الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


معلّمو الرهافة … المتوحّدون

فاطمة ناعوت

2022 / 12 / 31
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


[email protected]

هاتفني في الصباح، بعدما قرأ مقالًا لي عن "الموسيقى" التي تُهذِّبُ أرواحَنا وتُرقِّقُ مشاعرَنا، وقال: “باكلمك عشان حاجتين: أولا: إنتِ كاتبة النهارده عن الموسيقى. وعاوز أقولك إن حروفك نفسها موسيقى. رهافة الكتابة دي نعمة من ربنا. الحاجة التانية: أنا دلوقت عرفت سرّ رهافة قلمك اللي بيكتب موسيقى. السبب هو ابنك/ عمر. مع السلامة.”
هكذا مكالماتُ مهندس/ "صلاح دياب"، مقتضبةٌ، خاليةٌ من الحواشي والزوائد، ودائمًا في "الموضوع”. أما الموضوع فهو أننا التقينا في اليوم السابق في "مسجد المشير طنطاوي" بالتجمع الخامس، في عزاء الناقد الكبير د. “صلاح فضل" رحمه الله. وكان معي كالعادة ابني الجميل "عمر"، المصاب بمتلازمة "أسبرجر"Asperger، أحد أشكال "طيف التوحّد"؛ الذي صار يرافقُني في كل مكان منذ أكرمنا اللهُ وقرّر "كسر شرنقة" العُزلة، التي نسجها حول نفسه سجنًا انفراديًّا سنين عددًا، ليخرج منها أخيرًا ويطيرَ نحو براح الحياة. حين شاهدَ "صلاح دياب" ابني "عمر" في بدلته الأنيقة وربطة العنق السوداء، صافحَه وتكلّم معه برهةً قصيرة، لكنّه أطال النظرَ في عينيه نظرةً "اختراقية"، فهمتُ منها "أنه يحاول قراءته"، كما كان يفعلُ في "نادي الكتاب"، حيث يقضي ليالى "يذاكرُ" الكتاب، كما قال في مقاله بجريدة "الشرق الأوسط"، حتى إذا ما التقينا لمناقشة الكتاب، كان قابضًا على "جوهر الفكرة"، الذي يُسرد في كلمات قليلة "مقتضبة" بلا حواشٍ، تمامًا كما مكالماته التليفونية.
جميعنا نحن، “غير المتوحدين”، "الأسوياءَ"، إن كان ثمة أسوياءُ، لدينا شغفٌ لاختراق عقول المتوحدين من “أبناء متلازمة أسبرجر” لمعرفة كيف يفكرون، ولماذا هم مختلفون، وكيف يرون العالمَ على غير ما نراه؟! وكيف كان منهم: آينشتاين، وڤان جوخ، وبيل جيتس، ونيوتن، وإديسون، وإيميلي ديكنسون، وموتسارت، وغيرهم من فرائد هذا العالم؟! وبالفعل نجح “صلاح دياب” في التقاط "جوهر الحكاية". فأنا وجميع أفراد أسرتي، مدينون لـ"عمر" بالنظر إلى العالم من زوايا أكثر جمالا ونقاءً وبراءة وعدلا و"موسيقى"، من زوايانا. دعوني أقصُّ عليكم حكايةً من حكايا "عمر" التي لا تنتهي، حتى تقبضوا على جوهر “مرض الجمال"، كما يروق لي أن أسمّيه.
اعتدتُ أن أملأ محفظةَ "عمر" بأوراق من فئة العشرة جنيهات؛ لكي يعطي السائلين من السابلة. وأصبحتْ عادةً متأصّلة لديه يفعلُها تلقائيًّا. وذات يومٍ كنّا جالسين مع مجموعة من الأصدقاء على أحد مقاهي الإسكندرية. مرَّ سائلون عديدون، وكان "عمر" يفتح محفظته بشكل "آليّ ميكانيكي"، شأن المتوحدين، ويُخرج ورقة مالية يمنحها للسائل قائلا: “اتفضّل!"، دون أن ينظرَ في عينيه. فالمتوحّدون قلَّما ينظرون في عيون الناس. ثم مرّت فتاةٌ مليحةٌ حول الخامسة عشر من عمرها، مدّت يدها لـ"عمر" ليعطيها شيئًا. فنظر نحوها ثم أطرق، ولم يفتح محفظتَه كالمعتاد، بل امتدت يدُه نحو ڤازة صغيرة في منتصف الطاولة، وانتزع زهرةً بيضاء، قدّمها للصبيّة. نظرت إليه الصبيةُ مشدوهةً، ثم نظرت إلى الزهرة في يدها، وظلت تنقل عينيها من الزهرة إلى عيني "عمر"! لكنه لم ينظر إلى عينيها، بل رمقها خِلسة بطرف عينيه، ثم أطرق غارقًا في صمته المعتاد. ومضت الصبيةُ إلى حال سبيلها دون كلمة. ربما هذه أولُ زهرة تُقدَّم لها في حياتها، لا أدري. ولكن الأكيد أن شيئًَا ما دار بذهن "عمر" جعله يستصعبُ أن يمنحَ الفتاةَ حفنةَ مال! هذا لا يليق. الجميلاتُ تليقُ بهنّ الزهورُ الجميلة، لا الأوراق النقدية!
رحنا ننظرُ إلى بعضنا البعض في دهشة من مشهد استغرق دقيقةً، لكنه حُفِر في وجداننا، ولا أظنّه سيُمحى من ذاكراتنا. بعد المشهد تَدثّرنا بالصمت برهةً، ثم انفجرنا بالضحك. وظللنا نُمطرُ "عمر" بالثناء والإطراء على تصرفه الراقي، وكان بيننا مَن تندّر مازحًا أن الفتاةَ كانت تُفضِّلُ الجنيه على الوردة، وأن "عمر” قد خذلها برومانسيته تلك، إلى غير ذلك من “الألش” المصري الظريف! لكن "عمر" لم يعبأ بكل ما نقول، ولا نظرَ حتى نحونا. فهو بالتأكيد لا يفهمُ لماذا المديح أو حتى المزاح حول أمر بسيط فطري فعله بمنتهى التلقائية، وفق "البرمجة النبيلة" التي خلقه اللهُ عليها، في “منظومة التوحّد”! لم يعبأ "عمر" بصخبنا، ونظر نحو البحر قائلا باقتضاب: "البحر جميل!". فقطع الأصدقاءُ ضجيجَهم وقالوا: (البحر جميل فعلا يا "عمر"، وأنت جميل!) أصبح هذا المشهدُ العفوي الخاطف، الذي فعله "عمر" بتلقائية وبساطة في ثوان، حكايةً نحكيها لأصدقائنا لنتأمل فرادة عقول المتوحدين الذين ينظرون إلى العالم من نافذة خاصة جدًّا، على غير ما ننظر نحن إليه. وفي كتابي وشيك الصدور: "عُمَر... من الشرنقة إلى الطيران" عن "المؤسسة العربية الحديثة"، حكايا أخرى عن "مُعلّمي الرهافة" في عالمنا المشحون بالمادية.

***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نحو 1400 مستوطن يقتحمون المسجد الأقصى ويقومون بجولات في أروق


.. تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون




.. الجزائر | الأقلية الشيعية.. تحديات كثيرة يفرضها المجتمع


.. الأوقاف الإسلامية: 900 مستوطن ومتطرف اقتحموا المسجد الأقصى ف




.. الاحتلال يغلق المسجد الإبراهيمي في الخليل بالضفة الغربية