الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
نيتشه والعمل في المجتمع الحديث: هذه -النقيصة- في عصرنا الحالي (الجزء السادس)
أحمد رباص
كاتب
(Ahmed Rabass)
2022 / 12 / 19
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تفتضي مواصلة الحديث عن هذا الموضوع تناول إشكالية تحددها العلاقة القائمة بين العمل والراحة (utium) والثقافة الراقية، فنقول: يتم الجمع بين النقد الفني للرأسمالية، عند نيتشه، مع التعارض المنهجي بين العمل ووقت الفراغ، ليس بمعنى الترفيه بل بمعنى الأوتيوم . ومن الجدير بالذكر، في هذه النقطة، أن ضد المصطلح اللاتيني otium هو neg-otium؛ أي الأعمال .
يدين نيتشه، كما رأينا في القسم الأول من هذه الدراسة، بانتظام الحماسة للعمل نظرا لتأثيره على العقل ووقت الفراغ. كما أنه يعتبر العمل الجسدي - أو على الأقل بعض أشكال العمل الجسدي - "مرهقا". ومع ذلك، وبسبب انعكاس القيم، فإن "العمل" الذي "كان شيئا حقيرا" أصبح ذا قيمة اجتماعية.
يقول نيتشه: "لم يعد لدينا الوقت أو القوة للاحتفالات، للانعطافات نحو اللطف، وللفكر أثناء المحادثة، وللأوتيوم بشكل عام،". بعبارة أخرى، فإن اختفاء الأوتيوم، بمعنى الترفيه التثقيفي، يولد وفقا لنيتشه شكلاً من أشكال الانحدار الثقافي والحضاري.
يتميز اللوتيوم بالفعل، وهذا منذ كتابه الحامل لعنوان "Considérations Inactuelles"، بكونه يتصدر ولادة كل الأشياء الرائعة والجميلة ، أي ما يساهم في ظهور "الثقافة الراقية (كروليك،2001، 307).
هكذا نكتشف تماما المضمون الأرستقراطي لنقد نيتشه، من حيث أنه، أولاً، يحكم على الثقافات بواسطة مقياس محدد من القيم، في حين أن الاتجاه الخاص بالحداثة، كما تشهد على ذلك بعض السوسيولوجيات، هو على عكس النسبية الثقافية.
ثانيًا، تظهر أيضا السمة الأرستقراطية لفكره عندما يُظهر كيف أن الأوتيوم ليس أو لا يمكن - بله لا ينبغي - إلا أن يكون امتيازا لشخص ما فقط - امتيازا وأرستقراطية يتحددان بشكل متبادل في الفكر الحديث.
في الفقرة التي تحمل عنوان "الحضارة والطبقة الاجتماعية"، يكتب نيتشه قائلا: "لا يمكن أن تنشأ حضارة متفوقة إلا عندما تكون هناك طبقتان متميزتان في المجتمع؛ هما طبقة العمال وطبقة المتعطلين القادرين على قضاء وقت فراغ حقيقي؛ أو بعبارات أقوى، طبقة العمل الشاق وطبقة العمل الحر".
يبدو أن مدح الحياة التأملية يرافقه عند نيتشه نقد للطبقة العاملة غير الصالحة لقضاء وقت الفراغ. وهكذا يمكن للمرء أن يعتقد أنه يمتدح الكسل من خلال مقابلة العمال بالمتعطلين، ويكون بالتالي على طرفي نقيض من أحكام فيبلن المذكورة سابقا.
ومع ذلك، فإن الفارق المهم عند نيتشه هو ذلك الذي يقابل "العمل الشاق" ب"العمل الحر" . هذا ما لم يره بعض الماركسيين وما دفعهم إلى تصنيف نيتشه ليس فقط على أنه "متمرد أرستقراطي" (لوسوردو، 2002) ولكن أيضا باعتباره رجعيا (لوكاتش، 1943). وعندما يشير هذا الأخير إلى أن الحداثة تستلزم، من وجهة نظر نيتشه، "تقليد أوروبا" ، يقدم تأويلا يبدو مبررا تماما. وبنفس الطريقة، يلخص على أتم وجه فكر نيتشه بالإشارة إلى أنه يستنكر "اللامبالاة العميقة تجاه جميع القيم" التي تصاحب "القضاء على عدم المساواة" (لوكاتش، 1943).
غير أنه من المشكوك فيه أن هدف نيتشه، كما يؤكد لوكاتش، كان هو "شرح التقسيم الاجتماعي للمجتمع إلى طبقات اجتماعية من خلال قوانين الطبيعة "البيولوجية الأبدية" (نفس المرجع، 33).
بالنظر إلى موضوع العمل، تمكنا من ناحية من رؤية أن نيتشه يفسر سلوك الطبقات الاجتماعية المختلفة على الرغم من أنه لا يقدم تفسيرا لهذا التقسيم الطبقي. من ناحية أخرى، لا يمكن للمرء أن يعتبر أنه يبرهن من منظور القوانين البيولوجية، حتى لو استخدم مصطلح العرق - كما يوضح المثال التالي: "الثروة تنتج بالضرورة أرستقراطية عنصرية". ذلك أن بقية حجاجه ليست سوى تفسير سوسيولوجي لإعادة الإنتاج الاجتماعية، وهي ليست أبدية، كونها عرضية بالضبط..
يعتبر نقد نيتشه أرستقراطيا على وجه الخصوص لأنه يرفض العمال والبرجوازيين على التوالي، بينما يدعو إلى شكل جديد للإنسان قادر على قضاء وقت فراغ لائق. وبهذا المعنى، فإن موقف الاقتصاديين مثل كينز أو جالبريث يذكرنا مرة أخرى بموقف نيتشه الذي لا يستنكف عن اللجوء إلى أحكام القيمة، بل على العكس تماما.
يتضح الجانب الأرستقراطي من فكر كينز بشكل خاص في كتابه "الآفاق الاقتصادية لأحفادنا"، حيث يقول: "ربما يقدم رجال المال النشيطون والحازمون على ان يجرونا جميعا معهم إلى حضن الوفرة الاقتصادية. ولكن سيكون الأشخاص الذين يعرفون كيفية الحفاظ على فن العيش ورعايته إلى حد الكمال، والذين لا يبيعون أنفسهم من أجل الكفاف، هم الذين سيتمكنون من الاستمتاع بالوفرة عندما تأتي".
إن إدانة العمل الشاق كنشاط مزدر والثناء على شكل معين من أوقات الفراغ تذكرنا أيضا بمضمون النقد الرأسمالي لكاتب رئيسي آخر في تاريخ الفكر الاقتصادي: ثورستين فيبلن، أحد الآباء المؤسسين للنزعة المؤسساتية الأمريكية التاريخية.
مثل نيتشه، يسخر فيبلن (1899)، بعد مرور عشر سنوات على الأول، من المحاولة البرجوازية التي تتمثل في تزيين نجاح المرء بذوق الثقافة. ومثل نيتشه، يستنكر فيبلن عدم أخلاقية وعدم جدوى الإنفاق البرجوازي. مثل نيتشه دائما، يعتبر فيبلن أن العمل في عصر قوى الصناعة الكبرى "طريقة تفكير ضيقة وميكانيكية". مثل نيتشه مرة أخرى، يلاحظ فيبلن انعكاس القيمة الذي حدث في زمن الحداثة فيما يتعلق بالعمل.
وتعليقا على نظريته الشهيرة حول طبقة المترفين، لاحظ جالبريث: "في الحضارات البدائية، يرتبط العمل، في العادات العقلية للرجال، بالضعف والخضوع للسيد. ولذلك فهو علامة على الدونية، غير جديرة بإنسان في حالة جيدة. لكن المدرسة التقليدية منحت للعمل هالة العمل الشريف. لم يقدم فيبلن على هذا التنازل حتى".
وهكذا، رأينا أن النقد الأرستقراطي لنيتشه يمكن تعريفه على أنه مطلب لثقافة راقية مرتبطة بازدراء معين للمهام الدنيئة. إنه نقد للأعراف الحديثة.
إلى جانب ذلك، وجدنا اسذكارات لما يسمى بالنقد الأرستقراطي لدى بعض الكتاب العظماء في تاريخ الفكر الاقتصادي، مثل فيبلن وكينز وجالبريث. ثم أدركنا بعد ذلك تماما ما الذي يجعل هؤلاء الاقتصاديين، وخاصة نيتشه، في تعارض مع ماركس.
بكل تأكيد، يقوم مؤلف كتاب "رأس المال" بمعاينة مماثلة مفادها أن العمل له مركزية أساسية. لكن جوهر نقده للرأسمالية الحديثة، وتجاوزها المحتمل، يقع على وجه التحديد في مسألة العمل وعلاقات الإنتاج، في حين أن الجانب الأرستقراطي لنقد نيتشه، مثل نقد فيبلن وكينز وجالبريث، يسعى للتأكيد على أهمية شكل معين من الثقافة خارج مسألة العمل والمنطق الاقتصادي والنفعي.
وبقدر ما يعلق جزئيا الإشكالية الاقتصادية الأساسية للعيش لاستبدالها بمشكلة الثقافة، يمكن أن يُنظر إلى نيتشه بحق على أنه نخبوي. لأنه - مسألة تافهة ولكنها حاسمة - من ينتج إذا كان جميع الأفراد مهتمين أو يجب أن يهتموا، أو يكرسوا أنفسهم للثقافة، التي تتطلب وقت فراغ بالمعنى القوي للوقت غير المقيد؟
تقودنا هذه الإشكالية إلى واحد من أكثر الموضوعات إثارة للجدل في عمل نيتشه؛ ألا وهو موضوع العبودية، وهو الموضوع الذي يعتمد عليه الماركسيون في رفضهم لفلسفة نيتشه (رينو 2004).
(يتبع)
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. الاحتلال الإسرائيلي يغلف عدوانه على غزة بأردية توراتية
.. بالأرقام.. كلفة قوات الاحتياط بالجيش الإسرائيلي منذ بدء الحر
.. تزوجتا من شخص واحد.. زفاف أشهر توأم ملتصق من جندي أميركي ساب
.. لحظة اقتحام القوات الإسرائيلية بلدة المغيّر شمال شرق رام الل
.. نساء يتعرضن للكمات في الوجه من شخص مجهول أثناء سيرهن في شوار