الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخوف من التقدم

شريف حتاتة

2022 / 12 / 15
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية


-----------------------------------
استيقظت على صراخ امرأة يرتفع فى ظلام الليل حادا ، متصلا يتكرر على نفس الوتيرة دون تغيير . انتظرت راقدا تحت الغطاء ، ظننت انه سينتهى بعد قليل .. مشاجرة من تلك المشاجرات التى تنفجر فى أى من شقق العمارة بين الحين ، والحين . لكن صراخها استمر رفيعا ، مفزعا ، مشحونا بألم فظيع ، كأنه يصدر عن حيوان جريح يعانى من عذاب وصل إلى أقصاه ، ولم يبق بعده سوى الانفجار الأخير .
تسللت إلى رهبة المجهول لا أعرف أبدا ما يمكن أن يختزنه لى . من الأفضل أن أبقى هكذا راقدا فى السرير . ما شأنى أنا ، وشأن هذه المرأة تصرخ فى ظلام الليل ؟. ترى ما الذى يعذبها إلى حد الصراخ كأنها فى الجحيم ، وما هذه الأصوات الرجولية ترتفع متعجرفة ، زاعقة ، تريد أن تسكت صراخ الضحية ؟.
قمت من رقدتى واضأت مصباح السرير . ألقيت نظرة على الحجرة بدت خالية ، موحشة بالنسبة إلى . أدركت أن " نوال " سبقتنى لتلحق بالمرأة الصارخة فى الليل . الصالة مضاءة ، وباب الشقة مفتوح ، كأنها فقدت الحرص الذى اعتادت عليه .. الآن توقف الصراخ ، والزعيق ، وحل محله صمت ثقيل .
هبطت على سلم العمارة ، أبوابها كلها مغلقة على منْ فيها . وصلت الى الدور الرابع . جاءنى شىء كالبكاء الأنثوى المكتوم . لمحت بابا مفتوحا ، وامرأتين بدا لى قوامهما طويلا. إحداهما شابة ممشوقة والأخرى حول رأسها منديل . وجهها شاحب ، نحيل ، ترتدى فستانا وردى اللون ، وخفا مطاطيا كبيرا حول قدميها ، يبدو أنها ارتدته فى عجلة دون أن تنتبه إليه .
سمعتها تقول للشابة فى صوت مرتعش :
جسمها كله أتفحم يا نيفين .
تنبهت إلى " نوال " ، تقف إلى جوارها وتربت عليها ، وفى وجهها أسى العاجز عن فعل شىء . فى أنفى رائحة حريق . وقفت مترددا وبدأت أدرك ماذا حدث .. اقتربت " نوال " وهمست لى : " دى أمها قفلت باب المطبخ وولعت فى نفسها ... ما تدخلش المنظر فظيع ".
أبواب الشقق مازالت مغلقة على نفسها . صعدنا إلى شقتنا ، وأغلقنا بابها علينا . هذه المرأة المجهولة لا نعرفها ، ولا نعرف عن أسرتها شيئا . فتحنا نافذة حجرة النوم المطلة على الشارع الرئيسى . أسفل العمارة سيارة إسعاف ، وسيارة حريق . عدنا إلى داخل الحجرة ، وجلسنا على السرير . وجه " نوال " شاحب ، وأصابعها فى يدى باردة كالثلج تحتمى فيها . قالت : " لم تكن كبيرة . لاتقبل على شىء كهذا سوى امرأة مازلت فيها قدرة على الجنون ، والتضحية بكل شىء . حياة النساء فظيعة ".
****************************
فى اليوم التالى جلست على مكتبى أتصفح الجرائد . لفت نظرى تصريح عن تيار فى الحركة النسائية ، يطلق عليه بعض المثقفين من الرجال والنساء تعبير النسوية . وكلمة النسوية هذه يقصد بها ، تيار فى الحركة النسائية موجود فى الغرب يعتبر أن المعركة الأساسية للمرأة هى معركة ضد الرجل للحصول على المساواة بينهما داخل الأسرة ، وخارجها ، أى فى البيت وفى العمل ، وفى مختلف المجالات الاقتصادية ، والاجتماعية .
هذا التيار يتكون أساسا من نساء بيض ينتمين إلى الطبقة المتوسطة ، أى إلى المراتب الاجتماعية المتميزة ، لكنهن يعانين من التفرقة بينهن ، وبين الرجل ، فى حياة الأسرة ، وفى العمل ، وفى الحقوق الاقتصادية ، والسياسية ، والاجتماعية ، رغم التقدم الذى أحرزنه فى حياتهن . ولذلك فالصراع الذى تخضنه للحصول على المساواة مع الرجل ، مشروع إلى حد كبير ، وله ما يبرره من وجهة نظر العدالة فى المعاملة . والنسوية من هذا المنظور حركة متقدمة ، لأنها تسعى إلى معالجة جانب من جوانب التفرقة الإنسانية المرتبطة بالبعد الأبوى للاستغلال فى المجتمع ، وإلى معالجة الخلل القائم فى العلاقات بين الرجل ، والمرأة والوضع المتدنى الذى تعانى منه .
هذا الاستغلال الأبوى عانت منه المرأة منذ قديم الزمان ، وصارعت ضده دون أن تعى جذوره ، و آثاره فى الحياة ، وفى المجتمع ، ودون أن تتولد عن صراعها حركة نسائية واعية ، ومتبلورة إلا فى العقود الأخيرة من تاريخها .
لكن هذا التيار النسوى لا يهتم ببعد آخر مهم ، وهو ما يسمى بالبعد الطبقى . فالمرأة فى المجتمع لا تعانى فقط من انعدام المساواة بينها وبين الرجل . وإنما تعانى أيضا من جميع المشاكل التى يعانى منها الرجل . تعانى من الاستغلال الاقتصادى والفقر ، ومن غياب الديمقراطية ، ومن عدم المشاركة فى اتخاذ القرارات وتنفيذها . وهذان النوعان من القهر الأبوى والطبقى ، مرتبطان أشد الارتباط ، ولا يمكن التخلص من أحداهما دون الآخر ، كما لا يمكن الصراع ضد أحدهما دون الآخر . وهكذا فان الرجل والمرأة ، متضامنان فى الصراع ضد الاستعمار الجديد فى سبيل الحقوق الوطنية ، وضد جميع أشكال الاستغلال فى سبيل إقامة مجتمع ديمقراطى متقدم .
والتيار النسوى يمثل رافدا من روافد الحركة النسائية ، حيث توجد روافد أخرى لا تهمل البعد الطبقى ، وتعمل مع النساء الفقيرات أو السود ، أو نساء الأقليات ، وتتضامن مع الحركات النسائية فى بلاد الجنوب . وهى تقف ضد الاستعمار الجديد ، ومع نزع السلاح بما فيه السلاح النووى ، وضد الحرب ، من أجل سلام عادل بين كل الشعوب . وهناك درجات من الوضوح والوعى تختلف وتتباين فى صفوف الحركة النسائية ، التى تعتبر حديثة النشأة مقارنة بالحركات التقدمية الأخرى ، ومن المهم عدم أخذ مواقف جامدة منها حتى يتزايد التضامن ، والتفاهم المتبادل بين مختلف تياراتها . فمعركة النساء صعبة ومعقدة ، والمعارضون لها عن وعى أو بغير وعى ، يشكلون قوة ضخمة لها تاريخ قديم متأصل ، فى حرمان المرأة من حقوقها .
أما فى بلاد الجنوب ومنها مصر ، فتظل الاتجاهات النسوية ، محدودة النطاق، والخطر الحقيقى يأتى من تجاهل قضية المرأة وطمسها ، وإضعافها ، والازدراء بها والتقليل من شأنها بمختلف الحجج الدينية أو الوطنية ، أو التراثية ، أو بحجة مقاومة تغلغل الثقافة الغربية إلى صفوفنا . لذلك يبدو لى غريبا أن يتردد ذلك الحديث المتكرر عن النسوية فى بلادنا ، وكأنها الخطر الأكبر . بينما ما نشهده اليوم ، هو هجوم سلفى خطير على المرأة ، وعلى كل ما يتعلق بحقوقها كانسان ، وحتى على بعض المكاسب التى نالتها . هجوم أصبحت تشارك فيه قطاعات واسعة من المجتمع . يجد تشجيعا فى كثير من الأوساط الحاكمة المهيمنة على الدولة ، ومؤسساتها وعلى وسائل الإعلام ، والتعليم والثقافة ، وغيرها . هجوم يشارك فيه الاستعمار الجديد بوسائل أخرى ، تهدف إلى تحويل المرأة إلى أداة للجنس ، والاستهلاك فى السوق الدولى . فالتيارات السلفية ، وتيارات ما بعد الحداثة التى يتبناها راس المال الدولى ، تلتقى فى اعتباره المرأة جسدا بلا عقل ، يغطى أو يعرض عاريا .
إن الحديث عن النسوية فى رأيي ، يدل فى كثير من الأحيان على الاستمرار فى التأثر بفكر رجولى متخلف ، يوجد حتى فى صفوف الذين ينادون بالتقدم ، بعقلية الرجال القائمين على شئون الاقتصاد والسياسة والاجتماع فى بلادنا ، المشاركين فى تسيير أمور السلطة ، والأحزاب بمختلف اتجاهاتها . أو يدل على غياب الإدراك الحقيقى بأهمية قضية نصف المجتمع أو أكثر ، أى أن قضية المرأة كجزء من قضية الوطن وبنائه ، وكقضية لها ذاتيتها الخاصة فى أدق تفاصيل حياة الأسرة ، وأكبرها ، وفى كل ما يتعلق بالمجتمع ومستقبله . إن الاهتمام بقضية المرأة جزء من إصرارنا على ألا يظل المجتمع أعرج ، كالذى يسير على ساق واحدة دون الأخرى ، ثم يظن أنه يستطيع أن يدخل فى سباق العصر ، وأن يتغلب على التخلف .
إن المرأة شأنها شأن الطبقات والفئات الأخرى مثل العمال أو الفلاحين ، أو المهنيين ، أو المثقفين ، لها أهمية كبيرة فى مستقبلنا ، فى وحدة الصفوف وتعاونها من أجل حياة اخرى ، لا نشم فيها رائحة جسد المرأة يحترق فى ظلام الليل، لأنها ُقهرت طوال حياتها .
إن التغاضى عن هذه القضية المهمة ، هو خضوع للابتزاز الواقع على المجتمع كله . يتخذ أشكالا مختلفة ، ومنها الحديث عن الخطر النسوى ، ذلك الابتزاز الذى تمارسه كل القوى السلفية فى المجتمع بمختلف فروعها ، ويجعل المرأة ويجعلنا معها ضحية . هو الخوف بعينه ، أو الانتهازية التى تسربت إلى حياتنا .
الخوف هو العدو الأول لكل تقدم .
من كتاب " فى الأصل كانت الذاكرة " 2002
-----------------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الأميركية تعتقل عدة متظاهرين في جامعة تكساس


.. ماهر الأحدب: عمليات التجميل لم تكن معروفة وكانت حكرا على الم




.. ما هي غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب؟


.. شرطة نيويورك تعتقل متظاهرين يطالبون بوقف إطلاق النار في غزة




.. الشرطة الأرمينية تطرد المتظاهرين وسياراتهم من الطريق بعد حصا