الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حسين علي محفوظ: أمُة في رجل

داود السلمان

2022 / 12 / 11
سيرة ذاتية


مقدمة
من الفخر والاعتزاز أن نستذكر أساتذتنا الذين درسنا على أيديهم، وتعلمنا منهم، وأخذنا عنهم، من الذين غادروا الحياة بعد أن أدّوا رسالتهم الإنسانية على أتمّ وجه. والاستذكار هذا هو من باب ردّ الجميل لتلك العقول التي أعطت كلُّ ما تمتلك من ثقافة ومعرفة، وغذّت وأنارت طرقنا بضياء تلك المعارف.
وهُم نخبة ممتازة كان ومازال لها صدى في مختلف العلوم، ولولا وجودهم لعشنا في دياجي الجهل، ولبقينا في زوايا التخلف، قابعين هناك يكسونا تراب الاهمال والنسيان.

توطئة
الأمة التي تستذكر وتحتفل بعلمائها ومفكريها وفلاسفتها، بلا شك، هي أمة حيّة ناهضة شامخة، يحق أن تكون الأولى في صفوف الأمم المتقدمة علميًا وحضاريًا وتكنولوجيًا، وذات تاريخ هو مفخرة لجميع الأجيال، ومنها سوف تقتبس الشعوب والأمم الأخرى ما تراه يصب في نهوضها كأمة تسعى للتقدم، وتحلم بالسمو والجري في طريق العلم والمعرفة، ولا يتحقق ذلك إلّا في دخولها حقول التجارب البحثية والعلمية، وقراءة كل ما هو جديد من اصدارات وكتب متنوعة ومختلفة الاتجاهات.
والسؤال: هل نحن أمة تقرأ، كون التقدم لا يتحقق إلّا بالقراءة؟.
والقراءة، بكلّ ابعادها وتجلياتها، الفلسفية والمعرفية، تُعد ركنا أساسيًا لتكوين شخصية الفرد ومن ثم اتزانه وتسليحه بالمعارف، والمعرفة بكلّ ابعادها؛ فالإنسان - إذن - يظلّ في حالة ظمأ دائم، وللقضاء على ذلك الظمأ يحتاج الى رشف كأس المعرفة من معين القراءة الدؤوبة المستمرة، لكي يتواصل مع الحياة ويبقى على وئام مستمر.
فالقراءة، بالنسبة للإنسان الذائب في بحر المعرفة هي: ظمأ روحي ونفسي وسيكولوجي، فمن دون القراءة يشعر أن روحه تريد أن تنفصل عن جسده، وبالتالي تأودي به الى الهلاك النفسي والمعنوي. لذلك تجد البعض يظل منشدًا نحو التطلع واستنشاق عبق القراءة حتى في أوقات عمله، حينما يقتنص الفرصة السانحة لذلك.
والقراءة بالنسبة لي، أنا الإنسان البسيط، عاشت معي منذ بواكير طفولتي، وهي من جهة أُخرى كعلاقة الأُم بوليدها. وكنت أقرأ في أشد الأيام الحرجة، إذ كنت اقرأ والموت قبالتي (وفي هذا قصة ليس هنا محل لذكرها). فقرأت في كثير من العلوم على مدى أربعين عامًا أو تزيد قليلاً.
ومن خلال القراءة الانسان بأنه بشرًا يعي ويدرك، ومن خلالها يكتشف ذاته، ويعرف قيمته الحقيقية، على اعتباره انسانًا جاء الى الوجود، حاملا على عاتقه رسالة انسانية، يجب أن يواصل هذه الرسالة بكل امانة واخلاص، رسالة ككاتب اوناشئ أو كانسان آخر وجب أن يقوم بدوره في بناء هذا المجتمع.
وعندما اعترفت الكتابة ازدادت قراءتي لمعرفة المزيد من المعارف والعلوم والفلسفات وتواريخ الانسانية. والقراءة، بعدُ، هي نزف داخلي فلازلت انزف ولا ادري متى تندمل جراحي، ويتوقف هذا النزف الجميل، وفي كل يوم اكتشف معان سامية في التطلع والقراءة.
وبكلمة، فالقراءة هي تنظيف أدران الجهل، بعبق التطلع والغوص في اعماق المعرفة واستخراج كنوزها، التي تؤدي بدورها الى خلق ثقافة معرفية تبني المجتمعات الصالحة المتطورة.
وزبدة ما ارُيد قوله، هي تعرّفي على هذا الرجل الكبير والكاتب القدير والعالم الفذ، ذلك حين وقوع كتاب لحميد المطبعي الذي خصصه إلى حسين علي محفوظ، وقوعه بين يديّ، وهذا الكتاب نشرته "دار الشؤون الثقافية" عام 1989، وبعد القراءة أخذني فضولي لتتبع بعض ما ينشر الدكتور محفوظ من بحوث ومقالات في المجلات والصحف – محلية وعربية - وفي مختلف العلوم الإنسانية؛ وما اثار اهتمامي، أكثر فالأكثر، رسالته لنيل الدكتوراه والمعنونة "المتنبّي وسعدي.. أثر الثقافة العربية في سعدي الشيرازي".
وهذا الكتاب هو دراسة مقارنة بين ثقافتين: الثقافة العربية من جهة، والثقافة الفارسية من جهة أخُرى، وفيه يبيّن الباحث تأثير المتنبي على الشاعر سعدي الشيرازي، وكيف أن سعدي اقتبس جُمل ومفردات كثيرة من المتنبي وصاغها في بعض أشعاره، واعتبرها محفوظ عمق الثقافة العربية بحيث وصلت ومن ثم اندمجت بعضها ببعض تلك الثقافات حتى أخذت عنها.
والعبقرية الفذة، هذه التي يتمتع بها محفوظ، هي ثقافة موسوعية امتازت بالعمق المعرفي والفلسفي، واستيعاب الأطر العامة بكل توسعها وتنوعها، حتى وصفه أحد الكتّاب بأنّه " كان عبقرية نادرة الوجود متعددة المواهب، أضاء بأعماله الفكرية والأدبية المختلفة دروب الباحثين وطلاب العلم بما قدمه من زاد فكري طيلة حياته الحافلة والتي أفناها في سبيل العلم وبها أثرى المكتبة العربية بتأليف ترفد أجيالاً وأجيالا وتلهمهم تراثنا الثقافي والتاريخي.. فقد كان العالم المتبحر والثقة الصدوق الذي تربع مكانه متميزة بين العلماء الأفذاذ".
لذا، نقول: حينما يموت العالم أو المُبدع والمفكر فإنه يترك بموته فجوة عميقة وفراغاَ هائلا لا يمكن ردمه. العالم لم يأت من فراغ والمبدع لم يجيئ اعتباطاً الى معركة الابداع وساحة النضال الفكري والنهضوي، وكذلك المفكر الذي صبّ جهوده الذهنية والعقلية ونال منه النصب والمعاناة والحرمان ما نال، وظل يكابد من أجل قضيته، متحدياً جميع المخاطر، حتى وصل إلى ما وصل اليه، ثم قدم العطاء ألثر الذي استنيرت به الأجيال وما زالت ترتشف من معينه العذب، ومنهم صاحب هذه السيرة الذي نستذكره في هذا المقال، وأعني به العلّامة حسين علي محفوظ، فرحيلة كان فاجعة كبيرة في الأوساط العلمية والثقافية والأدبية، على الرغم مما قدم من جهود استثنائية، من معارف وعلوم، وتخرج على يديه كبار الأساتذة، كما ألف كتبًا في الفلسفة وقضايا الدين والتاريخ والأدب والشعر والنقد، وغير ذلك.
كلمة لابد منها
عنما عملتُ في مجلس محافظة بغداد صحفيًا في جريدة "بغدادنا" وهي صحيفة أسبوعية تابعة لمجلس المحافظة، حيث كنت المحرر الثقافي، وكان من ضمن الكادر في قسم التحرير رشاد الابراهيمي، أبو عبد الرزاق (توفي هذا الرجل، رحمه الله، أثر اصابته بفايروس كورونا). وكان هذا الرجل قدم لدراسة الدكتوراه، كلية التراث، قسم التاريخ، وكان المشرف على الدراسة الدكتور حسين محفوظ، وكان الابراهيمي يحدثني كثيرًا عن محفوظ، من حيث أخلاقه وعلميته وقوة شخصيته وعن تواضعه الجم، وحتى عن أسرته وكيف أنه قبع في منزله معتكفا وبرفقة خادم يقضي له أموره، لأنّه عجز عن الحركة وكلّ بصره، وأنه كان يبكي كثيرًا حينما يتذكر زوجته التي رحلت عنه مبكرًا، وكان يقول أنه بأمس الحاجة اليها وهو بهذا العمر، وأمور كثيرة كان حدثني عليها المرحوم الابراهيمي، وقد نسيتها.

إهمال بلا مبرر
العلامة محفوظ، الذي رحل عن عالمنا هذا، وحين موته وُدع وداعاً بارداً لا يليق بمنزلته العلمية والأدبية والابداعية (وقد حضرت توديعه يومذاك)ُ وعرضت بعض الفضائيات مراسيم تشييع جثمانه على عجل واستحياء، وفضائيات أخرى لم تشير إلى رحيله إطلاقاً وغيرها أعلنت ذلك بخبر لا يتجاوز ثلاثة اسطر. والأشد من ذلك أّن كثيرًا من الناس لا تعرف إلا القليل عن هذا الرجل الذي نذر حياته وعمره الطويل الذي ناهز الـ (83)عامًا. وكل هذه السنين قضاها في الكتابة والبحث والغوص في امهات المصادر التاريخية والمراجع الفلسفية والأدبية والنحوية والفنية حتى كانت حصيلة ذلك مئات الكتب والدراسات، بين التأليف والتحقيق والتقديم، والتي، للأسف الشديد، لم تُنشر معظمها، والذي نشر فهو خارج البلاد ولا نعرف عنه شيئا.
وقد ذكرنا في الكتيب الصغير الذي خصصناه لمحفوظ، وقلنا بأنه همّش في زمن النظام السابق بعض الإهمال لقضايا سياسية. فقد كان له شهرة واسعة في الأوساط العلمية والمحافل الأدبية، فهو فوق كل هذا وذاك كان شاعرًا مبدعًا في القريض. تتلمذ على يديه عشرات العلماء والاساتذة والمبدعين، وكانت لهم لمسات واضحة من خلال أطروحاتهم ورؤاهم، مستلهمة من رؤى وافكار هذا العالم الكبير الذي خسرته الأوساط الثقافية بشكل خاص والناس بشكل عام .
أليس من عادة وسجية الأمم والشعوب أن تحتفي بمبدعيها وتحتفل بمفكريها وتفتخر بفلاسفتها وتقيم لهم صروحًا شامخة امتناناً واعتزازًا؛ وإسداء الجميل والعرفان لهؤلاء العظماء الذين خدموا شعوبهم ووصلوا بها الى مستوى الأمم الناهضة والشعوب المتقدمة. ونحن العرب نادرًا ما نهتم بمبدعينا ونسلط الضوء على مفكرينا ونفتخر بعلمائنا فنبحث في سيرهم ونقتبس من نورهم، وهذه مثلبة تحسب علينا (خصوصًا في عهد الإسلام السياسي). واذا كانت بعض الدول العربية لديها اهتمام بالمبدعين والمفكرين، فنحن في العراق اقل من يهتم بهذا المعترك ونشكل جزءا ولو يسيرا قياسًا بالشعوب العربية ومنها جمهورية مصر العربية. فحينما رحل الروائي المصري نجيب محفوظ سلت جميع الأقلام وجندت كثير من الفضائيات فضلاً عن الصحف ووسائل الإعلام الأخُرى، تسليط الأضواء على سيرته واستعراض كتبه وتحليل شخصيته، وما اضفى على النتاج العربي من إبداع ورونق قد استحق أن نال بها جائزة نوبل العالمية، وقد كان اول أديب عربي ينال هذه الجائزة.
المشكلة لدينا، أنّ المبدع بكل اشكال الابداع دائمًا ما يُحسب على جهة ما، سواء كانت طائفية أو حزبية أو ايديولوجية، وعندما يرحل هذا المبدع الى العالم الآخر ويودع عالمنا هذا، فأن كثيرًا من الناس ومن المثقفين يعدون هذا الرحيل خسارة لتلك الجهة التي حسب عليها ظلمًا وعدواناً، لا خسارة للعراق، لأن المُبدع هذا قطعًا كان يعمل للعراق والشعب العراقي، والدليل أن أعماله تشيد بالعراق وتؤرخ له، وتشير الى قدم حضارته وعمق ثقافته. واذا كان هذا كذلك، فمن الخطأ أن نحسب المبدعين ونعدّهم بانهم كانوا يعملون لجهة دون أخُرى، إذ أن معظم المبدعين العراقيين، ولاسيما الذين غادروا الحياة لو أردنا أن نستعرض نتاجاتهم، وندرس أعمالهم، ونحصي ما تركوه في ساحة الابداع من اعمال فنية وفكرية لوجدنا معظمها يصب في مصلحة العراق والإنسانية جمعاء.
الميزة التي ميزت محفوظ عما سواه هو قد جمع بين الدراسة الاكاديمية فنال الدكتوراه، وبين الدراسة الدينية، في الحوزة العلمية في النجف، فنال الاجتهاد، قد اعترف باجتهاده بعض اساتذة الحوزة في النجف، وهذه قضية معروفة لا يختلف عليها اثنان.

