الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفارقة الثورة السورية: في التسنين وجذوره

ياسين الحاج صالح

2023 / 1 / 6
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


بدأت الثورة السورية أكثر تعددية من حيث القاعدة الاجتماعية والمشاركة فيها، ومن حيث أساليب النضال، ومن حيث الشعارات، لكنها انزاحت بالتدريج وبثبات نحو الارتكاز على البيئات السنية السورية، وعلى حملة السلاح ضمن هذه البيئات، ومع تزود هذه البيئات بوعي سني مضاعف إذا جاز التعبير، وعي طائفي متشنج، يحتكر المظلومية لنفسه ويستبعد غيره.
لا يمتنع هذا التطور على تفسير معقول، لكنه يبقى محملاً بالعواقب. سار تاريخ الحكم الأسدي باتجاه نزع متزايد لوطنية الدولة عبر خصخصتها، والمجتمع عبر تغذية تمايزاته الموروثة وتأليف قلوب بعض المتمايزين بامتيازات متنوعة، وتغريب بعض آخر. البيئات السنية الأفقر في الأرياف والبلدات وضواحي المدن شهدت تراجعاً موصولاً لمقدراتها دون أن تتاح لها قيادات سياسية أو حتى أهلية في صورة أعيان محليين أو وجهاء يقومون بدور الواسطة مع مراكز السلطة. بالمقارنة، أتيحت فرص "واسطة" أكبر بكثير للجماعات الأهلية الأخرى، الأصغر، تماهى بعضها بالنظام كقيادة سياسية لها، ولم يجد بعض آخر مشكلة كبيرة في ذلك.
بعد الثورة تعرضت البيئات السنية السورية لمعاملة تمييزية أشد قسوة بما لا يقاس. هناك بالفعل معتقلون ومغيبون وشهداء على يد النظام من مختلف الجماعات الأهلية، لكن الحكم الأسدي خص بلدات وضواح سنية ثائرة بالمجازر الكيماوية والبراميل المتفجرة وصواريخ سكود وأكبر المذابح المحلية المعروفة دون استثناء واحد معلوم، وكذلك النسبة الأكبر من المعتقلين والمغيبين، ومن النساء المغتصبات (والرجال والأولاد المغتصبين في المقرات الأمنية وسجن صيدنايا). القول إن النظام دكتاتوري قمعي لا يميز بين من يعارضونه كاذب ببساطة، وغالباً بوعي. الواقع أن الصفة التمييزية والقصوى لعنف النظام، والمثابرة عليه طوال ما يقترب من اثني عشر عاماً، تثير التساؤل عما إذا لم نكن حيال جينوسايد (قتل جمعي على الهوية)، يستهدف جماعة أهلية بعينها، بما يتجاوز الكلام الكسول على الدكتاتورية والاستبداد. هناك نقد ممكن، ومطلوب، لمفهوم الجينوسايد، يوازي بالمناسبة نقد مفهوم الطائفية، وبالتحديد اشتقاق الطائفية من طوائف ناجزة مسبقاً (العكس هو الأصح: الطائفية هي صناعة الطوائف). لكن يلتقي في مفهوم الجينوسايد القتل والتدمير الواسع النطاق مع استهداف تمييزي لمن يجري قتلهم وتدمير بيئاتهم، وهو بهذه الدلالة مطابق للحالة السورية. وهذا يخرجنا كلياً من لغة "الاستبداد والفساد" البائتة، كما من لغة "القمع والدكتاتورية"، وهما لغتان تسهمان في تصوري، ربما دون وعي أحياناً، في نسبنة ما جرى في سورية وإغراقه في عموميات لا تقول عنه شيئا مهماً، ولا تقوم عليها سياسة ثورية حقيقية.
على أن استقرار الانفعال الثائر على الحكم الأسدي في أوساط سنية لم يتولد عن تغريب هذه الأوساط وشعورها بالتمييز فقط، أو عن ترسخ مظلومية سنية بالغة القوة فقط، وإنما كذلك عن عرض إيديولوجي نشط وانعزالي، ليس عن السوريين المتنوعين وحدهم، ولكن عن كتل مهمة من السنية السورية ذاتها، وخصوصاً في المدن. هذا العرض الإيديولوجي السلفي سبق الثورة السورية بنحو عقدين، وبقدر أكبر في العشرية اللاحقة لـ11 أيلول 2011، حيث أخذ مشروع بالغ التطرف والعدمية يبدو شيئاً وجيهاً لقطاعات كانت تزداد حرماناً مادياً وسياسياً في الفترة نفسها. نتكلم على ما بعد وراثة بشار لحكم أبيه، وعلى لبرلة الاقتصاد على نحو يخدم مراكز المدن الكبرى أكثر من غيرها، بل دون غيرها. صار العرض السلفي في المتناول في سورية بعد الاحتلال الأميركي للعراق، وتسهيل النظام دخول جهاديين ربما يشغلون الأميركيين هناك، وهذا مثلما ستفعل تركيا بعد أقل من عقد ضد الحكم الأسدي والفرع السوري لحزب العمال الكردستاني. ولا ريب أن انتشار الإعلام الجديد، الفضائيات، وكذلك وسائل التواصل الاجتماعي، لعب دوراً في ولادة ما يمكن تسميتها بالسلفية الشعبية، فقرب شخصياتها ورمزياتها من قطاعات تتسع من السكان، دون أن تكون المراقبة والقمع التقليديان مُجديين أو حتى ممكنين حيالها إلا بحدود ضيقة. وبعد الثورة السورية دخل مال خليجي من شبكات سلفية ليعزز العرض السلفي ويترجمه إلى واقع عسكري، وهذا بينما كان التمييز المولد للاستلاب والمظلومية يُعايَن كل يوم في شروط الحرب على شكل مجازر وتدمير وتعذيب.
نشأت في المحصلة حلقة شريرة من تمييز فعلي، ومن عرض إيديولوجي انعزالي وميال للعنف، ومن مال ريعي يغذي من تطرف وانعزالية مجموعات محلية، أو مجموعات متطرفة وغريبة أصلاً. وتنغلق الحلقة بارتقاء التمييز إلى مستوى المذبحة والجينوسايد. وهو ما يحجبه تطور عالمي في سنوات النمو السريع للغول السلفي الجهادي نفسه: اعتبار الإرهاب (الإسلامي السني، ضمناً) هو الشر السياسي الأساسي، ومحاربته هي الخير السياسي الأساسي، وربما الوحيد.
بالتدريج، صار الموقع السني المضاعف، أي الطائفي والانعزالي والمحافظ اجتماعياً، هو الموقع الذي يوفر التباعد الأقصى عن النظام والانفعال الأشد جذرية حياله، والأكثر توافقاً مع استمرار الصراع ضده. هنا مفارقة الثورة السورية. الموقع الجذري انفعالياً والأصلب في الصراع محافظ اجتماعياً وبصورة نشطة وتدخلية (قضايا الزي والطعام والشراب واختلاط الجنسين)، وهو ما يضع الثورة السورية في تباين واسع مع الثورات الاجتماعية في الأزمنة الحديثة. ثم أن تقاطع الموقع المحافظ مع السلاح ولد نزعة محافظة مسلحة، رجعية بالفعل، مالت في كل الأمثلة إلى فرض نفسها بالقوة. وسرعان ما سيبدو سفور النساء دلالة على موالاة للنظام وعلى منابت أقلوية، وهذا باطل سياسياً وتاريخياً، لكنه عنصر في سياسة هندسة اجتماعية، حمّلت الصراع العسكري مع النظام، وقد انحصر كلياً بيد منحدرين من بيئات سنية بدءاً من صيف 2013، برنامجاً اجتماعياً وسياسياً خاصاً. وقد يكون تنظيم الاتحاد الديمقراطي الكردي أكثر من استثمر في هذه المفارقة، وسوّق تنظيمه الأم، حزب العمال الكردستاني، ذلك في الغرب بنشاط مدهش. طوال سنوات كانت صورة المقاتلة الكردية تقول شيئاً وتلمح إلى شيء آخر: محافظة اجتماعية في البيئات العربية السنية التي ينحدر منها أكثر الدواعش، بحيث تحتاج إلى محررين من خارجها. بل إن النظام نفسه استثمر في ذلك، وسيظهر عبر صورة أسماء الأسد تحديداً أقرب إلى المثال التحرري المألوف من الثائرين عليه. في المحصلة، ظهر الثائرون سياسياً وعسكرياً رجعيين اجتماعياً وثقافياً، وهو ما أعطى النظام ومن لا مشكلة لهم معه الموقع التقدمي.
وحيال هذا الشرط المركب للقاعدة الاجتماعية للثورة السورية نجد تقابلاً استبعادياً يتحكم بمقاربات الكتاب السوريين. فحيث يجري إبراز التحول السني المحافظ، قلما يقال شيء عن الجينوسايد، وبالكاد بعض العموميات عن القمع، بالمقابل من يتكلمون على الإبادة والتمييز قلما يسلطون الضوء على التحول المحافظ المسلح الذي عرض ممثلوه استعدادات جينوسايدية قوية، من أبرز أمثلتها مجازر جيش الإسلام في عدرا العمالية في الشهر الأخير من 2013. ولا أتكلم على داعش وجبهة النصرة لأنهما لم تتولدا عن الصراع السوري بحد ذاته، وأن توفرت لهما بيئة انتشار بأثره.
وهكذا فإن من واجهوا حرب النظام جنحوا نحو محافَظة مُقاتِلة، على نحو نزع أي قيمة عامة عن حربهم التي اختزلت الثورة إليها، أما من كانوا غير محافظين فلم يكن لديهم رد على سؤال الحرب والتهجير والإبادة. هل من مخرج؟ الواقع أنه ليس هناك نظام جينوسايدي واحد سقط بجهود محكوميه الذاتية. والحرب ضد الإرهاب لم تحل دون تجريم النظام فقط، وإنما هي ما عوّمته وحجبت الإبادة الجارية في سورية. وبينما يعني ذلك أن الحلقة الشريرة السورية هي عالمية كذلك، فإنه وضع نقد التحول الرجعي في موقع ضعيف اجتماعياً وسياسياً وأخلاقياً. كيف تنتقد الضحايا، من تعرضت حيواتهم وبيئاتهم للتدمير؟
ولكن كيف لا تنتقدهم، بينما هم يعرضون صراعهم في صورة لا تفيض بحال على إحلال طائفي، طائفة ضد طائفة وطائفة محل طائفة؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي