الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القيم الجمالية والدلالية في ديوان( مطرق سيطرق باب نومي) لحمزة رستناوي ج2 من 2

عصام شرتح

2022 / 12 / 29
الادب والفن


اللافتُ في اللغة الشعرية التي يعرضها هذا الديوان أن الاغتراب الشعوري أو الوجودي ( الاغتراب الزمكاني) يشكل حالة وجودية تعكس شجنا عميقاً وحسّاً شاعرياً مفعماً بالوله والصّبابة إلى حدّ كبير، فتجد في تشكيلاته اللغوية هذا الشعور المؤثر الذي يرتقي بالمشهد الشعري كأيقونة جمالية في توليف الصور الاغترابية بحِراك شعوري انسيابي يثير اللذة الجمالية في الأنساق الشعرية، كما في هذا المقطع:
"أركبُ غربتي/ ما زلتُ أنسجُ كالسنونو/ حين تبحرُ في رداءِ شمالها / ما زلتُ أنسجُ قامتي / وأهزُّ قارعتي/ لأبدأً قصةَ الألق العنين (11)
لابد من الإشارة بداية إلى أن الاغتراب الوجودي – في قصائد الرستناوي – يشكل علامة أيقونية لاغتراب الشاعر النفسي والشعوري الذي يقوده إلى الإحساس بالشجن، ولا نبالغ في قولنا :إن الصور الشعرية المتألقة فنياً أو جمالياً تسعفه ليستغرق في هذا الحس الشاعري الاغترابي الذي يرتقي بالرؤية الجمالية لقصائده على مستوى المقاطع الجزئية وصولاً إلى القفلة النصية الأخيرة، وهذا ما حققه في القفلة الشاعرية [ وأهز قارعتي لأبدأ قصة الألق العنينْ]، إن هذا الإسناد الشاعري المرهف ( الألق العنين) حرك الذهنية الشعرية، وخلق الاستثارة الجمالية في بث الحرقة الاغترابية برشاقة وانسيابية بليغة في إصابة مؤثرها النفسي الشعوري العميق.

واللافت أن الاغتراب الجمالي- في قصائد ( مطر سيطرق باب نومي) لحمزة رستناوي- يشكل عنصراً فاعلاً في إنتاج الدلالات وتحفيزها جمالياً ، وهذا يعني أن الاغتراب الجمالي لا ينفصل عن الاغتراب الرؤيوي والنفسي والشعوري، لتشتغل بُنى قصائده على مثيرات متعددة الاتجاهات، وكأن القصيدة عند الشاعر هي بمثابة حالة اغترابيه جريحة سواء على مستوى الفكر أو الرؤية أو على مستوى التراكيب الشعرية المُنزاحة بمداخيلها الشعرية، كما في قوله:
" لا يا حنين/ رفيفُ أجنحةِ السطورِ يمرُّ/ أسندُ رأس مقبرتي/ إلى الطفلِ المضي/ كانَ النسيمُ يرتبُ الأحلام/ موركُ نبعُ أمدائي / مرابعُ عمري المشلول/ من صغري إليها / سروها قد قدَّ أشرعتي/ وأغرقني الهوى (12).
إن القارئ هنا أمام نص شعري يفيض بشجنه الاغترابي (الزمكاني) العميق، التي تظهر في التراكيب الشاعرية التي تثيرها بإيقاعها الجريح:[ مورك نبع أمدائي/ مرابع عمري المشلول]، وكأن الشاعر مشلول بحبها لا يغادره منذ الصغر، وهذا الأسلوب التعبيري يجعل قصائد( مطر سيطرق باب نومي) تنساب فيها مشاعر التوق واللهفة إلى استرجاع الأزمنة الماضية والتشبث بها بوصفها حالة جمالية تعيده إلى لحظات التأمل والذكريات الحية التي تعشش في مخيلة الشاعر كاشفة عن بصمة ابداعيّة خاصة.
واللافت أخيراً على المستوى الفني الجمالي أن الاغتراب الفني يشكل جوهر الرؤى الشعرية التي تبثها قصائد ديوان ( مطر سيطرق باب نومي) في الكثير من متغيراتها الجمالية، ومتحولاتها الرؤيوية ليكون الاغتراب العامل البؤري الفاعل الذي يضم القصائد في خانة دلالية واحدة تجمع القصائد إلى بعضها، كما في قوله:
" سأعيشُ في اليومِ الحزينِ بغربتيْ / أبكي القيامةَ هاهنا / بعد النبيذِ أراودُ القمرَ الفقيرَ / المُصطلي دون المحاقِ / أهنّئ الأم الحزينة! / يا تاركاً روحي تئنُّ/ على جروحِ النومِ/ أوقدْ مأذنة / وأنا المُسجّى فوق مائدة الحياةِ / أباركُ الآلامَ / كي تُرخي علي سدولها.. أنا لم أكن تيها لترشدني المآذنُ/ حبُّكِ القمري ينمو في الهيام أبدو الثالوثً/ تنبئني ليالِ الصلبِ / توقدُ في رواقي مدخنهْ (13)
إن القارئ هنا يستشعر الجمالية والحس الاغترابي الشاعري بجمل وصفية تتابعية تؤكد فاعلية مجرى السرد في بث الاغتراب بإيقاع تجاذبي شاعري ينم عن خبرة جمالية تسعى في خلق متغيرها الجمالي البليغ، وهذا يدلنا على أن الشعرية في قصائد ( مطر سيطرق باب نومي) شعرية اغترابيه تأسيسية، فالقصيدة ليست حالة عاطفية انفعالية لا هدف لها سوى التنفيس عن حالة شعورية ما، وإنما هي فكر جمالي تأملي وجودي عميق فيما وراء الأفق يحرض على تساؤلات، وتساؤلات هنا لم تكن في صوغ السؤال والبحث عن أجوبة ، بل تساؤلات في صوره الجدلية وحراك الرؤى الوجودية عبر إيقاعات الاغتراب ومحركاتها النفسية والشعورية والفنية والجمالية.

ما يؤخذ على بعض قصائد ديوان( مطر سيطرقُ باب نومي) لحمزة رستناوي الغموض الفلسفي، الذي يستعصي على المتلقي إدراك كنهه، واكتشاف ما خفي من روى ودلالات؛ تنبني عليها قصائد الديوان في فلسفتها التجريدية والصوفية التي تفيض برموزها؛ ورؤاها التجريدية الصوفية المتعددة، أي إن بعض قصائد الديوان تغط في فوضى الرؤى الفلسفية المستعصية التي تنغلق على الذات الشاعرة، وتجعل بعض الدلالات منغلقة على نفسها لا يحصل منها القارئ شيئا محدداً يمكن اكتشافه والوقوف عليه بدقة ووضوح، كما في قوله:
دربُ حكايتها عرفانْ/ بَسمتها فيضٌ وغنوصٌ / بسمتها تطغى /حبُّكَ في جُبِّكَ شرَّدني/ أوشكُ أن أسألَ / ما الجدوى... ما الجدوى/ أن تعشقَ في الجيفة ضدينِ (14)
نشير –هنا- أن الغموض الفلسفي يترك القارئ يسبح في خضم الدلالات الهاربة فلا يحصل منها رؤية محددة أو دلالة واضحة، لأن النزوع الفلسفي الصوفي التجريدي يطغى على الأسطر الشعرية لاسيما بقوله [ درب حكايتها عرفان/ بسمتها فيض وغنوص] فالقارئ يلحظ البعد الصوفي الفلسفي بين الغنوص والعرفان والقفلة النصية ( أن تعشق في الجيفة ضدين)، فلا يدرك القارئ الضدين من هما ( الروح/ والجسد) أم ( الموت / والحياة) أم ( الخير / والشر)، وهذا يجعل النص مُنغلق الدلالة.
يكاد الغموض الفلسفي الصوفي يغلب على الكثير من سياقات قصائده، وهذا يجعل الشاعر رؤيوي بامتياز لاسيما عند الإيغال في الرؤى التجريدية الجزئية، والغموض الذي يصل حد الإبهام ، كما في قوله
في حضرةِ الموتِ المؤقتِ هدَّني/ لمَّا أفق/ لا لم أفق!/ لكنني نذرٌ، وناقتها أنا/ والأرضُ أرضي/ قبل أن تجري بنا الوديانُ في إرمِ العماد/ ولأنني بشرٌ تراءى/ لم أجد وقتاً لأسجد/ لم أجدْ حضناً لأخلدَ/ ثم ملَّ الوقتُ مني/ عدت لا أدري إلى أين المعاد/ هل أنت مئذنتي لأستهدي ولاءك/ ميتٌ كاللؤلؤ المكنون/ غرتني يدُ الغطاس/ أيقنت الخرافة نابضة (15)

إن القارئ هنا يلحظ استغلاق الرؤى والدلالات واستعصاءها على إدراكه المعرفي، ليدخل القارئ في تيه العلاقات بين التناص المتشعب إلى دلالات الخلود والموت، والخرافة والخيال ليترك القارئ محدقاً في فوضى الرؤى والدلالات ، وهذا الأمر يكاد ينطبق على الفضاء الدلالي للكثير من قصائد الديوان التي تنحو منحى صوفياً تجريدياً، مما يجعل القارئ متشوفاً بشكل دائم للبحث عن خيط رؤيوي ودلالي ما. من هنا يمكن أن نعد قصائد ديوان(مطرٌ سيطرق باب) فتحاً إبداعياً فيما يسمى ب( فضاء الرؤية التجريدية) التي تسبح في بحر الغموض وتيه الدلالات والرؤى، نظراً لعمق الرؤية الشعرية الوجودية ، وهذا ما يجعلها نموذج خاص في الاغتراب اللغوي والغموض الكثيف
وصفوة القول: إن ديوان( مطر سيطرق باب نومي) لحمزة رستناوي يفيض بالرؤى الشعرية التي تعتمد الفكر الجمالي الإبداعي في ترسيمها، سواء أكان ذلك على مستوى الصور ومؤثراتها الفنية أم على مستوى التشكيلات الشاعرية المرهفة التي تبث الشجن الاغترابي بإيقاع فلسفي يميل إلى التصوف والحراك الشعوري الاغترابي الذي يجعل الصور متوهجة في رؤاها ومداليلها الشعرية.

نتائج أخيرة:
أولا- إن قصائد( مطرٌ سيطرق باب نومي) تعلن انزياحها الرؤيوي الفني واغترابها الصريح من خلال مؤولات الاغتراب الوجودي، وحراك المؤشرات الدلالية من خلال الصور والاستعارات والتشكيلات التي تشي ببعدها النفسي الشعوري من جهة ، وبعدها الفلسفي الوجودي العدمي من جهة ثانية، لتؤكد قصائد هذا الديوان غناها بالفكر الفلسفي الوجودي والمَنزع الدرامي خلف لغة السرد الممطوط الذي يغرق في التفاصيل ويستقرئ الجزئيات.

ثانيا- هي قصائد رؤيوية تبث الشجن الاغترابي بإيقاع عاطفي نفسي شعوري عدمي، وبإيقاع وجودي تفاؤلي مثير ليحرك الرؤى الاغترابية بالدراما الوجودية الجدلية بين الثنائيات، وهذا ما يخلق من فضائها قيمة جمالية في تحفيز النص جمالياً ورؤيوياً في نظر القارئ.
ثالثا- تعتمد قصائد الديوان على الرشاقة السردية والانتقال السريع من مشهد إلى مشهد شعري، ومن رؤية إلى رؤية، مما يجعلها قمة في الانسيابية والغنى الرؤيوي المتحرك كلما انتقلنا من قصيدة لقصيدة ومن مقطع شعري لأخر.

رابعا- تميل بعض قصائد ( مطر سيطرقُ باب نومي) إلى الغموض الفلسفي، الذي يصعب على المُتلقي إدراكه، وصولا إلى حالة فوضى رؤيوية مستعصية تقارب الابهام وتؤثر على سرعة وفاعليّة التلقّي. من جهة أخرى تقدّم قصائد المجموعة فضاء للرؤيا التجريدية تساهم في خلق أسلوب ونمط شعري خاص بالشاعر.
-
الحواشي
(11) رستناوي، حمزة، 2019- مطرٌ سيطرقُ باب نومي، دار موزاييك للدراسات
والنشر، استانبول – طبعة أولى، ص23.
(12)المصدر نفسه، ص27.
(13) المصدر نفسه، ص22.
(14) المصدر نفسه، ص6.
(15) المصدر نفسه، ص10-11.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81