الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رسالة إلى وزارة الأوقاف المصرية والأزهر.

مختار سعد شحاته

2022 / 12 / 2
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ما لم تقله وزارة الأوقاف:

عزيزتي وزارة الأوقاف؛ تحية طيبة إلى معاليك، واسمحي لي بتضمين عزيزك الأكبر "الأزهر" في رسالتي تلك، لأننا في منطقة لا يزال العقل الجمعي فيها مأخوذًا بالإنجاز الذكوري المُطلق، ومستندًا في كل حين ومجال على "الرجال قوامون على النساء"، وفقط بلا استطراد في القراءة، وعملاً باحترام كل ذكر بنى صرح ذكوريته ولو بالدم أحيانًا. وبعد؛
أعود إلى أرض الوطن مرة أخرى بعد غياب تعدى العام الكامل في بلد الغرب، والتي يحلو لنا هنا في منطقتنا على الدوام وصفها في بعض أدبيات الخطاب بالغرب اللاديني/ الكافر/ المُلحد؛ وهو ما يخالف حقيقة هذه المجتمعات التي لا يزال الدين حاضرًا فيها بقوة، حتى ولو لم يتم إعلان ذلك أو التمترس خلفه لشنّ حروب على الآخر، فلكل المجتمعات حروبها وصراعاتها وآفاتها، فلا مجتمع بشري يخلو يا عزيزتي من "البطحات"، وهو ما يجعلني في حلّ من الدفاع عن هؤلاء الغربيين الذين عشت معهم وبينهم في حياتي أكثر من سبع سنوات، وعاشرت بنيهم لعقود. أعود هذه المرة وأنا محمل بحنين غير اعتيادي على شخصي وعلى المقربين مني، فلأول مرة أشعر بحنين غريب إلى شيء خاص في وطننا الحبيب، أرجوكِ ألا تتعجبي مثل الرفاق حولي مما شدني إليه الحنين، تخيلي يا عزيزتي عدتُ بحنين بالغ إلى صوت الآذان، وما يجعل الأمر عجيبًا وغريبًا هو ما اعتدت وصف نفسي به حين عشت في البرازيل لسنوات، وحين يعرف الناس إني مصري، عربي، مسلم، كان لا بُد أن أذيل الإجابة بعبارة برتغالية تقول: "muçulmano de casa" أي "مسلم من منازلهم"، والحقيقة كانت العبارة الأخيرة عبارة عن ميكانيزم دفاعي للخروج من أي اتهامات لأيدلوجيتي العقائدية التي نشأت في أحضانها وترعرعت.
عزيزتي وزارة الأوقاف المصرية؛ لماذا هذه المقدمة الطويلة؟ الحقيقة أعرف انشغالك العظيم بما يعتبره خطباء ووعاظ معاليكم حربًا مقدسة في مواجهة "الشرير" الذي يتمنى الجميع النجاة منه، والحقيقة لا أريد الخوض في تفاصيل ذلك، لكن أريد فقط لفت انتباه معاليكم إلى طرق جديدة يتخذها هذا الشرير، طرق معاصرة للغاية ربما تغيب عن وعاظ مساجدكم ومعتلي منابر الجمعة التابعين لمعاليكم، هذا الطريق يدعونه أمثالي ممن يتخذهم الشرير للنفاذ من خلالهم أحيانًا، يعتبرونه قضية وطنية وهم وطني عظيم، هو "الهوية"، ومحددات تلك الهوية المصرية قبل أن تكون إسلامية ثُم عربية، وللعلم لا أشتكي أي شكوى مع هذه الهويات إذ آخذ من نفسي مثالاً لكيف يعيش المرء بين هويات متعددة، ويكون متسقًا مع نفسه كل الاتساق بلا أي تعارض، بل ويشعر بهذا الحلم صعب المنال الذي يسمونه "الاستقرار النفسي".
أعرف إنك ربما تتساءلين، وما علاقة خطباء جمعتنا الموقرة، ووعاظكم الأفاضل بقضية مثل "الهوية"، وأنتم بالأساس رجال الله وحماة دينه على الأرض؟ إجابة السؤال ستعيدني إلى المقدمة، وأعيد أنني رجعت إلى مصر بعد غربة ليست قصيرة، والحنين لصوت المؤذن يغشى كل روحي، وهو حنين خاص بي وبسياقاتي الشخصية التي ربما مثلا تتناقض مع صوت المؤذن غير الحسن في مكبرات الصوت فجرًا، والتي بديلاً عن أن تؤنس وحشة الساهرين مثلي، يفزعهم والنائمين كذلك لخشونة الصوت وفظاظته، لكن تلك قضية فرعية أخرى، ولا أريد جركم إليها، ولنركز على قضية الهوية، وسؤالي حولها: لماذا يُصر خطباء ووعاظ وأئمة المساجد التابعة لوزارة الأوقاف، وكذلك الزوايا الشعبية غير التابعة ولا الخاضعة لإدارتكم، لماذا يصرون جميعًا على بضاعتهم غير الأصيلة؟ البضاعة التي تتمثل في تبني سمتًا غير مصري إطلاقًا في الآداء والوعظ وثالثة الأثافى عند تلاوة/ قراءة القرآن؟! عجيب على مثلي -ونحن كثيرون- ممن يؤمنون أن القرآن نزل في مكة والمدينة، لكنه قُرِأَ في مصر، فمدرسة القراءة المصرية القرآنية لا ينكرها أحد مهما اختلف حولها، مدرسة لها ذوقها وطعمها الفني ونغمها الذي صار واحدًا من مكونات وجدان الشعب المصري ومحددات هوية المسلمين منه، بل وفي العالم الإسلامي، كأمثال محمد رفعت، والمنشاوي، والطبلاوي، عبد الباسط، وعشرات من الأفاضل المشايخ ممن عرفهم العالم مع الإذاعة المصرية وحتى قبلها..
أتساءل يا عزيزتي وزارة الأوقاف، ويا عزيزي الأزهر لأنك شريك في الإجابة عن سؤالي:
لماذا يتبنى أئمة مساجد مصر السمت "الخليجي" غير المصري عند القراءة؟ ولماذا يحرصون كل الحرص على تقليد أصوات غيرهم من مشايخ وقُراء الخليج العربي؟!
دعيني أعود لأسأل، وما الذي يضايق في ذلك؟ الإجابة ببساطة في أمرين، الأول أنها بذلك صارت قراءة غير أصيلة فهي بلسان غير مصري على قلب وأرض مجتمع مصري مشهور بلكنته ونطقه وخصوصيته، والأمر الآخر؛ ما يحمله ذلك من تهديد للهوية المصرية وللشخصية الاعتبارية المصرية، إذ يُنسى على اعتبار هذا التبني الخليجي، كل قراء القرآن المصريين، ويصير الاستماع إلى قراءة مصرية أصيلة في المساجد أمر نادر، بعد طوفان التقليد الصوتي لقراء ومشايخ الخليج العربي.
سأوضح الأمر بحادثة تتعلق أيضًا بمقدمتي؛ فاليوم الجمعة، أول جمعة لي في مصر بعد غياب، قررت الانضمام لصلاة الجمعة في المسجد، وأعترف أن وازعي لم يكن دينيًا خالصًا، بل كان حنينًا شخصيًا خاصًا بسياقي الديني الخاص جدًا، وبعيدًا عن كون خطبة الجمعة كانت في أبسط وصف لها ذكورية قحة، جعلت من النساء مصدر كل الشر على الأرض، وكأن كل الرجال الجالسين للصلاة بلا خطيئة، لكن هذا شجن آخر ليس وقته. خلال هذه الخطبة كانت أطفال كثيرة جدًا تملأ المسجد، وهو أمر للحقيقة والملاحظة ليس غريبًا على سكان المنطقة التي أعيش فيها ممن يحاولون الفوز بالحسنيين؛ الحياة الدنيا المرفهة والجنة في الآخرة، وهذا أيضًا ليس وقت مناقشة هذا السلوك. خوفي يا حضرة وزارة الأوقاف نابع من سؤال الهوية، هوية هؤلاء الأطفال الذين يستمعون إلى هذا الآداء الممسوخ من الآداء الخليجي للمشايخ هُناك، نبرات الصوت، طريقة الحكي، والطامة الكبرى عند قراءة القرآن، فجأة وللحظة ولأننا في منطقة أعتبرها صحراوية رغم مساحات الأشجار والخضرة، إلا إنني شعرت أني في الخليج العربي وخطيب الجمعة شيخ خليجي، وهنا كدت أُجن ويقينًا فشلت تجربة تغذية الحنين بأصوات قراءة قرآن وآذان مصريين خالصين من العبث والمماهاة.
عزيزتي وزارة الأوقاف؛
يجب عليّ أن أختم بما حدث أيضًا؛ فحين بدأ الشيخ الذي يؤم مئات المصريين في مسجد مصري على أرض مصرية ووسط مجتمع مصري، بدأ في تقليد تام للنطق الخليجي لمشايخ وقراء الخليج، وصدقيني لا يمكن هنا جري إلى لعبة القراءات لأننا نعرف أن القراءات السبع المختلفة أمر آخر، أنا أصب كلامي على التلاوة بلسان خليجي في وسط مجتمع مصري خالص، وأيضًا لا علاقة لي بأحكام التلاوة الضائعة نتيجة محاولة التقليد فهذا أمر يخص الأزهر الذي سمح بتخرجهم بهذا الشكل. أعود إلى صلاة الجمعة وإلى جواري رجل أربعيني في مثل عمري تقريبًا ينفتح في البكاء تماهيًا من تلاوة الشيخ الإمام، بعد الصلاة ابتسمت له وسألته لماذا يبكي؟ لا أنكر تأثره ولا خشوعه، لكنه تأثر وخشوع بالصوت المقلد "الزائف"، قلت للرجل، هل يمكن لأمر غير أصيل ومفتعل بل وزائف أن يبكينا إلى هذه الدرجة؟ هنا لا أشكك في خشوع الرجل، لكن أشكك في أصالة صوت الإمام غير المصري، ولا أفهم لم يُصر غالبية هؤلاء من شباب الأئمة على هذا المسخ، وضرب الهوية القرائية المصرية بعرض الحائط؟
حضرة الأزهر الكريم، وحضرة وزارة الأوقاف الموقرة؛
اسمحا لي بذلك الالتفات إلى أن الهوية المصرية، يُعد أصوات المصريين واحدًا من محدداتها ومكوناتها، ودعوني أخلط هنا بين ذلك وبين تراجع قوتنا الناعمة التي صنعتها الأفلام والسينما والمسلسلات المصرية، بعدما صارت الحياة كلها تجميعات من أمور مزيفة أخشى أن تنتهي بنا إلى أننا في وطن مُتخيل، ولم يعد للبلد المسمى "مصر" أي وجود سوى عبر هذا الحنين الذي يشعر به المغتربون عنها.
كل الخير للجميع.
سلام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأوقاف الإسلامية: 900 مستوطن ومتطرف اقتحموا المسجد الأقصى ف


.. الاحتلال يغلق المسجد الإبراهيمي في الخليل بالضفة الغربية




.. مراسلة الجزيرة: أكثر من 430 مستوطنا اقتحموا المسجد الأقصى في


.. آلاف المستوطنين الإسرائيليين يقتحمون المسجد الأقصى لأداء صلو




.. الشرطة الأمريكية تعتقل عشرات اليهود الداعمين لغزة في نيويورك