الألقاب استحقها محفوظ

لقُب محفوظ كثير من الألقاب العربية والعالمية. فقد لقبه بعض المختصين في أوروبا بـ"الموسوعة المتحركة" وسنة 58 أعطته جامعة لينغراد (بطريسبورغ) لقب استاذ المستشرقين. كما نال جائزة احسن كتاب العام 1958...كذلك نال الجائزة العالمية للكتاب سنة 2005.وغير ذلك كثير.
لكن لقب (شيخ بغداد)كانت من احب الالقاب الى نفسه ويعتز به كثيرًا. وقد شكا من اهمال المسؤولين له وعد ذلك تهميش مقصود، وعندما زاره وزير التعليم العالي والبحث العلمي امر له بالمنحة 300الف دينار عراقي، الا ان محفوظ وزعها الى الفقراء قبل ان تصل جيبه، لأن نفسه ابية وكريمة، وعندما فعل ذلك كأنه غاضب على المسؤولين.
قبس من حياته
وُلد العلامة محفوظ سنة 1926 في مدينة الكاظمية ببغداد، حتى ترعرع واشتد عوده فيها ،فدخل المدرسة واكمل الابتدائية فالمتوسطة ثم الاعدادية والجامعة بين الكاظمية وبغداد، أمّا الدراسة العليا فكا نت في إيران والاتحاد السوفيتي. وهو من أسرة علمية عريقة في مدينة الكاظمية، تعرف بآل محفوظ وتنتمي لقبيلة بني أسد العربية. عشق محفوظ بغداد عشقاً جماً وذلك واضحًا عبّر العديد من دفاعاته البحثية والتأليفية سواء في كتبه أو مقالاته، والمحاضرات التي القاها في المؤتمرات والندوات العلمية، الأمر الذي جعل من هذه المواد زادا قيما للباحثين والكتاب والدارسين في بغداد عن تاريخها وتراثها .وكتب عن مدينة الكاظمية وعن تاريخ نشأتها.
وليس هذا فحسب، بل يُعد محفوظ من اعمدة المجالس الادبية والثقافية البغدادية، ومنها الخاقاني، السيد هبة الدين الشهرستاني، منتدى بغداد الثقافي، منتدى الربيعي، منتدى الصفار...الخ.
وكانت له اسهامات عديدة في الصحف والمجلات المحلية المختلفة والعربية كذلك. ويعد مرجعًا في الانساب وهو مهتمًا كثيرًا في التراث الإسلامي. وقد عاصر عالم الاجتماع الدكتور علي الوردي، وقيل انه يقرب اليه بصلة قرابة. وحينما سُأل، قبل رحيله بأيام، عن عالم الاجتماع علي الوردي فقال: "عند الوردي خصلة اتمنى ان يمتلكها الجميع وهو انه لا ينزعج من النقد ولا يكره أحدًا بل كان يفرح عندما ينتقده أحد...فهو كان مؤمنًا قطعًا... لكنه يتجاوز الولاء للهويات الضعيفة".


*داود السلمان
*داود السلمان








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نتنياهو: حماس تمارس إبادة جماعية ورفضت جميع المقترحات المتعل


.. الدكتور مصطفى البرغوثي: ما حدث في غزة كشف عورة النظام العالم




.. الزعيم كيم يشرف على مناورة تحاكي -هجوماً نووياً مضاداً-


.. إيطاليا تعتزم توظيف عمال مهاجرين من كوت ديفوار وإثيوبيا ولبن




.. مشاهد جديدة وثقتها كاميرات المراقبة للحظة وقوع زلزال تايوان