الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أسس الديانة العراقية القديمة ح 2

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2022 / 12 / 3
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


علاقة الله مع الشعب
تتميز الديانة العراقية القديمة بميزة قد لا تتكرر في أي ديانة أخرى بالرغم من أن العراقيون يقدسون الله ويعرفون مقدار العظمة التي أحاطت بالدال والمدلول، لكنهم ولطبيعة إيمانهم الحقيقي كانت العلاقة مع الله بشكل مباشر مبنية على حقيقة وجوديه، وهي أن الله خلق الإنسان ليقدم له العون والمساعدة وتدبير أمره في الحياة، ولم يخلق للأستعباد والعبادة والتعامل معه بالمقابل التخادمي، الله عند العراقيين غني متفضل وفاعل بدون عقد عبودية أو تعالي مصطنع، فهو يعيش معهم بالرمزية الحسية وبالفعل المباشر النوعي، يقول الباحث عضيد جواد الخميسي (يعتقد سكان بلاد الرافدين القدامى أن الآلهة قد اهتمّت بشركائها البشر في كل جانب من جوانب حياتهم، وذلك من خلال تلبية دعواتهم في الصلاة، ابتداءً من ديمومة الصحة والثراء والرخاء إلى أبسط متطلبات الحياة، وتتركز حياة سكان بلاد الرافدين حول آلهتهم، وبالتالي فإن المعابد التي شُيدّت كانت منازلهم على الأرض) 1، وبالرغم من تحفظي على إطلاق مسمى الآلهة على الدال وهو الله هنا لكن ما ورد بالتأكيد يبين حقيقة فهم المجتمع العراقي لدور الله في حياتهم وأعتزازهم به، لذا فهم يشيدون المعابد ليس لأنها محل تعبد فقط، بل لأنها مكان اللقاء والألتقاء به دوما.
هذه العقيدة التي تنفرد بها الديانة العراقية القديمة أتاحت للعقل البشري أن يتحرر من وصية كهنة المعبد الذين حاولوا أن يقطعوا حبل الوصل بين الله والشعب، لكنهم جوبهوا دوما بأن إرادة الله لا تسمح له بذلك وإنما هو منفذ فقط لإرادة الله، مثلا في صلاة التوبة التي يؤديها الإنسان السومري، مثلما دُوّنت على رُقيم طيني يعود تاريخه الى حوالي عام 2500 قبل الميلاد، نجد أن التائب في تلك الصلاة يلتمس الرحمة والشفقة لأي كائن أو ملك أو رب أساء له دون دراية أو معرفة، فبعد سلسلة من الشكاوى والمظالم التي عرضها "تابو يوتول بل" وهو أسم محرف عن الاسم العراقي القديم "تائب يتولى بالإل" بناجي على إلهه، إلاّ انه وفي آخر المطاف قد لُبيّت مطالبه عن طريق الساحر أو العرّاف (أحد الكهنة) الذي بعثه الإله أو الرب "مردوخ" إليه وتبين ذلك بوضوح من خلال عنوان القصيدة .
هنا الله يسمع ويرى ويتدخل بنفسه أو بواسطة أدواته المناسبة التي لكل منها مهمة أو أختصاص، ولذلك بشير أهل العلم والتنقيبات الأثرية إلى الكم الهائل مما يسمونه ألهة وهم في الحقيقة أرباب حسب ما في الديانة العراقية من معنى قصدي، هذا التدخل يثبت المباشرة والتلقائية التي تربط لبن الله والإنسان في ديانة العراقيين القدماء على أنها واحدة من أسس الديانة ومن مميزاتها الخاصة، على العكس من كل الديانات الت تجعل بين الله والإنسان الذي تسميه العبد مجموعة من الخطوط والأدوات والمسائل والوسائل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) المائدة (35)، فعندما نقرأ ما ورد في قصيدة (لدلول بل نيميقي) أو "دليلول بل نوم " التي ذكرنا قبل قليل نرى فيها هذه العلاقة بدون واسطة ولا وسيلة مفترضة، بل هي جزء من تعامل مباشر قد يكون أشبه بحديث النفس للنفس....
بَكيتُ إلى الإلهِ، لكنْ لمْ يَرني وَجههُ
صَلّيت إلى مَعبودي، لكنّه لمْ يرفعْ رَأسَه
........
لماذا قصّرَ الإلهُ يومهُ، وصارَ العيدُ باهتاً ؟
الذي تخلّى عن نِعمهِ، وذهبَ بعيداً عن مُخيّلتهم
خِشيةُ الرّب وتبجيلهُ، لمْ يَتعلّمها عِبادهِ
الذي لم يبتهلَ إلههُ، عندما تَناولَ طَعامه
مَنْ تَخلّى عن معبودهِ، ولمْ يأتِ لهُ بما يُليقُ ؟
مَنْ يَضطهدُ الضعيفَ، ويَنسى إلههُ ؟
مَنْ يَتخذّ اسم إلههُ العظيمُ كَذباً، ويقولُ، أنا أعشقهُ ؟
........
لكنّني فكّرتُ في الصلواتِ والتوسّلاتِ
فَقد كانت الصلاةُ حِكمَتي، وأضّحيتي هي كَرامتي
كان يَومُ تقديس الإله هو فرحةُ قَلبي
كان يومُ طاعةَ الإله هو ثَروتي
كانت صَلاةُ المَلك هي بَهجتي
وأنغامُ موسيقاه هي مُتعة لي
لقد سطر الشاعر العراقي القديم طبيعة العلاقة المباشرة بينه وبين الرب وهو يناجي معاتبا الله على ما حصل له، بالمناسبة هذه القصيدة هي الجذر التاريخي والروائي لقصة أيوب الوارد في أسفار التوراة وفي قصص القرآن، المتحدث "التائب يتولى بالإل" هو ذاته النبي أيوب الذي كان في التوراة والقرآن ضحية إرادة الرب في إثبات قدرة العبد المؤمن في الطاعة لربه، بينما في القصيدة نرى أن هذا التائب يتساءل فقط مع أنه حاول بكل الوسائل أن يتخلص من ألمه وعذابه الذي أبتلي فيه، هنا كان إيجابيا بإيمانه أما في الدين الإبراهيمي كان سلبيا مهزوما مكسورا ينتظر قرارا من الرب.. تقول القصيدة ...
لقدْ تقدّمَ بي العُمر، إذ وصلتُ إلى أقصاه البعيدُ
وأينما التفتُ كان هنا شّر وهناك شّر ...
يزدادُ الإحساسُ بالظلمِ، والعدالة لا أراها قُربي
.....
كما أنّ العرّاف بنبوءته .. لم يَحزِر مُستقبلي
ولا الساحرُ بالنورِ، قد رَأى مِحنتي
استَشرتُ مُستحضّراً للأرواحِ، لكنّهُ لَم يَفهَمني
ولم يَرفعَ المُشعوذُ بسحرهِ، الحَظْر .
كيفَ يتّمُ عَكْس الأفعال في العالمِ ؟..
لقد حاول أن يفعل بما هو متوفر من ممكنات مادية معروفة، أراد أن يتخلص من كل الشر الذي أحاط به، لكنه في كل مرة يفشل، لذا لجأ إلى الله مناجيا يريد أن يفهم فقط جوابا على سؤال " كيفَ يتّمُ عَكْس الأفعال في العالمِ ؟"، هذا السؤال متعلق بسؤال أخر لماذا يفعل الله بنا أحيانا ما لا يجب أن يفعله عادل في حكمه " فالإله الذي سعى لهم بالخير في وقت من الأوقات، بالتأكيد سوف يمحو أخطائهم ويعالج مشاكلهم في نهاية الأمر!"، بينما في سفر أيوب التوراتي الله يمارس تسلطه وساديته بعنف مع أيوب البريء الذي لا حول ولا قوة له تجاه الرب " أين كنت حين خَلقتُ الأرض ؟ أخبر ان كان عندك فهم ؟ . من وضع قياسها ؟ لأنك تعلم ، أو مَن مدّ عليها مِطماراً " سِفر أيّوب 38: 4-5 ، ويستمر إله أيّوب بتوجيه الأسئلة المُذلّة لعبده، إلاّ أنّ بجميعها يمكن حصرها في سؤال واحد فقط "مَنْ أنت لكي تشكك في قُدراتي ؟".
القصيدة التي نقلت مشوهة تماما عن أصل إدائها وترتيب معانيها ما زالت ترددها الأمهات الجنوبيات حصرا بذات اللكنة والمفردات العراقية القديمة، ولأن من ترجم لا يمكنه فهم ما تعني ولأنه لم يسمع أو يتحسس المعاني الواردة في القصيدة فقد جاءت باهتة بالرغم من الترميم الذي إجري على النص، الأغنية العراقية التي هي بالأصل تنهيدة الأمهات السومريات لأطفالهن كنوع من حديث النفس أو الشكوى من الواقع، فقد عرفت الأم العراقية من خلال "اللول أو عندما تلولي" لطفلها في حجرها أو في المهد تطلق تنهيدات تبدأ بالطلب من الطفل أن يطمئن وأن يسترخي وينام، ثم تخبره لاحقا أن عدوه المفترض وهنا نعود للعنصر الديني في القضية وهو إبليس أو الشيطان فأنه مريض وعليل وساكن "الچول" 2 ، فالأستخدام اللغوي في القصيدة التي تحكي معناة التائب يعود فيها إلى اللازمة الغنائية التي هي بداية ونهاية التنهيدة العراقية الأتية :
(دِلِلّول يمَّة يالولد يبني دِلِلّول
عدوَّك عليل وساكِن الـﭽول
يابني أنا لا اريد من جِدرَك غموس
ولارايده من جيبك فلوس
رِدْتَك أنا هَيبة وناموس).... 3
إن المشكلة الأساسية التي تعيق اليوم فهمنا الديانة العراقية القديمة ومعها اللغة الأم التي تفرعت منها عشرات اللهجات التي تحولت بفعل تشويش وتحريف المؤرخين والآثاريين هي عدم إجادتهم وفهمهم اللغة العراقية الحالية التي هي تماما في جرسها وذائقتها وحتى في طور أدائها العراقي الأصيل تكون مفاتحا حقيقيا لتلك اللغة وتلك الديانة، هذا الأمر ليس مقتصرا على الترجمات اللغوية، حتى الأحكام الدينية التي أستقاها أنبياء أل إبراهيم من المعين الديني الأول تعرضت هب الأخرى للتشويه والنقل الغير أمين، للنص وللحدث وللمراد القصدي، فجاءت متضاربة متناقضة أحيانا مع الأصل، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن كل القصص الديني والأنبياء والحوادث التاريخية الواردة في ما يسمى بالكتب المقدسة هي أساسا تراث ديني عراقي كجزء من التجربة الدينية الحقيقية، أو جزء من تراث الدين العراقي القديم الذي نقله العراقيون القدماء من مصدر حقيقي أو كانوا شاهدا عليه، بدأ من قصة آدم وطوفان نوح وقصة أيوب وحكاية موسى وولادة عيسى وصولا لما يعرف بحكاية الأنبياء والرسل التي لم نقصصهم عليك.
قد لا يكون هذا المثال كافيا لفهم طبيعة العلاقة التي تربط الله رب الأرباب في الديانة العراقية القديمة بالشكل الذي يجعل من التسليم بالفكرة يقينيا، لكن ما ورد من تشويه وتزييف كبير لحق التدوينات العراقية القديمة من الذين درسوا وترجموا وقرأوا النصوص لغاية ما، هي التي تمنع من أن نورد المزيد من الأمثلة، ولكن من جانب أخر أيضا تكشف لنا حقيقة المسميات الواردة في الكتابات والتدوينات الدينية التي تكشف أن كل ما يرد في الديانات الإبراهيمية أو الديانات المشتقة من ديانة العراق القديم تحمل نفس المفاهيم التي نتداولها اليوم، والتي يفتخر الكثيرون منا أنها تعلن التوحيد، السؤال إذا كانت الديانات التوحيدية قد نقلت كل المفاهيم والأفكار والمسميات وأسس التدين من الديانة العراقية القديمة بالتطابق النقل الحرفي، كيف صارت هي موحدة والديانة الأم ديانة شركية وثنية متعددة في الآلهة والأرباب؟.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. . عضيد جواد الخميسي _ عقيدة الدين في بلاد الرافدين، موقع الحوار المتمدن https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=727282
2. . الچول في اللغة العراقية القديمة ولليوم تستعمل للدلالة على الأرض الغير مسكونة خارج مناطق السكن أو الزراعة، ويقال لها چول ويترجمها السير"هنري رولنسون مثلا من اللغة السومرية القديمة بمعنى (شيول : هو الظلام أو الجحيم الذي يُعتقد في ان تذهب إليه أرواح بعض الموتى .) منقولة الترجمة من كتاب البروفيسور “جورج أي. بارتون " (الآثار والكتاب المقدّس ) ؛ الذي نشر عام 1916م .
3.
وقد ورد بأكثر من دراسة ومقال على ان كلمة ( دللول ) هي كلمة سومرية الاصل وكانت قد وجدت على لوح من الواح السومرية الاثرية مكتوبة ومعها كلمات ترنيمة للهدهدة الطفل وهذا الأقتباس: “جاء في دراسة لجيليان أدمز بعنوان ( أدب الاطفال …من سومر) وتعّرف كلمة تهويدة كنوع من الأدب في دليل اكسفورد لأدب الأطفال، بانها اغنية او أنشودة صممت لتهدئة الاطفال الرُضّع والصغار وتنويمهم، وتواجدت منذ آلاف السنين، أي قبل التهويدة الرومانية ( لَلا .. لَلا ) ويضيف دليل اكسفورد ان بدايات اشتقاق هذا المصطلح من ( لو) و (لا)، وتبدأ التهويدة السومرية بنفس أصوات حروف العلة، مع نقص في حرف اللام الابتدائي. بالإضافة ان التهويدة السومرية تتوسل الطفل لينام. كما في قصيدة ( شولكي سمتي) زوجة الملك ( شولكي) من سلالة أور الثالثة لأبنها العليل ..هذا مقطع منها :
لوّا..للوّا يا صغيري الذي لا يعرف شيئا وما خبر سنين عمره علك تكتشف و تأكل وتكبر فتكون أنت.
وأضيف أن ( للوا) تشبه ما تغنيه الامهات العراقيات قبل التنويمة الشهيرة ( دللول). “***دللول يالولد يا ابني دللول _بقلم ليلى طارق الناصري. موقع أنا العراق الإليكتروني عن دراسة للباحثة العراقية أ. د. إنعام الهاشمي18 يناير 2017








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عاجل.. شبكة -أي بي سي- عن مسؤول أميركي: إسرائيل أصابت موقعا


.. وزراءُ خارجية دول مجموعة السبع المجتمعون في إيطاليا يتفقون




.. النيران تستعر بين إسرائيل وحزب الله.. فهل يصبح لبنان ساحة ال


.. عاجل.. إغلاق المجال الجوي الإيراني أمام الجميع باستثناء القو




.. بينهم نساء ومسنون.. العثور جثامين نحو 30 شهيد مدفونين في مشف