الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مسكة أعمى و الجيز

احمد الحمد المندلاوي

2023 / 1 / 9
كتابات ساخرة


# استيقظ هذا اليوم مبكراً ليذهب الى سوق المدينة ليبتاع ما يحتاجه من الحاجيات الضرورية للمنزل و للمزرعة ،فخاطب نفسه:
- حسناً إني ذاهب الى السوق؛ و كم أرى أموراً جديدة قد لا نراها في القرية ،إنه شيءٌ جميل أن يرى المرءُ أشياء جديدة في حياته و بذا سيكبر أفق حياته؛ و يستطيع أن يغني بها الآخرين و يعلّم أبنائه و زوجته أيضاً ،ولكن ما أكثر الزّحام في هذا السوق ..الباعة و المقاهي و رائحة الطعام لا سيما هذا الشواء ،و الدواب و العربات ،و ماذا هنا ألوان زاهية إنه ينادي : دوندرمة .. و هذا ينادي :علوجة .. و لكن لابد معي أحد من أرحامي في المدينة لأتمكن من شراء هذه المواد الجميلة كي لا أخطأ في كيفية تناولها وأكون طرفة لأهل الحضر ..إذاً فكرة الشراء تؤجل الى سفرة ثانية ،و هذا عين الحكمة و الصواب .. ماذا أقتني (الشاي و السكر؛و التبغ و اللفائف،و الإبر و الخيط و الأزرار..).
- ثم أردف قائلاً:
- آه نسيت ما قالته لي زوجتي أم محمود ،نعم تذكرت،مرآة صغيرة و ملقط و مقص وسواك و لبان ،ما أكثر مطاليبك يا (....) هل كل الزوجات هكذا ؟،و لكن حركة
السوق الجميلة و طلبات أم محمود أنستني أموراً كثيرة .. ولدي الصغير طلب مني مزماراً ،وورقاً ملوناً .و ابنتي مأمورة طلبت تراجيَ من الذهب البدل"جيز"ماذا يريد هذا الرجل مني لقد أمسكني بقوة و شراسة ؛إنّه ضرير لا يبصر ..صوت مزعج ممسكاً بإزاري و يصرخ بوجهي بصوت بح:
ألا ترى ؟؟ الا تراني أنّني أعمى لا أبصر!!.. و أنتَ بهاتين العينين تدعمني ..تؤذي هذا المسكين (يشير الى نفسه)،الناس ترفق بي و أنت تظلمني في وضح النهار ،ما أتعسك يا رجل ،سأخذك جلدك بعد السلخ للدباغ ؟؟ أفهمت أيها الأحمق؟؟.

لن ينبس ببنت شفة ..ما هذا الغضب ؟ ما هذه الورطة يا إلهي،السوق الجميل أصبح جحيماً لا يطاق.. بل أريد الفرار من هذا الأعمى الوقح،كيف لامسته لا أدري،السبب في طلبات أم محمود ليتني لم أتزوج ،و لم أتورط بهذه المصيبة ..السوق في هرج و مرج و لا أحد يلتفت لنا ... لم يتكلم لحد الآن انتظر الفرج ،أين الحكمة يا أبا محمود ؟؟
ها ها تذكرت مرة حدثني والدي عن قصة شبيهة تماماً لما وقع لي هذا الصباح الجميل الذي عكّر صفاءه هذا الأعمى.. جمع قواه المعنوية و صرخ بوجه الأعمى:
- ألا تراني يا أحمق و أنا فاقد البصر أمضِ و أغرب عن وجهي ، وألا سأنزل على رأسك الفارغ هذه الهراوة - المكوار التي ورثتها من جدي ..سكت الضرير و قال بتأسف :
أأنت مثلي أيضاً أعمى نحن مساكين في خضم هذه الدنيا ،أتحتاج شيئاً يا صديقي ؟
لا أريد منك شيئاً،بل أريد أن تغرب عن وجهي يا ثرثار ...
فتذكرتُ قول الشاعر أبي نؤاس مع نفسي :
دعْ عنك لومي فإنَّ اللومَ إغراءُ
و داوني بالتي كانت هي الداءُ




الدواء، هو العلاج الذي يأخذه المريض لمرض أصابه، والدواء مفرد، الجمع منه الأدوية، ولا يتداوى المرء إلا اذا كان مريضا، ومرادفات كلمة دواء: بلسم، علاج، عقار، ترياق، والضد من دواء: داء، سقم، علة، مرض، أما الداء فهو المرض ظاهراً أو باطناً، والجمع منه: أدواء، والسؤال: كيف يداوي المريض نفسه بالداء الذي يعاني منه؟ إنه أمر مستغرب، لنطالع بيت الشعر كاملاً ليتضح لنا المعنى أكثر، هو يقول:
دع عنك لومي فإن اللوم اغراء
وداوني بالتي كانت هي الداء
صاحب هذا البيت المعروف «أبو نواس»، وهو يوجه بيته الى من لامه على شرب الخمر، فيقول له: ان عتابك الشديد لي غير مجد، ولا فائدة منه على الاطلاق، فتوبيخك وعزلك يزيدني حباً ورغبةً في الخمر، فكلما لمتني أكثر فإنني سأشربها أكثر، فالخمر دائي ودوائي، لأن «أبو نواس» يعتبر الخمر طاردة للهم، باعثة للأنس، هذا ما يراه ويعتقده الشاعر العباسي الشهير. دعونا نتأمل بعض أبيات هذه القصيدة:
دعك عنك لومي فإن اللوم اغراءُ
وداوني بالتي كانت هي الداءُ

صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها
لو مسها حجر مسته سراءُ
قامت بإبريقها والليل معتكر
فلاح من وجهها في البيت لألاءُ
فأرسلت من فم الابريق صافية
كأنما اخذها بالعين اغفاء
رقت عن الماء حتى ما يلائمها
لطافة، وجفا عن شكلها الماء
فلو مزجت بها نوراً لمازجها
حتى تولد أنوار وأضواء
دارت على فتية دان الزمان لهم
فما يصيبهم إلا بما شاؤوا
لتلك أبكي ولا أبكي لمنزلة
كانت تحل بها هند وأسماء
حاشى لدرة أن تبنى الخيام لها
وأن تروح عليها الابل والشاء

فقل لمن يدعي في العلم فلسفة
حفظت شيئاً وغابت عنك اشياء
البيت الأخير في هذه القصيدة بيت حكمة، فمدعي العلم ليس بعالم وان اوهم الناس بذلك، وأبو نواس ذكرته في السلسلة المئوية «بيت سائر.. قاله شاعر» في الجزء الأول والثاني، إلا أن هذا الشاعر لا يستغنى عنه كتاب أدب وشعر، لغزارته ورصانة شعره وشهرته الواسعة خصوصاً حكمه ومديحه ورثاءه وغزله وخمرياته التي لا تجارى ولا تبارى، هو: الحسن بن هانئ بن عبدالأول بن الصباح الحكمي، ولد في الأهواز «الأحواز» جنوب غرب إيران لأب دمشقي، وأم فارسية، في خلافة أبي جعفر المنصور سنة «145 هـ» تعلم على يد شيخ من أشهر شيوخ اللغة والأدب والشعر وهو: خلف الأحمر «ت 180 هـ» فما بلغ الثلاثين من عمره حتى امسك بناصية اللغة والأدب والفقه والحديث واحكام القرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وكان يقول لأصحابه: «ما ظنكم برجل لم يقل الشعر، حتى روى دواوين ستين امرأة منهن الخنساء وليلى الاخيلية» ثم سافر أبو نواس إلى بغداد عاصمة الدولة العباسية وقارع الشعراء حتى بذهم وتفوق عليهم، واصبح المقدم عليهم، ثم اتصل بالخليفة العباسي السادس محمد الأمين وأصبحت له مكانة خاصة عنده، فأغدق عليه الهبات والعطايا بعد أن مدحه بغرر قصائده، مما افقده محبة عبدالله المأمون الخليفة السابع، لشدة ارتباطه ومحبته للأمين. لم يعمر أبو نواس طويلا، فقد توفي في الرابعة والخمسين من عمره سنة «199 هـ» ودفن في الجانب الغربي من بغداد، رآه احد اصحابه في منامه فسأله: ما فعل الله بك؟
قال: غفر الله لي بأبيات قلتها في النرجس وهي:
تأمل في نبات الأرض وانظر
الى اثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات
بأحداق من الذهب السبيك
على كثب الزبرجد شاهدات
بأن الله ليس له شريك
ذكر أحد اصحاب «أبو نواس» وهو محمد بن نافع، أنه هجره أواخر أيامه، فبلغه وفاة «أبو نواس» فاشتد حزنه وندم على أنه لم يتصالح معه، فبينما هو بين النائم واليقظان إذ هو يرى «أبو نواس» فقال له: أبا نواس!! فرد قائلا: لات حين كنية!! «أي انتهت الكنية بعد وفاتي» فقال له: الحسن بن هاني؟ قال: نعم، قال ما فعل الله بك؟ قال: غفر الله لي بأبيات قلتها في مرضي، وهي تحت وسادتي.
يقول محمد بن نافع: فذهبت الى منزله وما أن رأوني أهله حتى تذكروه وأجهشوا بالبكاء، لصحبتي له، فقلت لهم: ترك أخي الحسن شعراً قبل وفاته؟ قالوا: لا نعلم، الا انه دعا بدواة وقرطاس، وكتب شيئا،لا ندري ما هو!! فدخل محمد حجرته، فإذ بثيابه مكانها، فرفع وسادته فإذ برقعة مكتوب فيها:
يارب ان عظمت ذنوبي كثرة
فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن
فبمن يلون ويستجير المجرم
أدعوك رب كما امرت تضرعا
فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم
مالي إليك وسيلة إلا الرجا
وجميل عفوك ثم إني مسلم
وما أجمل مناجاة «أبو نواس» لربه وتمجيده للواحد الأحد حيث يقول:
إلهنا ما أعدلك
مليك كل من ملك
لبيك قد لبيت لك
لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك
ما خاب عبد سألك
أنت له حيث سلك
لولاك يا ربي هلك
لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك
كل نبي وملك
وكل من أهل لك
وكل عبد سألك
سبح أو لبى فلك
لبيك ان الحمد لك
والملك لا شريك لك
والليل لما أن حلك
والسابحات في الفلك
على مجاري المنسلك
لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك
يا خاطئاً ما أغفلك
اعمل وبادر أجلك
واختم بخير عملك
لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك
دمتم سالمين وفي أمان الله








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا