الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكومة نتنياهو الجديدة تُسيِّس الجيش وتهدد أمن إسرائيل

نهاد ابو غوش
(Nihad Abughosh)

2022 / 12 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


لعب الجيش الإسرائيلي والمؤسسات الأمنية المرتبطة به دورا مركزيا في حياة "إسرائيل" منذ إنشائها في العام 1948. فلهذا الجيش، بحكم حجمه ومكانته ودوره الموضوعي والميزانيات التي يحظى بها، مجموعة من الأدوار المتداخلة السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية وحتى الثقافية. لكن كل ذلك بات عرضة لتأثيرات تهدد قدراته وطابعه المهني المتخصص واستقلاليته النسبية عن السياسة والأهواء الحزبية، في ضوء صعود قوى اليمين المتطرف في إسرائيل، وانتقالها من هامش الخريطة السياسية إلى مركزها المؤثر. كما تجلى في الاتفاقات الائتلافية التي أبرمها رئيس الحكومة المكلف بنيامين نتنياهو مع قادة اليمين الفاشي، والتي بموجبها سيتسلم ممثلو القوى الأكثر تطرفا مسؤولية بعض المواقع الأمنية الحساسة بما فيها وزارة الأمن القومي التي تشرف على جهاز الشرطة، وصلاحيات الإشراف على الاستيطان والعلاقة مع الفلسطينيين، كما أن القوى الدينية المتزمتة مثل حزبي "شاس" و"يهدوت هتوراة" التي يتهرب منتسبوها من التجنيد سوف تكون في الموقع الذي يقرر مصير الجيش وأحواله وهي أبعد ما تكون عن تفهم احتياجاته.
على امتداد تاريخه، كان الجيش بمثابة المعهد الأبرز لتخريج قادة المجتمع الإسرائيلي في شتى الحقول والميادين، متفوقا على قطاع الأعمال والهيئات الأكاديمية (مع أن الجامعات الإسرائيلية تحظى بمراتب مرموقة عالميا). ومن الأقوال التي تتردد عن مكانة هذا الجيش عبارة " أن لكل دولة جيشا، بينما توجد للجيش الإسرائيلي دولة".
من الصفوف العليا لهذا الجيش يأتي السياسيون من وزراء ونواب وسفراء وقادة أحزاب، ومدراء شركات ورؤساء بلديات، وحتى الإعلاميون والمحللون السياسيون الذين يُطلّون على ملايين الإسرائيليين كل ليلة يأتي معظمهم من دوائر الأمن والاستخبارات.
يبدو الجيش الإسرائيلي مثل قاطرة تقود المجتمع بأسره، ويلعب دورا داخليا ودوليا مشتقا من الدور الوظيفي الموكول لدولة إسرائيل نفسها، وبالتالي فإن دوره لا يتعارض مع مصالح باقي قطاعات المجتمع الصهيوني، كما هي حال الطغم العسكرية الحاكمة، بل يتكامل معها. ولا يقتصر دوره على حماية هذا المجتمع الغريب عن بيئته ومحيطه من التهديدات والأخطار الوجودية المحدقة. بل يكتسب أهميته أساسا من الطبيعة العدوانية والتوسعية لدولة إسرائيل، ودورها في حماية المصالح الاستراتيجية للغرب في المنطقة، فالجيش الإسرائيلي هو اليد الطولى التي يمكنها أن تضرب أي هدف معادٍ سواء في فلسطين وسوريا ولبنان والأردن، أو، كما وقع فعليا، في تونس والعراق وأوغندا والسودان، وكما أن أذرعها الأمنية ضربت في باريس وروما واثينا وبروكسل ودبي وماليزيا وغيرها. وهذا الجيش لا يتورع عن الجمع بين كل أشكال القتل من الأسلحة الأكثر فتكا وتطورا في المنطقة وتشمل قدرات الردع الناشئة عن نحو مئة رأس نووي، وسلاح جوٍّ هو الأقوى خارج الدول العظمى، وغواصات نووية، إلى أدوات القتل البدائية كالاسلحة البيضاء والتسميم وإحراق الأسرى، وصولا إلى المجازر التي كانت وما زالت من أبرز أدوات السياسة الإسرائيلية. وإذا كانت الحروب قدرا لا بد منه للدفاع عن الذات والوجود، فقد باتت قدرات الجيوش المقرونة بالصناعات العسكرية المتقدمة من الأدوات السياسية للهيمنة وتوسيع النفوذ الخارجي، وتقديم عروض الحماية والاتفاقيات الأمنية التي توفرها إسرائيل مع دول وأنطمة عديدة في شتى أرجاء المعمورة.
الأدوار المركزية التي يقوم بها الجيش أهّلته لتولي المسؤولية عن قطاعات لا علاقة لها بالشأن العسكري، وقد ورد في تقرير لمراقب الدولة أن نحو 80% من أراضي الدولة تخضع لإشراف الجيش الإسرائيلي، والذي بدوره يخصص نحو نصف هذه المساحة لأغراضه العملياتية من معسكرات وميادين تدريب ومخازن ومنشآت سرية وما شابه ذلك، ويخضع استخدام المساحات الباقية من قبل القطاعات الأخرى لقيود مشددة يفرضها الجيش، في ظل شحّ الأراضي المخصصة للصناعة والزراعة والعمران، وصغر مساحة فلسطين التاريخية التي يقل الجزء المحتل منها عام 1948 عن 21 ألف كيلومتر مربع.
يُنظر للجيش عادة بوصفه الأداة القومية الكبرى التي تساهم في خلق الإنسان الإسرائيلي الجديد، أي الصهيوني الوطني الذي يقضي أجمل أيام حياته وشبابه في الجيش. ففي ضوء فشل نظرية "بوتقة الصهر" التي راهن عليها دافيد بن غوريون ومفادها أن أجهزة الدولة ومؤسساتها سوف تخلق الإسرائيلي الصهيوني بديلا للهويات المتنافرة التي ينحدر منها المهاجرون، بات ينظر للجيش بوصفه العنوان الجامع ومحل الثقة الذي يقوم ببناء شخصية الإسرائيلي الجديد بشكل طوعي، ومن دون وسائل إكراه قسرية وعنصرية كالتي حاول بن غوريون وأجهزته استخدامها في الخمسينات فانفجرت نتائجها في وجوههم في الستينات عبر احتجاجات اليهود الشرقيين.
من اللافت تبوّؤ الجيش الإسرائيلي مكانة ريادية متميزة في الاقتصاد الإسرائيلي وطفرات الانتعاش التي شهدها في السنوات الأخيرة نتيجة نموّ القطاعين المتداخلين والأكثر ارتباطا بالجيش وهما التقنية العالية (الهاي تك) والصناعات العسكرية، وهما قطاعان حاضران بقوة كمُكّون رئيسي في كل من صادرات السلع والخدمات. جدير بالذكر أن إسرائيل التي عملت على خصخصة جميع مرافق القطاع العام بما فيها المواصلات والاتصالات والموانئ وخدمات المياه والكهرباء وحتى شركات الأمن والحراسة، ما زالت تتمسك بملكية الدولة وإشرافها على أهم شركات ومراكز الصناعات العسكرية بما فيها الصناعات الجوية والخدمات الأمنية، حيث يلعب الجيش دورا مركزيا في إدارة الاقتصاد سواء من خلال خبرائه وإداراته العليا أو مراكز البحث والتطوير التي يديرها، ومن خلال ضباطه المتقاعدين الذين ينهون خدمتهم في سن مبكرة (الأربعينات) وتجذبهم الصناعات العسكرية برواتبها المغرية، ويأتون هم بخبراتهم الغنية وتجاربهم "الميدانية" التي اكتسبوها من خدمتهم العسكرية.
يُخَصّص لوزارة الدفاع نصيبُ الأسد من موازنة إسرائيل لعام 2022 بمبلغ يزيد عن 21 مليار دولار ( 73.3 مليار شيكل) متقدمة على وزارة التربية (69.7 مليار شيكل) والصحة (44.8 مليارا) وحصلت باقي الوزارات الخدمية على مخصصات أقل من ذلك بكثير. ويتمتع الجيش كذلك بمكانة مرموقة لدى الجمهور، ففي استطلاعات دورية يجريها المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، يتبين الانخفاض المطرد لثقة الجمهور بمؤسساته العامة، جميع المؤسسات تقل ثقة الجمهور بها عن 50%، ما عدا الجيش الذي يحظى بنسبة ثقة 78%، بينما لا تزيد ثقة الجمهور بالحكومة عن 27% والشرطة عن 33.5%، والمحكمة العليا 48% والأحزاب عن 10%. ومع ذلك مثلت نتائج هذا الاستطلاع انخفاضا ملموسا عن استطلاعات سابقة كانت تعطيه أكثر من 90% ، وما يمكن استنتاجه من ذلك أن الجيش بات يدفع فاتورة الخلافات السياسية وهو الأمر المرشح للاتساع مع تنصيب حكومة نتنياهو – بن جفير- سموتريتش.
حافظ الجيش الإسرائيلي تاريخيا على قدر عالٍ من المهنية (بالمنظور الصهيوني وليس المطلق)، واستقلالية نسبية عن المنازعات الحزبية، صحيح أنه دائما توفرت ميول سياسية وحزبية في تعيينات المناصب العليا في الجيش والأجهزة الأمنية، لكنها ظلت محدودة في تأثيرها على مهنية الجيش واستقلاليته، إلا في السنوات الأخيرة، وخصوصا في فترة ولاية نتنياهو الخامسة (2019-2021) حين اصطدم الأخير مع الشرطة وحاول التأثير على تعيين كبار المحققين لكي يتملص من المحاكمة، واصطدم كذلك مع رئاسة أركان الجيش التي كبحت اندفاعه لشن حرب على غزة لأهداف ومآرب شخصية تتصل بشعبيته في الانتخابات.
لكن كل التقديرات تشير إلى أن حكومة نتنياهو الجديدة وتحالفه مع قوى اليمين المتطرف سوف تعمل على تسييس الجيش والشرطة، وإخضاعهما للحسابات والمصالح الحزبية لأطراف الائتلاف الحكومي مما سيقود إلى تحطيم القواعد التي بني عليها الجيش منذ 75 عاما، وبالنتيجة إلى إضعاف الجيش والأجهزة الأمنية والدولة. وبحسب بيني غانتس وزير الأمن في الحكومة المنتهية ولايتها فإن نتنياهو سوف يبني جيشا خاصا لايتامار بن جفير، وهو يقصد إضفاء الشرعية والصفة الرسمية على ميليشيات هي أشبه بالعصابات يقودها أنصار بن جفير وسط المستوطنين، وسوف يعاد تنظيمها وتسميتها بالحرس الوطني.
عموما وقبل نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، كشفت تطورات الصراع مع الفلسطينيين والعرب مزيدا من العيوب والثغرات في تركيبة الجيش الإسرائيلي وبنيته القادرة على إلحاق الهزيمة بجيوش نظامية ودول، ولكنها ظلت عاجرة عن توفير الأمن الشخصي للإسرائيلي علاوة على فرض الاستسلام على الفلسطينيين. كما تشكل أنماط التهديدات الجديدة مثل الحروب السيبرانية، والتكنولوجيا المستخدمة في الطائرات المُسيّرة والصواريخ الدقيقة تحديات يصعب حسمها بسهولة، بل إن جيشا بهذه القدرات الفتاكة يجد نفسه غارقا في مهام يومية من اختصاص قوات الدرك كمطارة الفتية والشبان في أزقة المدن والقرى الفلسطينية.
وما يزيد الوضع تعقيدا، تلك الاتفاقيات الثنائية التي أبرمها نتنياهو مع شركائه في الائتلاف اليميني، فأثارت حفيظة مروحة واسعة من القوى والتيارات السياسية في إسرائيل. وينصبّ احتجاج المعارضين على برنامج الحكومة والاتفاقات الثنائية مع الشركاء وعلى شخصية الوزراء الذين سيتولون مناصب عسكرية (سموتريتس وبن جفير) وكلاهما ذو سوابق جنائية معروفة في التطرف والاصطدام مع الجيش والشرطة، إلى جانب الرضوخ لمطالب شخصية وابتزازية للشركاء والتي شملت سن تشريعات مُفصّلة على مقاس بعض الأفراد مثل قانون درعي، واستحداث مناصب، ونقل الصلاحيات بين الوزارات، وإلحاق ملفات حساسة مثل التعامل مع الفلسطينيين والاستيطان بوزراء عرفوا بتهوّرهم، الأمر الذي قد يورط إسرائيل في مواجهات زائدة من بينها ما يخطط له بن جفير في المسجد الأقصى، ومساعيه لانتزاع أراضي البدو الفلسطينيين في النقب، وغير ذلك من صواعق قد تفجّر منجزات الحكومات السابقة، وتعيد تأليب العالم ضد إسرائيل وتهدد أمنها. كما أن جيشا كالجيش الإسرائيلي يرتبط بمعاهدات واتفاقيات دولية مع دول وجيوش عالمية عديدة، من الصعب تصوّر أن هذه المقدرات سوف يساهم في إدارتها والإشراف عليها وزراء لم يخدموا يوما واحدا في الجيش، ولا يتمتعون بأية خبرة أو ثقافة عسكرية ولا يقيمون اي وزن للقانون الدولي والرأي العام.
من الاتفاقيات كذلك جملة من التفاهمات ومشاريع القوانين التي تمس صلاحيات المحكمة العليا وهو ما أثار احتجاجات واسعة لدى قطاع الأعمال والأوساط الحقوقية. يبدو نتنياهو مدركا تماما لكل هذه المخاطر والتحديات، ولكنه ماض في تأليف حكومته واضعا في المقدمة مصلحته الشخصية في العودة للحكم وسن تشريع يحميه من السجن والمحاكمة، ثم الرهان على قدرته في فرض إيقاعه على أداء الحكومة، وأن معظم التهديدات والمخاوف والتحذيرات التي تسمع اليوم سوف تبقى في دائرة الكلام ليس إلا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -تكتل- الجزائر وتونس وليبيا.. من المستفيد الأكبر؟ | المسائي


.. مصائد تحاكي رائحة الإنسان، تعقيم البعوض أو تعديل جيناته..بعض




.. الاستعدادات على قدم وساق لاستقبال الألعاب الأولمبية في فرنسا


.. إسرائيل تعلن عزمها على اجتياح رفح.. ما الهدف؟ • فرانس 24




.. وضع كارثي في غزة ومناشدات دولية لثني إسرائيل عن اجتياح رفح