفٍ قوي خبير رغم الشُّعيرات الشائبات اللائي خضبنَ الحاجبيْن المعقوفيْن ولحية السحر العجائبية المغطية الوجه المجدور السارحة في الهواء والنفاذة في الأجواء دون سطوة للجاذبية على الحركات الوَثّابة المتحفزة المنطلقة بلا قيود.كانت الرحبة شاسعة لملحمة الاصطدام والضرام والمهارشة والمبارزة الله يعلم وحده مدى حمأة جبروتها..وشرع الفتى يتخيل يفترض ما سيقع..كان على "وانْكْيُو"الأبتر(٤)ذي اليد المبتورة أنْ يرفع ويتحمل التحدي بيسراه الوحيدة ينتقم لها يعيد الاعتبار لنفسه المكلومة في مواجهة السلاح العابر للمسافات الذي فَتَك بالكثيرين في رمشة عين خاطفة وبلا رحمة يفعل ما تفعل مقاصل الإعدام..لقد غطى الملصقُ حدقتيْ عينيْن محملقتيْن غشّاهما بغبش متسلط عَطّل العقل والإدراك والوعي بخفايا وأسرار لعبة متفق عليها سلفا.فلم يعد يرى غير الملامح المتشابكة والمصائر التي في كف عفاريت الكونكوفو المتطاحنة إلى أنْ آزداد الهرج والمرج المتحلق على فُتَيْحات وُلوجات الدخول الأشبه بالسراديب.ترك المتزاحمين المتعاركين على أماكن يرونها ملائمة يفعلون ببعضهم البعض ما يقدرون عليه حتى تيقن من فراغ المدخل أمامه، فتقدم ويده على قلبه مخافة أن يغلط أو يخرّ أو يسقط أو يزداد ترنحه المتردد في فحمة ظلام لا تنيره إلا إضاءات ساطعة مبرقة تصدر عن شاشة جبارة هادرة بأصوات الرشق والقطع والجز والصلم والبتر والفتق وزعيق ساخط ياااااالعوااااار(٥)لا يفتر إلا ليبدأ من جديد...
ما بين تلك اللحظات الغاطسة في الزوال وهذه التي تعاش الآن هنا،عُمْرٌ كامل قصمت ظهره آلة أكثر عقرا مما عايَنَتْه المقلتان الصغيرتان.لقد تابع شغفي الفيلم أول مرة في عشية من عشيات رمضان بقاعة سينما"المعراج"التي كانت لنا فرصة لعروج أسباب فنطاسمات لا حدود لاستهاماتها الموغلة في الأوهام..ايييه..أمست الآن رحبة بلا رحبة، مجرد أطلال ركام أرض تباع لا غير(قصلتها هي الأخرى آلة لوبيات العقار دون أن تجد مغوارا يشبه"وانكيو"يواجه صلف جبروت المرابين الماحق)..آنئذ،ظل الصبي غاطسا في جوف أفيش عملاق يفتح فاه كالمشيئة يستقبل الرواد بصورة مكبرة تعلن بتشويق مختزل أحداث فيلم الكونكفو لجمهور غفير هارب من لظى صهد المدينة الى حناديس صهريج أكثر جحيما.مثبتة كانت الأفيش بحائط المبنى يتملاها الفضول مركِزا على خياشيم شوارب الآلة الحادة المسننة الهائمة الطائشة دون رقيب أو حسيب في الهواء تقنص رقاب الهوام والدواب والأنام.ما نكذبش على راسي في ذاك الوقت نهاية السبعينيات كنت خايف لأني كنت كنقول وانا غارق في كرسي خشبي صلب أحمر أو بني أو ما شابه أو قل هو بلا لون لكثرة ما آستُعمل وآنتُهِكَ، متوجسا كنت أتحسس رقبتي التي فويق كتفي من وقت لآخر خطْرا خطْرا ذائبا في أحشاء القاعة المعفرة مذعورا ربما دابا وهاذ المصيبة تخرق تقطع ليزار ديال الشاشة تشتت الالوان وتخرج لينا كاملين...يمكن تظهر هاد الهدرا مبالغا فيها الآن،لكن هو إحساس كان يحس به من عاش تلك الفترة وعايش ما عايشه ذاك الدَرِّي الصغير للي كانت السونيما عندو بحالها بحال الواقع لا فرق..لكن الحمد لله في فيلم فناطازيا شاوولين هذا تمكن البطل وانكيو من الاحتيال على العجوز المفترس عزرائيل ذي الشعر الشائب وعلى مقصلته الطائرة وقضى على شرهه الجامح في ملحمة حاسمة آنقطعت فيها أنفاسي وأنفاس المتابعين، لكن منظر الرؤوس تتصيدها الآلة الجهنمية تقطفها تباعا لم يبرح مخيلة الطفل الذي كنتُه،ومازالتِ الصورة تحضرني كطوطم موحش مرعب بالرغم من هرمي الشائب يطوقني حسيس فتن الزمن تحاصرني خواطر المحن وشطحات الإحن وأنا أعاين عُمْرا ما من الأعمار يُخرَم من عمره على حين غرة في غمرة الحياة المتشابكة المتقلبةرغم الجأش والفتوة وفورة الشباب.. فعلا، سنون الطفولة صعيبة بزاااف..ألم يقولوا إن الطفل أبو الرجل أو أبو المصائب والعُقد كلها..ايوى قولو عاوتاني مااااانعرف...

☆إشارات:
١_حومة الكرطي بلمهيدي:حي ثكنة تحمل آسم بلمهيدي بمدينة(وجدة)المغربية
١_المعراج:قاعة سينمائية بمدينة وجدة سبعينيات القرن الخالي
٢_بالكو فوتويْ ورقة بقاتْ الفيلم بَدَّا:كذلك ينادي بائعو تذاكر السينما في السوق السوداء قرب القاعات سبعينيات القرن الماضي، يخيرون الراغبين بين الاماكن المتموعة داخل القاعة
٣_كاران:أكلة شعبية تباع في أزقة مدينة وجدة تهيأ بالحمص والبيض وما الى ذلك
_قاوقاو:الفول السوداني
_باريدا:عصائر باردة
_معقودة:أكلة شعبية من البيض والبطاطس
_ميلفاوي:حلوية أصلها فرنسي
٤_وانكيو:ممثل صيني سبعينيات القرن الماضي معروف في تشخيصه في أفلام الحركة التي كانت تنتجها هونغ كونغ
٥_صرخات احتجاج يصدرها المتفرجون ضد المسؤول على عرض مشاهد الفيلم في القاعة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني


.. بعد فيديو البصق.. شمس الكويتية ممنوعة من الغناء في العراق




.. صباح العربية | بصوته الرائع.. الفنان الفلسطيني معن رباع يبدع


.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر




.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته