الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في البيت الكردي المتصدع: تقديم مع نصوص مترجمة من رواية : هبة الجن الكردية، لحسن مته

ابراهيم محمود

2006 / 10 / 8
الادب والفن



لعل الارتباط بالمكان، هو الوجه الأبرز من وجوه الهوية، بالنسبة للانسان، خصوصاً حين يأتي التعبير باللغة مفصحاً عن الكثير من مقومات المكان، وخطورته في تأكيد كينونة صاحبه.
هنا، لم يخطىء هيدجر، عندما اعتبر اللغة بيت الوجود، نسيجه، إذ تكون اللغة بيته المحمول به، وهو داخله، بيته الذي يعرّف به، أنَّى كان وتنقَّل، وهو الذي يستشرف به داخله،وما يكونه داخلاً.
وليس غريباً بالمقابل، أن كتب غاستون باشلار( جماليات المكان)، مركّزاً على البيت، وما يمثله البيت بالنسبة للانسان شعوراً ولا شعوراً، أو حتى قيمة، والثقافة التي يمثلها هذا البيت بالنسبة له، و هو لـه بدوره، من خلال الثقافة التي تعود إليه فرداً، وتتجاوزه جماعة، وليس غريباً أكثر، أخيراً وليس أخراً، أن يؤلف باحث مفكر فرنسي معاصر، من مثل جاك أتالي، كتاباً ضخماً، يقع في خمسمائة صفحة ونيف، عن الانسان الرحالة بما يحمله معه ثقافة وسلوكاً، بما يخص بيته الداخلي الكوني: الثقافي المتعدد الألوان والأصوات، بيته المتنقل معه، وحواره مع المكان، في عهدة العولمة التي تستمر إلى ما بعدها مستجدات، حيث يحط رِحاله بين الحين والآخر، وينتقل داخل المكان بفكره وسلوكه، تجاوباً مع المستجدات والمتغيرات وتحديات المكان، وأعني بالكتاب المذكور( الانسان الرحَّلة :L,Homme nommade)، منشورات فايارد، باريس 2003،وخصوصاً في عالم اليوم، حيث مفهوم البيت تغيَّر كثيراً كمعنى وكرمز، من يكون فيه، كيف تتم إدارته، كيف يكون مصيره، انطلاقاً ممن يسكنه... الخ.

بيت الكردي:
أي بيت للكردي، ليمكن التحدث عنه؟ هل من بيت له؟
أن يكون الكردي طريد المكان، فهذه حقيقة مكانية، ولكنها الحقيقة التي تستبد به من داخل المكان، مكان الكردي وجه من وجوه حقيقته المأسوية، مقهور يعرّف بمقهور، زد على ذلك: مهدور قيمة، يرتبط بمهدور تاريخياً، وهو بين قهر متجلٍّ لـه في المكان، وهدر معاش داخل المكان، يحاول الانتقال، الارتحال في المكان نفسه، بنيّة البقاء، يذهب بعيداً ببيته، باسمه الممنوع من الصرف إلا عنفاً، وهو داخله، بيته المكاني كردياً، بيته الذي يُعصَف به من الجهات كافة، كما يقول تاريخه الذي يحفظه، أكثر من يدوّنه، استمراراً لتحديات المكان فيه، للغة التي هي بيته، وبيته ليس ملكه، وهو ليس ملك ذاته تمايزاً، بكل معنى الكلمة قانونياً، وبيته الذي ينتظر تطويباً باسمه علامةً فارقة، مثلما اسمه الذي ينتظر تدويناً في سجله الذي يشير إليه، كما هم الآخرون.
لكن التحدي البيتي- المكاني، يبقيه في مواجهة ذاته كثيراً، يُساءَل عما يكونه لنفسه، عما يفعل في بيته، في المكان الذي لا يمكن لكل شاردة وواردة، أن تشكل تبريراً لـه، ليقول: ما يجري خارج إرادتي، ما يحدث ليس لي دخل فيه، ما أتعرض لـه هو من صنع المتربصين بنا الدوائر، وبلغة الجمع، ليكون لـه شركاء في صناعة المأساة، وهذه في تدويم المبررات، والنفخ في شماعة الأخطاء، وما أكثرها بالمقابل في بيته !
ارتباط الكردي بالبيت، ذو مرجعية ثقافية، ما تكونه الثقافة هذه، من مقومات معرفية، ما تكونه اللغة التي تُسمَع ويشدَّد عليها داخل البيت، اللغة التي يتحدث بها، وكيف تتركب، وتستخدَم، كيف تتحدد العلاقات الاجتماعية من خلالها، بين الكردي وسواه، الكردي وأهله، الكردي وذاته.
داخل البيت: من يكون رب البيت، كما هو متردَّد حتى اللحظة، من تكون مدبرة المنزل( ست البيت)، من يكون المشكل لمجتمع البيت، كيف تكون مواقع المقيمين في البيت، كيف تكون اللغة مسموعة بضمائرها الاعتبارية، ومن يستخدمها أكثر، كيف يكون البيت موقعاً بالنسبة إلى سواه، يكون المكان الحامل له، المكان: العالم المحيط به، والعالم المكان الموجود والقائم في عالم أوسع.
تلك علاقات تنطلق من البيت- المكان، وترتد إلى المكان- البيت( بيتك حيث أنت)، وكذلك بالمقابل( مكانك حيث تقيم في بيتك)، هنا تتأصل الشخصية تحدي مكان ٍ، وتحدي زمان ٍ.
لا أعني بالبيت هنا، طريقة البناء والتصميم للبيت، إنما البيت كثقافة، ومن الداخل، انفتاح البيت على داخله، قبل أن يكون استشرافه لخارجه، خارج البيت من الداخل: جهة العلاقات بين أفإراده، جهة المكاشفة والمصارحة: الغلاسنوست الكردي الذاتي، بين أي كردي والآخر: الزوج، الزوجة، الأخوة، الأخوات... الخ، البيت الذي يكبر، ينفتح كل بيت على سواه، تأتي القرية، المحلة، المدينة، الحاضرة الكبيرة، العالم الكبير، وما يعني كل ذلك للكردي، من تحد مستفزٍٍّّ لـه أكثر من غيره، وهو في بيته وليس فيه، لأنه ما زال يبحث عن مكان مطوَّب باسمه، رغم أنه مقيم فيه : كردستانياً هنا، ولكنه، أيضاً، المكان- البيت الذي يتحداه في طريقة أدائه لواجباته، ويجلو حقيقةَ ما يكونه فاعليةً، في تقويمه لمن حوله، في كيفية الارتحال داخل المكان، دون الشعور بخوف، ليكون أكثر قدرة على البقاء.
بيت الكردي ظاهرياً، هو كبيوت كثيرة، من جهة البناء، حيثما كان، والمأساة التي يعيشها في مكان، لا يعفى من مسؤولية ذاتية، ما يكونه دوره، عندما يتكلم بلغته، ويعرّف بنفسه كردياً، ويحدد علاقاته بمن حوله: بدءاً بالمجتمع الأسري، بدءاً من العالم الأول، ويواجه تحديات، يكون دونها قوة ومواجهة وإيجاد حلول، كما لو أن ذلك يرفع من شأنه في بيته، وفي العالم المحيط به.
صلابة الرأس، حدة الطباع، سمة الجبلية التي ارتحلت من المكان الحسوس إلى المكان الرمزي، وحلت داخله كثيراً، ربما لا زالت تعرّف به، على أكثر من صعيد سلوكي - لغوي.
حطم جلمود صخر، ينفلق، تجد كردياً داخله! أهي مبالغة إن قلناها مجازاً، إثر ما تقدم؟
يقول هنا الكاتب كلمته، الكاتب هذا الذي يعيش مأسوية لغته مثله( مأساة الكردية كلغة، لا تنفصل عن مأساة الكردي ككيان لغوي ممزق، كبيت معرَّض للتصدع من أكثر من جهة)، حيث تتنوع كائناته، أشباحه، عفاريته، هواجسه، هلوساته، استمراراً للوضع المتردي في المكان،،يعيش بؤس المكان، بؤس البيت رغم حضور المسحة الحداثية فيه، بؤس الحالة من الداخل، رغم تجلي المديني ظاهراً فيه، يقلب المكان على وجوهه، مكان الكردي، كردي المكان الممزَّق من الداخل، ما لـه وما عليه، الحوار المأسوي بدوره، في تنوع مستوياته، بين الكردي وبيته ومكانه... الخ، بينه وبين آخر الآخرين، ذلك ما تقوله نصوصه: بيوته الأخرى بمواقعها، وطريقة تجليها، وقدرتها على البقاء عمق معنى، ورحابة أفق !

حسن مته ثانية:
أجدني مجدداً مع الكاتب الكردي المتعدد المواهب حسن مته Hesenê Metê، وهذه المرة من خلال روايته (Labîrenta Cinan: هبَّة الجن)، منشورات آفستا،استانبول، ط2، 2000.
هذه الرواية، أعتبرها رواية البيت الكردي، المكان الذي يقيم فيه، بامتداد ساحته المستباحة، المكان النموذج، ومن خلال قرية يعيش فيها أناس كرد لا يقيمون صلاتهم بالعالم خارجاً كما يجب، كرد بشر، عالم دون العالم، يعتبرون العالم حيث يقيمون في قرية لا تُسمى، لا صلة لهم بما يجري، لا يتقبلون نصيحة من أحد، ليس لديهم استعداد ليعلموا ما هم عليه، أن يتعلموا ، ولو، فن العيش البسيط، يقيمون في مكان، كما لو أنه العالم ينتهي فيه، وأن الزمان متوقف على عتبته، رغم معرفتهم أن ثمة وجوداً واسعاً للعالم والبشر خارجاً، لكنهم يرفضون وجوده، ليستمروا في وجودهم الذي ألفوه، يتكررون نسخاً، تكون الأشباح والمزارات والجن قناعاتهم، مأخوذون بالجن، مشدودون إليهم، هكذا يكون موتهم، فنادراً ما يموت أحدهم ميتة طبيعة، هي ليست قرية ماكوندو التي نمذجها ماركيز الكولومبي في رواياته( مائة عام من العزلة) خصوصاً، ولو أنها لا تخفي بعضاً من السلوكيات المشتركة، في إبراز مظاهر تدنّي مستوى الحياة البغيضة، المفارقة الكبرى، هي أن ماكوندو ماركيز تتوسع كولومبيا: البلد: البؤس، إنما المعترف به بلداً، بينما قرية مته المجهولة، فهي صنو المكان الجاري التعتيم عليه، وعدم الاعتراف به كردستانياً، ولكنه المكان الذي يكون لأهليه باعهم الطويل في استمرار التعتيم، استمرار سيطرة الجن، كما يتجسد ذلك في شخصية كفانوت Kevanot: الاسم المثيروالتهكمي، اسم معلم المدرسة القادم من المدينة باعتباره Xoce، تأكيد انتماء إلى المدينة، ومعه زوجته الكوجرية Nêrgisa koçer، أي : نرجس الرحالة، ليكون جمع بين الأمكنة الثلاثة: المدينة، والبرية التي تشهد ارتحالاً فيها، والقرية : البرزخ الفاصل بين البرية والمدينة، بين الارتحال، البداوة والحضر، ويكون البقاء في القرية، دخولاً في البنية الذهنية الكردية وآفاتيَّتها، حيث الجن، وما يعنيه الجن دلالة ورمزاً، وهم يتحكمون بالجميع( وهم كرد)، والجميع تقريباً يخضعون لهم، ويرجون رأفتهم بهم، وليس من مستثنى لم ينله أذى منهم، والمعلم يكون كبش الفداء الأكبر.
لا أتحدث عن الرواية أكثر من ذلك، لأنني ربما سأتعرض لها لاحقاً، وفي مكان آخر، وهي التي تستحضر روايته الأخرى، تلك تعرضت لها في دراسة منشورة هنا( أعني بذلك : القيامة)، أحاول هنا التذكير بها، وأهميتها وثيقة أدبية على تفكك المكان الكردي، وكيف هو الكردي في العالم، من خلال نماذج روائية، تبقى قابلة للتأويل، إنما لا تخفي صدمتها التاريخية، سواء في طريقة بنائها، أوكثافة رموزها، أوالعنف المتمسرح فيها، وهو امتداد للمكان ولتاريخه الكردي.
ما حاولته بالمقابل، هو ترجمة بعض الفقرات التي تتمايز داخل الرواية، وهي قائمة بذاتها، إنما لإضاءة أكثر لعالم الرواية: نفوساً وشخوصاً وطقوساً وعالماً محيطاً بهم، حيث السارد، الراوي يتحدث باسم من لا يسمي نفسه، سوى أنه منتم ٍ إلى المكان، ويريد توريط القارىء معه، في متابعة ( أكاذيبه): تأكيداً للمفارقة، على أنها خلافها، الأكاذيب: الملفات المرئية، لكي يكون للمكان بعضاً من المكشوف فيه، وقد تم تدوينه بطريقة أدبية، حيث القرية، تتنوع بيوتها، ولكنها في كافتها تشكل القرية، وتتشارك في " إثم" المكان، فاجعته، ترجمتُ مشاهد مختلفة، كل مشهد يمثل بيتاً، حيث الحديث يتركز على المرأة ودور المرأة في البيت، بيت الكردي، وما يدركه الكردي في المرأة مكانة وقيمة، ليكون البيت الكردي المرصود أولاً وأخيراً: حِداد المكان، وصرخته المكتومة في العالم، ودائماً كما يتخيل ويرى حسن مته!

البيوت المختارة ترجمةَ:

البيت الثامن

في الناحية السفلية، من الجانب الشرقي لقريتنا، ثمة بيت مزركش. بيت مزركش، لكن حتى لا يُفهَم خطأ، يجب أن يقال، على أنه ليس بيتاً، أفراد هذا البيت أنفسهم مزركشون. فحوى القصة، هي أن صاحب البيت رجل في الرابعة والأربعين من عمره تقريباً، رشيق، متناسق القوام، ذو لحية حمراء. سكان قريتنا ينادونه بصاحب اللحية الحمراء.
صاحب اللحية الحمراء ابن قريتنا، أب لستة أولاد. لكنه هو لا يقول هكذا. من وجهة نظره، هو أب لستة أضلع عوجاء، لهذا فإن أولاده الستة هم بنات. ويقال أنه مع ولادة كل طفل له ، كان يتوسل إلى الله، ويصلي له، ويدعوه كثيراً، لكي يهبه الله ذكَراً. لكن يبدو أن لا صوته بلغ الله، ولا صلواته ودعواته الزائدة أتت نفعاً. في كل ولادة جديدة، كان يُرزق ببنت جميلة، وفي كل مرة أيضاً، كان يمسّد بيده على لحيته الحمراء، يشد عليها، ويبكي:
- الله دخل معي في مكايدة!...
حتى الآن عبرت به السنين، وكبرت كل بناته بالمقابلً. البنت الكبرى تبلغ عشرين عاماً، أربعة وعشرين ، والأخريات يكبرن في إثرها تباعاً( إن لم توجد نقيصة فيهن، فإن بنات قريتنا حتى بلوغهن عمراً كهذا، لا يمكنهن الاستقرار في بيت أبيهن)، كل منهن تنافس الأخريات جمالاً.
ممشوقات القد، ذوات شعر أحمر، وعيونهن مائلات إلى الأزرق. بالرغم من جمالهن هذا، لا يدعن أباهن بمفرده، ويشكلن دعماً له أينما كان. وفي الكثير من الأحيان يمارسن أعمال الرجال أيضاً. ورغم ذلك، فإنهن لا يستطعن الحلول محل الذكور في قلب الأب. أحياناً كثيرة، يأتي الخاطبون إلى بيت ذي اللحية الحمراء ضيوفاً عليه، يخطبون بناته، ولكن يبدو أن ذا اللحية الحمراء قد أعطى قراراً في قريتنا بهذا الخصوص، ومنذ اليوم الأول، في ألا يزوّج بناته، وفي كل مرة كان يقول: لا.
تصرف ذي اللحية الحمراء ابن قريتنا، يدخل خوفاً إلى قلوب بناته. في الأمسيات البيتية، تنخرط البنات في أحاديث العشق، يذكرن الزواج استجابة لنداء قلوبهن، يسمين عشاقهن لبعضهن بعضاً. وعندما تأكدن أن أباهن ماض في قراره، يطلبن النجدة من أمهن، يستشرنها، ويرجون مساعدة الأم ذات القلب الرقيق، الأم ذات القلب الرقيق تتلوع إزاء وضع بناتها، تتجاذبها الأفكار ملية ليل نهار، تحادث أباهن ذا اللحية الحمراء، لكن ولا مرة، يلين قلبه، دائماً يقول:
- لن أُخرِج بناتي !
لم يعد من أمل للبنات. يتكلمن معاً مخططات للأبعد، يوحدن كلمتهن. في يوم من أيام الربيع، لم تعد الكبيرة إلى البيت، وهي كانت تعمل في لملمة العشب الصالح للأكل. يسخط ذو اللحية الحمراء ابن قريتنا، يفش خلقه ، يحتد إزاء بناته المتبقيات انتقاماً، زوجته تداريه، وتحاول استدراجه ليوسع مداركه. ما حصل لم يكن أمراً غريباً على العقل، كانت البنت على وشك الزواج، أرادت أن تصبح امرأة، لكن ذا اللحية الحمراء ابن قريتنا، احتد على زوجته أيضاً، وهو يقول:
- أو ما كنت أقول؟ ... أو ما كنت أقول لك، أن الكلمة... الكلمة التي تقول: المرأة ضلع أعوج، تسود وجه أبويها، هي صحيحة تماماً، والمَعنِي بذلك هو بيتنا!..
ذو اللحية الحمراء يتعقب أثر ابنته، ليعرف مع من هربت، حتى تمكن من تحديد المكان الذي تقيم فيه ابنته الكبرى. ابنة أخرى له ، تخرج مبتعدة عن البيت، ابنته الثانية تستفزه وتسيء إليه أكثر، تجلب عاراً كبيراً لذي اللحية الحمراء. سكان القرية يأتون إلى بيته، يحاولون تسوية الوضع، لكن ذا اللحية الحمراء ابن قريتنا لا يستجيب لطلبهم، ويقول:
- لن أسوّي الوضع، ولن أتعقبهما كذلك ... وليصحبهما الشيطان !
بعد أيام عدة، يغوي الشيطان اثنتين أخريين من بناته، وتختفيان عن الأنظار معاً. هذه المرة، تمضيان مثنى. ذو الحية الحمراء ابن قريتنا لا يعود يحتد كما كان سابقاً، فقط يخجل من تصرفات بناته، لا يعود يخرج مخالطاً القرويين، يهجر صلاة أيام الجمعة أيضاً. في البيت يضطرب، يفكر، وأحياناً يحدث نفسه، ويقول:
- علي على الأقل، أن أزوج ابنتي هاتين الباقيتين... أخرجهما بدف ومزمار كبير، سأتصرف هكذا، لأخفف من هذا العار الذي لحقني في بيتي.
لكن ذا اللحية الحمراء لا يتمكن من تدارك الأمر. كما لو أن البنتين الصغريين أيضاً، قد وُهِبتا الشجاعة والرشد من أخواتهما الكبريات، إذ اختفتا خلال أيام ثمانية بدورهما.
بعد مضيّ كل بناته، أحياناً يفكر، ويتهيأ لحمل البندقية، ملاحقاً أزواج بناته المعدومي الشرف. لكنه يعطي قراره، ويقول بينه وبين نفسه " المرأة لا تستحق في أن تكون سبباً في قتل أولئك الرجال المعدومي الشرف أيضاً". كأن ذا اللحية الحمراء ابن قريتنا قد ألِف هذا الشيء، حتى أنه لم يثر، لا يخرج من البيت، وقدر ما يستطيع يبتعد عن سكان قريتنا بدورهم. لا يشير إلى بناته. ثمة شيءٌ وحيد يقوم به، عندما يبقى بمفرده في بيته داخل غرفته، بعصبية يشد لحيته، ويضرب الجدران برأسه ( ص95-97)

البيت الثاني عشر:
في الحارة التي تقع أعلى قريتنا، ثمة بيت آخر... سكان قريتنا يسمونه بيت مدكهMedikê، ووحده الله يعلم أن هذا البيت هو الوحيد الذي يُسمى، من بين بيوت قريتنا، باسم امرأة البيت، ليس لأن لاوجود لرجل في هذا البيت، كلا، ثمة رجل موجود أيضاً.
رجل موجود باسم ريجوRîço، في قامة بائسة، وأنف صغير أحمر نسبياً. وعندما يتكلم ، يكون صوته ناعماً، صوتٌ شبيه ُصوت امرأة أصابها برد، يخرج من أنفها وحلقها. بسبب صوته هذا، في كثير من الحالات يخجل بجلاء، ولا يتكلم في مجالس سكان قريتنا، وسكان قريتنا، يقولون بدورهم لرجال قريتنا:
- قرويُّنا ريجو، ليس من صوت له.
لكن الوضع ليس كذلك. لو أننا ذات يوم أصخينا السمع لما يقوله هو وزوجته، سنقول إن أطول النساء لساناً في العالم، إزاء قروينا ريجو لا تستحق المقارنة. ويمكن إضافة أمر آخر، وهو قولنا بأن الله فيما يخص ما يعمله ويديره، نادم فقط على خلق قروينا ريجو . في البداية رغب في أن يخلق امرأة، وفي الخطوة الأخيرة يندم كذلك، وبث فيها بعض مزايا الرجولة. بصيغة أخرى، الشارب وكل الشعر الذي يلزقه بنا الله علامة رجولة مميّزة لنا، لولا ذلك، لما كان من صلة بينه وبين الرجولة( بالرغم من أن عمر زواج قروينا ريجو سبع سنوات، ولم يفرح ولو بولد واحد). كلام نساء، نفس ظاهرة نسائية، ضحك ومزح نسائيان، قلب وتصرف نسائيان. وللقراء الحق في أن يقولوا: كل صفات النساء هذه ، كيف تكون؟ فحوى القصة، لنبداً بالشغل: ريجو يذهب للم السرجين، بكلتا يديه يغوص في الزبل، ليعمل الجلة المدورة. يحمل الأكداس، يذهب لجلب العشب الصالح للأكل، يذهب إلى البئر والنبع، ويأتي بالماء في سطلين، في الطريق إلى الماء، كأي امرأة فضولية، يقف مع أي امرأة كانت، ويتحدث معها، يحدثها، ومثل النساء يضع يداً على يد، ويضحك بصوت ناعم، ومع ضحكه يضع إحدى يديه على فمه، وحيث يكون موضوع الضحك أو الكلام غريباً.
( بالنسبة لريجو قروينا، كل شيء غريب)، حينها ينظر إلى الأعلى رافعاً وجهه، ويقول بصوت ناعم:
- هاوووو!...، ما لم نره قد حدث ورأيناه !
هذه الكلمة الأخيرة السالفة، أصبحت طبعاً عند قروينا ريجو، صارت عادة، علامة تنبيه، يعتمدها في كل وقت، خصوصاً عندما يدخل في حوار مع نساء قريتنا، حيث المرأة في قريتنا تعلمه أن شجر العفص قد ظهر،، وقتذاك ينظر إلى الأعلى رافعاً وجهه، ويعلن عادته هذه، وهذه العادة تجذرت عند بعض سكاننا كذلك.
بدلاً من أن يسمي سكان قريتنا اسماً لريجو للسيطرة على المرأة، يسمون اسمه باسم المرأة، ويقولون: بيت مدكه ( ص 101- 103)

البيت الثالث عشر:
أمام بيت مدكه، ثمة بيت آخر، يبدو أنه ليس على صورة بيت الله، ولا على صورة بيت الشيطان . إنه بيت في هيئة غريبة، يلفت النظر، ليس بالنسبة لسكان قريتنا، إنما لمن فيه أيضاً هو هكذا.
صاحبة هذا البيت أرملة ذات نسب معلوم، لكن ليكن ما يكون نسبها، ولو كانت من آل البيت أيضاً، تكون المرأة في قريتنا امرأة لا أكثر. القول المأثور المتداول: الأسد أسد ذكراً كان أم أنثى، في قريتنا لا وجود له، إنما هو هكذا في قريتنا: الأسد أسد، الرجل رجل، والمرأة امرأة بدورها.
لو أننا رجعنا إلى صاحبة البيت، منجبة أحد عشر بطناً، كل بطن ، أظهر ما هو مختلف، وكان من نوع مختلف . ولو أننا وضحنا بصيغة أخرى، قلنا: نوع متدين، نوع سيء، نوع مزعج وسخيف... نعم، نعم... خرج سخفاء منه... لو لم يكن الوضع كذلك، تُرى عند الصلاة ... فحوى القصة، أمهم وهي تصلي، تكون وجهتها القبلة، وهي ساجدة لها... وقتذاك، ذلك السخيف، في الحال يرفع فستان أمه من الخلف، ويضع عصا تحت فستان أمه، وأمه هذه ذات النسب إزاء ذلك، لا تعود تنحني ولا تستقيم.
بسبب تنوع واختلاف أفراد هذا البيت، يسمي سكان قريتنا، هذا البيت ببيت الزهر. وفي قاموس سكان قريتنا، تكون مفردة بيت الزهر كثيرة المعاني.
فحوى القصة، يمكننا فهم هذا البيت على أنه بيت متداع ٍ، بالنسبة لأفراد البيت، لا أحد يثق بالآخر، ولا يُعنى بأمره. كل فرد داخل البيت، مشدود إلى مواله المختلف، وكل واحد بطبع مغاير. ( ص 103- 104).

البيت السادس عشر:
في الزاوية الشمالية لقريتنا، ثمة بيت... كلا، إنه ليس بيتاً... ليس بيتاً، ليس خيمة، ليس كهفاً... إنه أمر عجب ٌ، أفراد ذلك البيت، ليسوا من بني آدم، ولا من السماء، ولا هم من نسل الجن والعفاريت.... يشدون تكة السروال على خواصرهم، يصغّرون بطونهم... لئلا يجوعون. يأكلون خراهم. ( ص 105).
- - - - - - - - -
ملاحظة:
في دراستي عن رواية حسن مته( القيامة) والمنشورة أنترنتياً قبل فترة، تعرضت لهذه الرواية، من خلال ترجمة الاستهلال، حيث ذكرت الرواية باسمها الكردي( Labîrenta Cinan) ، إلا أنني وضعت بالمقابل عنواناً آخر، علق في ذهني، وأنا أقرأ بالذات ما يتعلق بالبيت الثامن، ومشاهد أخرى في الإطار ذاته، كحالة Kewê في الرواية مثلاً، وتأثري النفسي الشديد بذلك، وذلك التداخل بين الجن والمرأة ، بأكثر من معنى، وهو ( مأزق النساء)، ومفردة المأزق من بين المعاني الممكن تثبيتها إزاء المفردة الأولى هنا، حيث Labîrenta، في أصلها الانكليزي، متعددة المعاني، إنها تعني : المشكل، المأزق، الهبة، المتاهة... الخ، ولعلي هنا أذكّر بما جرى هناك، وهنا أجد أن العنوان الأكثر قرباً من الرواية، بعد أن قرأتها أكثر من مرة، هو ( هبة الجن) !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا