الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مصيبة السعي وراء الدوبامين عند البشر , كأس العالم كمثال.

اسكندر أمبروز

2022 / 12 / 11
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لو كنت عزيزي القارئ تشاهد في مقهى معيّن على البحر مثلاً المباراة النهائية لكأس العالم , ومن حيث لا تحتسب رأيت طفلاً يغرق في البحر امامك , وأنت قادر على مساعدته لو تحرّكت بشكل مباشر وبدون أي وقت للتفكير , هل ستتحرّك لإنقاذه ؟ أم ستنتظر لتنتهي المباراة ؟

طبعاً جميع من تخيّل نفسه في هكذا سيناريو سيذهب لإنقاذ الطفل دون أي شك , ولن يكترث لكأس العالم أو غيره من الأمور , فحياة طفل صغير أهم بمليون مرّة من مباراة سخيفة...أليس كذلك ؟

وللإجابة أود أن نعيد النظر في ظاهرة كأس العالم أو ما يشابهها من فعاليات أو منتجات اعلاميّة مرئية والتي قد أثارت لديّ نوعاً من التساؤل أو الحيرة , حيث قد تبدوا هذه الأمور مجرّد أشياء بسيطة من حيث المبدأ لا بل منتجات ماديّة منطقية لكسب المال من خلال الشركات أو الدول الراعية لهكذا محفّزات للدوبامين عند مليارات البشر !

والتساؤل هنا , لماذا يركّز مليارات البشر بهكذا أمور تافهة من حيث المبدأ وعميقة من حيث التأثير والمفعول العقلي المتمثل بالأدرينالين والدوبامين وغيرها , ويتغاضون عمّا يحصل في ذات الوقت من مآسٍ وفظائع لا يجتمع عليها سوى القلّة القليلة للتفكير فيها ومن ثم التوصل الى نتيجة مفادها عدم قدرة هذه القلّة القليلة على فعل أي شيء لتغيير تلك المآسي.

هذا هو الواقع المقرف الذي نعيشه , بشر ينفقون المليارات لتنظيم هكذا ألعاب , ومن ثم مليارات البشر تنفق المليارات لمشاهدة هذه الألعاب والتركيز فيها وفي تحليل حيثياتها لدرجة الهوس , وفي ذات الوقت , وبشكل متواز زمانيّاً مع هذا الكم الهائل من تتبّع البشر لجرعة الدوبامين والإثارة المرتبطة بكرة القدم وغيرها من السخافات , تحصل في بقاع العالم المختلفة أزمات ومصائب وفظائع لا يمكن التغاضي عنها ولو للحظة , ناهيكم عن نسيانها المطلق بسبب التركيز في كرة القدم وغيرها من المحفّزات العقلية , التي يزهد بها الجميع في حال حصول مصيبة أمام أعينهم , ولكنهم لا يكترثون لما يحصل من ملايين المصائب لملايين الأطفال والأبرياء في مناطق أُخرى في العالم !

نعم الكل يدفع المال ويصرف الطاقات والمجهود , ويسخّر الوقت ويفرّغ جدوله اليومي , لا لإنقاذ أطفال سوريا الذين يموتون من السرطان الذي يمكن علاجه إن توفّرت لهم المعدات الطبية الممنوعة بسبب الحصار الاقتصادي الأمريكي ! ولا لإنقاذ اطفال أفريقيا من الجوع والعطش المميتَين , ولا لتحسين أوضاع بلدان نسفتها الحروب الطاحنة في السنوات الأخيرة , ولا للعمل على ايقاف حروب قادمة أو مجازر قد تحصل...

لا , الجميع يصبّ كامل قواه العقلية والماديّة لمشاهدة...كرة ترتطم بهذا وذاك !

وأعتذر لكل من يشاهد ويحب هذه الألعاب الرياضية , فأنا لا أحكم عليك عزيزي فأنا كنت في ذات الوضعيّة المتجاهلة لما هو مهم ومحوريّ , نعم إنها الخطيئة التي لن أسامح نفسي عليها , لن أسامح نفسي على كل دقيقة صرفتها في تتبّع شهوات مؤقّتة ككرة القدم وغيرها من التفاهات التي أضعت وقتاً ومجهوداً للحصول عليها , وهذا المنشور ليس بمنشور عتاب أو محاسبة لمن يشاهدون كرة القدم , فكل شخص حرّ ذاته وفكره...

وإنما هو منشور توعوي , لتبيان حال البشرية المقرف وخصوصاً حالها في هذا الشرق الأوسط الموبوء بالطاعون الإسلامي , فلو تم صرف ربع ما يتم صرفه على كأس العالم من الدول المنظّمة له , فقط للتوعية بأهمية ايقاف الحروب والمجاعات والترويج لهذا الأمر من خلال تنظيم الحملات لإيقاف تلك المصائب وجذب المتطوّعين , لربما (مع التأكيد على كلمة "ربما") رأينا الملايين يهرعون للتطوع والعمل معاً لإيقاف تلك المصائب...

ولكن هذا ما أظنّه على أي حال , فأنا فعليّاً لا أدري إن كانت هذه هي النتيجة لحملات توعية وتنظيم للمساعدة...لعدم حدوث هكذا تنظيم وبذل هكذا أموال لأجل مشاريع نافعة كهذه على الإطلاق !

ولكنني أعلم (وهذا ما قد يبدو كرؤية قاتمة نوعاً ما) أن حال الأفراد ليس أفضل من حال المسؤولين والحكومات , فالفرد الذي يصرف آلاف الدولارات للسفر ومشاهدة مباريات , للوصول لنشوة المحفّزات التي يرى أنها تستحق كل هذا المال والمجهود ! لن يكون مهتمّاً لمساعدة الآخر البعيد عنه مئات أو آلاف الكيلومترات , وهذا واقع الذات البشرية ومحفّزاتها مع الأسف.

فنحن في عالم فيه المسؤول عبد للسلطة والمال , والفرد عبد للدوبامين وهرمونات السعادة الأنانيّة...وما هي نتيجة هذا التلاقح الشنيع بين رغبات المسؤول وشهوات الفرد ؟ مآسٍ وفظائع لا يكترث اليها أحد تستمرّ بالحدوث...

فأحدهم يصرخ على كرة لم تدخل المرمى , وفي ذات الوقت وعلى ذات الكوكب شخص آخر يصرخ على طفله الميّت.

كأس العالم هو صورة واقع مخزٍ , وتفسير منطقيّ لسماح أو تقبّل أو تجاهل النفس البشرية لما يحصل من مساوئ وفظائع. ولتفسير الأمر بشكل أفضل دعونا نعود للسيناريو في بداية المقال , فلماذا سيتخيل الجميع أنهم سينقذون الطفل عوضاً عن مشاهدة المباراة النهائية ؟ لأنهم سيشعرون بدفعة دوبامين أكبر حين ينقذون الطفل لا أكثر ولا أقل...

ولكن إن كان الأمر متعلّقاً بإنقاذ طفل يتعرّض لخطر الموت في مكان بعيد , سيتجاهل ذات الشخص "البطل" للطفل المنكوب , وسيفضّل تركيز طاقته للحصول على دفعة الدوبامين المتمثلة بالمباراة !

نعم هذا هو مستوى التفاهة التي يعمل بها العقل البشري ! وهذه هي الخطيئة التي لن أسامح نفسي على الوقوع بها , ولكنني أتمنى أن يعي الجميع هذه الرسالة وأهميّتها وأن نتدارك أنفسنا كبشر وأن نسعى نحو عالم أكثر عدلاً , فالله غير موجود ولا عدل سوى ما تصنعه أيدينا , فإمّا أن نصنع عالماً أكثر عدلاً أو أن نقبل بأن كرة القدم لدينا أهم من العدل والحرية والحياة الكريمة لمليارات البشر المنكوبين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما ردود الفعل في إيران عن سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز


.. الولايات المتحدة: معركة سياسية على الحدود




.. تذكرة عودة- فوكوفار 1991


.. انتخابات تشريعية في الهند تستمر على مدى 6 أسابيع




.. مشاهد مروعة للدمار الذي أحدثته الفيضانات من الخليج الى باكست