الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المقهى والتلفزيون أية علاقة ؟

عزيز باكوش
إعلامي من المغرب

(Bakouch Azziz)

2022 / 12 / 28
الصحافة والاعلام


ترتكب المقهى جريمتها النكراء ،وتقتل فينا بدم بارد ذلك الحلم الهادئ النبيل ، وتنكل برغبتنا الجامحة في اقتناص فرص الهدوء المنفلتة من شرنقة الوقت . اليوم ،مع دخول التلفزيون إلى المقهى ، واقتحام هذا الفرعون الإعلامي ذي الشاشات العملاقة فضاءها بتعدد ومجانية قنواته ،وغنى باقاته المفتوحة والمشفرة الضاجة بكل اللغات ، المنزرعة بصخب في كل الجنبات ، بحيث ابتعدت فناجين القهوة عن مفعولها السحري ،وطعمها الناظم للمزاج ،وتخلت تدريجيا عن أثرها اللذيذ في تشبيك اليقظة وتخصيب النشاط لتترك بصمتها الحيوية التي لا عهد للمزاج بها. لتصبح مجرد كتلة من ضجيج مريب لايطاق ،وقلق جواني مربك للغاية .والسؤال هنا : المقهى مكان للاستماع إلى الأخبار أم للانفلات من شرنقتها ؟

بين المقهى كمكان للتواصل الشعبي التقليدي، والتلفزيون كمفهوم تواصلي حداثي للغاية علاقة مشوشة وممهورة باقتحام اجتماعي . فرغم كون المقهى كفضاء عربية المنشإ، أوروبية الهوى، فهي لم تعد تتسم بالحميمية الذاتية على مدار الوقت ، هي ليست مطعما ، ولا مسجدا للتداول في الشأن الاجتماعي . ولا تشكل بديلا بمعنى ما ،لترتقي بذلك في التمثلات العليا للاجتماع كي تكون بديلا عن إكراهات البيت اليومية، ومتنفسا بعد الخروج من جو العمل ، لتصبح غربة مستحبة وانفراجا في الآن نفسه ، فسحة لذيذة الاستنساخ ،مفتوحة على الأمل والحياة .
وبهذا المعنى تصبح المقهى رفقة "السمارتفون " شرفة يومية ،ورغبة جارفة لزبناء مشحونين مهووسين باستكشاف العالم واقتحام مجرياته عبر شاشات هواتفهم . شرفة مزاج تتسع للجميع ،رحبة وشعبية حتى النخاع على إيقاع الفنجان ،الذي ينضبط له المزاج .
والحقيقة أنني لا أفهم كيف يستسيغ البعض الجلوس في مقهى ، مركزين انتباههم على شاشات هواتفهم ، من دون أن يزعجهم ضجيج صاخب ينبعث من أربع شاشات بلازما من الحجم الكبير ، تظل تهتف بكرة القدم ،أو تجتر مسلسلات وبرامج صاخبة ليل نهار. لا أفهم كذلك ،لماذا الرفع من أصوات أجهزة التلفزيون إلى أقصاها ، دون مراعاة لحساسيات الزبناء أو استمزاج آرائهم ! هل المقهى مكان للاستماع إلى الأخبار أم للانفلات من شرنقتها ؟


يبدو أن النظرة البراغماتية لمالكي المقاهي تحجب عنهم الكثير من الحقائق والأساسيات التي قامت عليها فكرة هذا الابتكار الثقافي والاجتماعي الرائع. فهم لجشعهم ، لا يرون في الزبون سوى رقم في معادلة تضخيم الرصيد للمقاولة بعيدا عن أوجاع المزاج وطبقاته.

هل يأتي الزبون إلى المقهى للاستماع إلى قناة إخبارية،تلوك التقرير،وتجتر الخبر، وتكرر الصورة نفسها ألف مرة في الساعة ؟ أم للإنصات إلى أوجاعه ، وجبر الأعطاب اليومية للذات ،وترميم شروخها النفسية بوصفة فنجان ؟
بعض الفضاءات الاجتماعية أدركت بعمق هذه الفكرة ،وأثثتها بجماليات تشد الروح. منعت التدخين ،وخفضت الموسيقى إلى درجة الصفر، ثم نصبت كشكا رتبت فيه بجاذبية جرائد ومجلات بالمدخل الرئيس للمقهى ، حتى ما إذا ولج الزبون، أراحته مقاطع موسيقى صامتة مهدئة للأعصاب، وسحب نسخة من جرائد ستم تصفيفها وفق الطلب ،واقتعد مكان استعانت لتأثيثه فنيات وجماليات ،بخدمات فنانين ومبدعين في تصميم ديكورات مبهجة. بعد أن منعت كافة أشكال المس بحساسية أو خصوصية الزبون وتوجته ملكا.. فيما البعض الآخر، ثبت لافتة بخط رديء تقول. هذا من فضل ربي ،لتتحول المقهى إلى تكدس بشري سقفه سحب ملوثة وأرضها نفايات وقذارة ،فيما تصدح الشاشتين بصخب مريب وهي تنقل مقابلات في كرة القدم بين فريقين أوروبيين من القرن التاسع عشر..

المقهى فضاء أدبي في جوهره، مكان لارتشاف الفناجين الضابطة، والاستمتاع بتؤدة إلى الأوجاع، وتهدئة الأعصاب في فترة محددة إلى حين العودة للعمل بحيوية ودماء جديدة.
إن علاقة المقهى بالتلفزيون في العصر الراهن تشوبها الفوضى، ويكتنفها ضجيج الشاشات العملاقة. ليظل الجشع والربح السريع، هاجس المنعشين وإقطاعيي المجتمع، ومستثمريه من ذوي الصفة الانتهازية ومركبها المصالحي وذلك على حساب راحة الزبون وأعصابه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هنية يزور تركيا لإجراء محادثات مع الرئيس التركي رجب طيب أردو


.. توقعات بموجة جديدة من ارتفاع أسعار المنتجات الغدائية بروسيا




.. سكاي نيوز عربية تزور أحد مخيمات النزوح في رفح جنوبي قطاع غزة


.. حزب -تقدّم- مهدد بالتفكك بعد انسحاب مرشحه لمنصب رئاسة مجلس ا




.. آثار الدمار نتيجة قصف استهدف قاعدة كالسو شمالي بابل في العرا