الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الملامح التدميرية في معلقة امريء القيس

كريم الوائلي
كاتب وناقد ادبي وتربوي .

(Karim Alwaili)

2023 / 1 / 4
الادب والفن


تتواشع العلاقة بين العالم الداخلي للشاعر والواقع بطريقة فريدة ، وتبدو الصورة أكثر جلاء حين يقترن بهما ومعهما الزمان والمكان معا، فالإحساس بالزمن يمثل بعداً ذاتياً فردياً لدى الشاعر ، ولا يمكن تمثله بدون المكان لأنَّ المكان « هو الاطار الذي تقع فيه الأحداث » ، وتتبدى الملامح التدميرية في المعلقة في المواطن الآتية :
1 ــ الطلل .2 ــ الليل .3 ــ الذئب .4 ــ السيل .
وليست هذه الموطن مستقلة عن بعضها في وجودها التكويني عن بنية المعلقة ونسيجها الشعري ، بل إنَّها تمثل وحدات تتكون منها الوحدة العضوية للمعلقة كلها ، وتتحكم فيها ثنائية الحاضر /الانفصام ، والماضي / التواصل .
الطلل :
يقول امرؤ القيس :
قِفا نَبكِ من ذكرى حَبيبٍ وَمنـزلِ بسقِطِ اللِّوَى بين الدَّخولِ فَحوملِ
فتُوضِحَ فالمِقراةِ لم يَعفُ رَسمُها لما نَسَجتـها مـن جَنـوبٍ وَشَمأَلِ
تَرَى بَعَرَ الأرآمِ في عَـَـرصاتِها وَقيــعانـِـها كأَنــّــهُ حَـبُّ فُـلْـفُـلِ
كأَني غَداةَ البَينِ يومَ تَحَمّلـوا لــدى سَمُـراتِ الحيّ ناقفُ حَنظَلِ

إنَّ الطلل بوصفه مثيراً مكانياً يقترن بدلالات عاطفية ووجودية ، وإذا كان للمكان وجهان كما يذهب أدونيس وجه يجذب ، ووجه يخيف فإنَّ الطلل لدى امرئ القيس يدل على الوجه المرعب المخيف ، لأنه يوحي برحلة الانسان الى الموت ، وكأنَّ موت الطلل موت الانسان ، ويمثل الطلل مكاناً مجدباً مقفراً لا حياة فيه ، وكأننا إزاء زمانين ،زمن الشاعر الذي يبعث على الألم والبكاء ، وزمن المحبوبة المفعم بالتواصل ، فالطلل انعكاس لحالة الانفصام المستقرة في أعماق الشاعر ، وكأنها المعادل الموضوعي ـــ بحسب ت . س . إليوت ــ للعالم الداخلي للشاعر ، ولذلك يحاول الشاعر كسر الانفصام ومحاولة التعويض النفسي وذلك بالانتقال الى زمن المحبوبة الذي يعبر فيه عن تواصله معها ، وذلك بسرد حكاياته العاطفية المتنوعة .إنَّ التعويض النفسي يدل على هروب الشاعر من وطأة الزمن على الانسان ، لأنَّ الشاعر يعيش حالة من الخوف والفزع ، ولذلك اعتمد الحكاية أداة لكسر وطأة الحاضر عليه . إنَّ التباين الزمني قد اضفى على المكان ملامح تدميرية ، إذ أصبح خاوياً ، ولا أحسب أنَّ الشاعر يصف ـــ هنا ـــ مكاناً خارجياً ، إنما يعبر عن عالمة الداخلي الذي يسقطه على الطلل ، وهذا يعني أنَّ التدمير ليس بفعل الزمن بقدر ما هو تدمير ذاتي في أعماق الشاعر .
الليل :
واذا كان الطلل مثيراً مكانياً ، وقد عبر فيه الشاعر عن معاناته وتدميره الذاتي الذي انعكس على العالم الخارجي ، فإنَّ الليل يمثل مثيراً زمانياً يعيشه الشاعر منفرداً ، يقول :
وَليلٍ كَموجِ البحــرِ أَرخَى سدولَهُ عليَّ بأَنــواعِ الـهـمـــومِ لِيَبتلي
فقلتُ له لمَّــا تَمَطَّــى بصُلبِهِ وَأَردفَ أَعجــازاً ونــاءَ بكَـلكَلِ
أَلا أَيُها الليلُ الطويلُ أَلا انجلي بِصُبحٍ وما الإصبــاحُ منكَ بأَمثلِ
فيا لـكَ من ليــلٍ كأَنَّ نجــومَهُ بأَمراسِ كتّانِ إلى صُمِّ جَندلِ
وتتراكم فيه الهموم بشكل تدريجي ، حتى تصل الذروة في تحطيم الشاعر تحت وطأته ، إذ رسم الشاعر عدة لوحات ، ففي اللوحة الأولى : يبعث (الليل / موج البحر) على الرهبة والخوف على الرغم من استقلالية الليل ، غير انَّ تكرار أمواج البحر توحي بتتابع عتمة الليل وتكاثفها ، وما يرافق ذلك من مؤثرات صوتية متتابعة ، تؤكد هذا التراكم والتكاثف الذي يحيط بالشاعر، وفي اللوحة ( الليل/ الخيمة ) يُحيط الليلُ بالشاعر مثل الخيمة بحيث ترخي سدولها عليه ، بمعنى ان الشاعر يوحد بين الهموم في الداخل والسدول المظلمة في الخارج ، اما في لوحة ( الليل/الجمل) يتحول الليل الى جمل يتمطى بصلبه ، ويخني على الشاعر ، ويشعر الشاعر بالاختناق والسحق والتدمير، الأمر الذي يدفعه الى صرخة الموت مستخدما تلوينات صوتية ، تتجلى بكثرة المدود في قوله :
أَلا أَيُها الليلُ الطويلُ أَلا انجلي بِصُبحٍ وما الإصبــاحُ منكَ بأَمثلِ
وأصبح الشاعر سلبياً يائساً مستسلماً ، (وما الإصبــاحُ منكَ بأَمثلِ ) وانه يعيش تجربته مع الليل منفرداً ، تماما كما عاشها مع الطلل ، وان خاطب رفيقيه .
الذئب :
لم يكن امرؤ القيس يعنى بما يعنى به فتيان القبيلة ، فلقد كان يقضي وقته بالصيد وشرب الخمر ، " ومعه اخلاط من شذاذ العرب " كما يقول الاصفهاني ، ولذلك فهو خارج بناء القبيلة التي تعلوها طبقة الصرحاء ، وتقع في قاعها طبقة العبيد ، وهذا يعني أنه مطرود من البناء الاجتماعي ، بسبب خروجه على ما ألفه الناس في الحياة ، فهو قد خرج عن الانموذج الأخلاقي بفجوره وتعهره في شعره ، بمعنى انه عاش منفرداً متوحداً في طلل مجدب وليل اناخ عليه كجمل ، ومن ثم رحلته في واد مقفر يشبه جوف الحمار الوحشي ، وتماثله مع الذئب يؤكد غربته في الحياة ، يقول :
وَوَادٍ كَجَوْفِ العَيرِ قَفْرٍ قَطَعْتُــهُ بِهِ الذئبُ يَعْوي كالـخـلـيع المُعيَّلِ
فَقُلْتُ لَهُ لَمَّا عَوَي : إنَّ شَأَننــا قَليلُ الـغِـنـى إنْ كُنتَ لمَّـا تَمَّـولِ
كِلانَا إذا مَا نَالَ شَـيـئـاً أَفاتَهُ وَمَنْ يَحتـرِثْ حَـرثي وحـرثَكَ يهزِلِ
ويتوحد الشاعر مع الذئب في صفات وخصائص مشتركة ، (إنَّ شَأَننــا ) و(كِلانَا إذا مَا نَالَ شَـيـئـاً أَفاتَهُ ) و (وَمَنْ يَحتـرِثْ حَـرثي وحـرثَكَ يهزِلِ ) .
إنَّ الشاعر والذئب يتماثلان في خصائص مشتركة، فكل منهما منفرد وحده في وادٍ مقفرٍ، وهما ـ هنا ـ يفتقران إلى التواصل مع الآخر، كما انَّ كليهما قد خُلِعَ من جماعته، وإذا كان الذئب يعوي فإنَّ الشاعر يماثله بصراخ يشكو فيه من غربته في هذه الحياة.
إنَّ زمن الشاعر هو زمن الحاضر الذي تتبدى فيه حالات التدمير الذاتي التي تنعكس على الواقع الخارجي ، إذ ليس هناك ذئب بالمعنى الحقيقي ، وإنما يخلع الشاعر بعض معاناته على الواقع الخارجي ليتماثل مع الذئب في كثير من الصفات المشتركة .
وإذا كان الشاعر يبكي في الطلل لفقد حبيبته ، ويصرخ بالاستسلام في وصف الليل حين اناخ عليه الجمل وحطم كيانه بكلكله ، فإنَّ الشاعر هنا ـــ هنا ـــ يعوي كالذئب منفرداً في وادٍ لا حياة فيه .ومن أجل التعويض النفسي يسعى امرؤ القيس الى كسر زمان الحاضر الى زمن الماضي وذلك بالتحدث عن فروسيته ، ومن ثم يعبر عن أحد أبرز ادواتها ( الفرس ) الذي اسهب الشاعر في وصفه ،مع التأكيد ان الفارس والفرس يشتقان من جذر واحد .


السيل :
ويظل الزمن الحاضر سلبياً يبعث الهزال والسحق والتدمير في الشاعر ، سواء أكان في الطلل أم الليل ام الذئب والوادي المقفر ، وكذا الامر في السيل ، وعلى الرغم من انَّ المطر يدل على الخصب والنماء فإنه يتجاوز ابعاده الطبيعية الى أبعاد اسطورية ، فهو يكتسح كل ما يلاقيه ، حيث يقطع الأشجار الكبيرة وينزل الوعول من قمم الجبال الوعرة ، ويهدم البيوت ويقتل السباع الضارية ، يقول :
أحارِ تـرى بــرقاً كأَنَّ وَميـضَـهُ كلـمعِ اليـَـدينِ في حَبــيٍّ مُـكَـــلَّلِ
وَأَضحى يَســحُّ الماءَ عـن كل فيقة يكبُّ على الأَذقانِ دوحَ الكنـهبـلِ
وَتيماءَ لم يتركْ بها جِــذعَ نخلةٍ وَلا أُطُمـاً إلا مشيــداً بـجَـنـــدلِ
كأَنَّ طميـةَ المجيـمــرِ غـُـــدوةً من السيلِ وَالغُثّاءِ فَلـكةُ مِغــزَلِ
يدمر السيل ــ هنا ــ كل شيء يقع امامه ، فهو المثير الأخير في المعلقة ، ويبدو جلياً أنَّ التدمير الذي نراه في الواقع إنما هنا تدمير ذاتي أساسا ، وانعكست اثاره على الطبيعة بأسرها ، وبهذا يتناغم التدميران الداخلي والخارجي ليعبرا عن حالة الانهيار التام للشاعر ، فلقد مرت المعلقة بزمان الشاعر الحاضر ، طللاً وليلاً وذئباً وسيلاً ، وكلها تشتمل على الحالة التدميرية التي تتخلق في أعماق الشاعر وتتبدى آثارها في الطبيعة بمختلف تجلياتها .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا