الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فاطمة وهيدي في -قلوب ضالة- لا تشيد الجدران، بقدر ما تنحت نوافذ تسمح بانبعاث حياة

عزيز باكوش
إعلامي من المغرب

(Bakouch Azziz)

2023 / 1 / 12
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


عن دار روافد للنشر والتوزيع بالقاهرة ،صدر للقاصة والشاعرة المصرية فاطمة وهيدي مجموعة قصصية موسومة ب" قلوب ضالة " طبعة 2021، الإصدار الذي جاء في 141 صفحة من القطع المتوسط ،مزدان بلوحة غلاف للمصمم رائد مجدي ويشتمل على 15 قصة وهي على التوالي: الصورة قبل الأخيرة- الليالي العشر- اغتيال -الفردوس- شبح الماضي- صندوق الفرح- فوضى الروح- الفار- الهروب- بلا قضبان- دموع موقوتة- عشاء أخير فرحة ما تمت- قلوب ضالة - كائن يحيا الموت
إن الغوص في المتن القصصي الوهيدي، إذا صح التوصيف ،يسمح بالعثور على شيء من شارلوك هولمز وقليل من أگاتا كريستي. فالقارئ غالبا ما يصل إلى نهايات مذهلة ،بناء على فرضيات وتحليلات وملاحظات يعتبرها بسيطة عادية وهادئة لأول وهلة ،لكن سرعان ما سترتقي ارتعاشاته المريبة كي تنسكب قطرات ندى في مهاوي ضلالة القلوب . و مع تقدم الغوص، تتكاثف الأمواج ،ويرتفع منسوب الدهشة، نسيجا دراميا موغلا في المأساوية .

لقد أصخت السمع بإلتياع إلى هذه الأضمومة السردية منذ البداية ،وكنت لحظتها أتهجى أوجاع مصر ،وأقيس نكسات العرب بتيرمومتر محلي الصنع نابضا بالحياة ،راجفا بالأمل ، رافعا أشرعة الحلم عالية فوق صواري سفن جامحة . في بحر يتلظى لغة وأحلاما ومنافذ ضوء ترن في الخيال. مع وهيدي نمشي في ممرات مجهولة ،ننزلق عنوة في عتماتها الموحشة ،ثم ما نلبث أن نصنع من أوجاعنا فتائل من نور يتقوى توهجه مع المسير.

إنه إبليس الذي يركبنا ، ويربكنا ،ونمتطي صهوته اللئيمة نخوة، لتصبح الخيبات المتتالية عطبا نفسيا مزمنا في خاصرة الأجيال ،وتغدو الضلالة بالمعنى الوهيدي ،إشكالية ثقافية مجتمعية قائمة الذات. لكن سرعان ما ستفتح المؤلفة في أجسادنا المعطوبة نوافذ سيكولوجية مضيئة ،وهالات نور فائقة السطوع ،تسمح على التوازي بانبعاث خيوط آمل ،ونسائم فرح وحياة، يتدفق عبر أليافها الدقيقة بصيص نور ، يتشبث فيه الفرح بالتفاؤل ،والدهشة بالقراءة الممتعة من جديد

بهذا المعنى ،يمكن اعتبار التجربة القصصية لفاطمة وهيدي دعوة مفتوحة واستدراج رائق إلى صناع المحتوى السينمائي من كتاب السيناريو والمولوعين بإنتاج الدهشة في الكتابة والحكي بالصورة بأبعادها المختلفة،داخل مصر وخارجها من أجل استلهام تيمات مفعمة بالذهول والحبور معا ، كما تشكل من ناحية ثانية ،طرق موجع وعنيف على باب الإبداع الجمالي في النص الأدبي والرهبة الجوانية الموسومة باهتزاز القلب .

تبرز القصة عند وهيدي سلسلة بث متواتر لأحزان الناس ،على قنوات أنفسهم اللوامة ، حيث تتابع كتل من أفكار وساوس وهلوسات تأتي رسائل وحوارات مرة ،ومشاهد ورؤى بصرية متباينة الأمزجة تارة أخرى ،ليس لمجرد الحكي والاستئناس المجاني ،بل من أجل استخلاص العبر والدروس في الحياة .إن القصة بهذا الزخم الرؤيوي ،بمثابة سوط يُقَوم اعوجاجا ما ،يرتق بؤسنا المحبوك،بسخرية لاذعة حينا ،وبالغة القسوة في أغلب الأحيان. إنها ذبذبات لا تكتفي بترصد يقظ لكل ما تمور به النفوس الضالة بقلوبها ،بل تجعله سما زعافا بطعم الشكولاتة ، عبر أسلوب مطرز بالسخرية السمراء والجاذبية الموجعة لنياط القلب، لنقل مؤقتا ، هزة مرتدة قادرة على خلق توازن سيكولوجي ما .

تنتقي وهيدي قصصها من محيط عربي شاسع الأوجاع ، وتوضبها بأسلوب يدخل الدفء إلى الجليد، فتتزلج اللذة برشاقة وهي في كامل اخضرارها ويناعتها ، تيمات لا تشيد الجدران ،بقدر ما تفتح نوافذ الأمل مشرعة لطرد الفوضى وكنس الكسل من الحياة اليومية. نصوص تشكل في مجملها محتوى أدبيا قابلا للتحول إلى مشاهد سينمائية حابسة للأنفاس . كما أن إيصالها بالصورة والصوت إلى قاعدة جماهيرية بصرية بالغة الاتساع ،بات وسيظل رهانا ثقافيا بامتياز ،مطلوبا ومرغوبا في ظل انحسار السينما واستهلاكها راهنا كأي أصل تجاري.

من هذا المنطلق أستطيع أن أجزم أن قصص فاطمة وهيدي، ال 15 ، كلها عبارة عن سيناريوهات جاهزة للتصوير ، تبهر بحبكتها الفنية ،وتسحر المشاهد بتواتر أحداثها الدرامية المتصاعدة ، التي لا تقل أهمية عن ما نشاهده في إبداعات الدهشة المريبة عند كبار كتاب الرجفات المريعة ،ومبدعي سيناريوهات الرعب و نجوم سينما هوليود .ليس لأن أبطال قصص وهيدي كلها مصرية في عاداتها وتقاليدها ممارساتها وأسلوب حياتها، بل لأنها شخصيات غريبة، متقلبة الأطوار تتسم بالضبابية والخوف ،وسقوفها عاجزة عن طرد النتانة الباردة ،شخصيات من صلب المجتمع المصري ،فيما يتعلق بالتنظيم الديمغرافي وشكل المعيش اليومي البئيس النابض الموجع النبرات .

فما يبدو للآخرين في هذه الشخصيات من فوضى وما يصدر عنهم من مواقف سخيفة لا قيمة لها، تراه فاطمة وهيدي ثروة فكرية ودرسا في الحياة. تصوغه في قالب أدبي رشيق ،مفعم بالحسرة والأمل الذي لا سقف له . بمعنى آخر ،إنه الانتقام الأنيق للحب المتمنع الهارب أحيانا ، والجراحة الموضعية في القلب دون خدوش في الأنياط. إنها استيتيكا للروح كاملة الدسم فائقة الجودة . وطوال سير أحداث القصص وبنائها الدرامي ، كانت وهيدي دائما ما تقود قارئها في متاهات من الفوضى الجذابة ، انطلاقا من رؤى بصرية ومشاهد بؤس مجتمعي معلن ومكشوف ، ليقتفيا معا أثر الجريمة ،ويرصدا ناظما أخلاقيا إيجابيا لابد أن يمر من هناك . ليعمدا بعد ذلك إلى طرق الضمائر وأبواب الوعي الموصدة من أجل العثور على شيء يعطي للحياة معنى من جهة ، ويمنح القراءة المتعة والجاذبية التي تستحقها من ناحية ثانية.
في هذه السرديات ،يعثر القارئ المتحمس، على المنبه كي يستفيق من الكابوس . لأن المؤلفة القاصة ستشرع في حصر مسرح الجريمة ، وتجميع الأنقاض والشظايا ،وعرضها تحت المختبر القيمي لتحديد الملابسات لكشف الفاعل . في إشارة إلى تلك النهايات المفعمة بالرضى المضمخ بالالتباس . إذ في المتن القصصي الوهيدي يمكن لجميع العينات المختارة من البشر أن تتحسس قلوبها النابضة ، وتكشف غيها وضلالها بنفسها،على أن تتسم بشيء من الحكمة أثناء القراءة في استنباط الدرس السيكولوجي المتبل بعناصر الجدة و الإبهار.

فكل الألغاز المحكية هي وقائع وأحداث من عمق المجتمع سرعان ما تجد لها حلا شبيها بترياق للنفس والجسد معا ،مادام لكل قلب غيه وضلاله ،فإن سمة الضياع ،وحالة الانزلاق عن الصراط القويم ،يعد انحرافا حقيقيا وخروجا فعليا عن المسار الطبيعي لحياة البشر تسعى وهيدي إلى كشفه عاريا تحت الشمس .هكذا ، من خلال تتبع الانحراف السلوكي للشخصيات والانزياح السيكولوجي لأبطال قصص وهيدي يتأكد لنا أمرين: الأول كونه منتوج ثقافي محلي خالص . الأمر الثاني أن جميع أشكال الضلالة والخروج على المسار السوي،هي حالات ثقافية وتربوية قابلة للعلاج .

في قصة "الصورة قبل الأخيرة" التي تتصدر المجموعة يظهر البطل "صابر" الذي يشتغل مصورا فوتوغرافيا متجولا ، تلك المهنة التي باتت مهددة بالانقراض بفضل هيمنة أجهزة التصوير المتطورة ،والسمارتفون الذكي . لقد أصبح للعشاق هواتف ذكية تقوم بتلبية رغباتهم في توثيق أجمل وأخطر اللحظات دون اللجوء إلى أحد . صابر ستقوده قسوة المعيش اليومي إلى عرض آلة التصوير للبيع ،رغم أنها مصدر رزقه الوحيد ، الصدفة نفسها ستقوده إلى العثور على عمل كمصور في ملهى ليلي ،حيث للصورة تحت الطلب أجرا معتبرا. لكنه خاضع لجشع رب العمل . وتشاء الأقدار السيئة إلا أن تعكر مزاج صابر ،بكبسة طائشة أجهزت على ما في ذاكرة الكاميرا مما التقطه لراقصة الإثارة والإغواء ، ما استدعى تدخل الأمن والاعتداء على صابر لدرجة فقدان الوعي ، لكن قبل ذلك بقليل، شعر صابر بأحدهم ينتزع الكاميرا من رقبته وصرخ متوسلا " خذوا عمري ولا تأخذوها ".

وعلى نفس الإيقاع لضلالة القلب وانحرافه الرجيم ، تتغذى جميع قصص المجموعة . في قصة "الليالي العشر" ستقع "حمدية" بائعة الساندويتشات في المحظور ، وتقيم علاقة جنسية مع ابنها حسام الذي ستخطط لتخذيره بأقراص منومة . لقد أوصلها ضنك العيش والرغبة في إطفاء شهوة الجسد إلى تنويم حسام ابنها والدخول معه في علاقة جنسية بعد نزع ملابسهما " في واقعة تعد الأبشع والأفضع الإطلاق في عالم الضلالة والانحراف.

وفي قصة "فردوس" الشابة التي دخلت في عالم سيكوباتي نظرا لفقدها والدتها ،ما جعلها لا تصدق وفاتها فتنتظرها في كل لحظة وحين ، وفي لحظة شاردة توجهت نحو النافذة كي تطل على والدتها ، فاختل توازنها وسقطت،لكن قبل أن تصل إلى الأرض، صعدت روحها إلى السماء لتحتضن وجه أمها" إن تيمة ضلالة القلوب ،ستلازم كل أطياف المجتمع فبدء من الأستاذ الذي يتحرش بتلامذته الواحدة تلو الأخرى. لتتوالى الانحرافات والضلالات، يتبعها الشعور بالأسى، والحزن العميق .
تكمن الضلالة كذلك في مجمل الحالات النفسية المعروضة لا سيما تلك الحالات الاجتماعية التي تحاول ، الخروج من الروتين اليومي الحياة ، والاشتراك في مغامرات غير محسوبة العواقب ، منها الدخول في علاقات غير شرعية يستوي في ذلك الزوج والزوجة

و يتجلى أشكال الضلال في تحول المجتمع الأسري إلى جحيم بسبب تصرفات الزوجة أو ابنتها، وحين ويتحالف نور الشاب الوسيم مع والدته في رسم خطة للإيقاع بجميلة الشابة ، ابنة الخادمة . وإيهامها بحبه وزواجه منها ،لكن بشكل سري بعدما تظاهر بطلاق زوجته الأولى . وما قاما به تجاه (جميلة) من خداع وخيانة. ليتضح أن الأمر لا يعدو كونه يريد "قلب " جميلة الفتاة بعد قتلها، ومنحه لزوجته المريضة .ويبقى لافتا الحضور القوي للأنثى في غالبية قصص المجموعة .لقد استطاعت القاصة أن تنقل هموم المرأة المصرية و قضاياها ومشاكلها النفسية والمجتمعية بأسلوب إبداعي غاية في الجمال والجاذبية .
وسيلاحظ القارئ توظيف مستويين في السرد القصصي للكاتبة وهيدي ،اعتماد اللغة العربية الفصحى ،لخلق تفاعل وتواصل بين الشخصيات في مستواه الاجتماعي العادي . كما استعملت اللغة الدارجة المصرية في الزمان والمكان المناسبين بغية خلق الدينامية المطلوبة ونقل القناعات المشتركة .وعلى سبيل الختم . توفقت الكاتبة إلى حد كبير في إشراك قارئها وإمتاعه ، بل ظهرت مقنعة في تصورها للمجتمع ،وهي تنقل جزء من ثقافته ونمط حياته دونما تحيز أو مواربة .


وفاطمة وهيدي شاعرة، وأديبة، وروائية ، وتكتب الشعر والقصة القصيرة، والقصة القصيرة جدا وقصص الأطفال ونشرت قصائدها وقصصها ومقالاتها في الدوريات المصرية والعربية.
وشاركت في الندوات والمؤتمرات والملتقيات الثقافية والاحتفاليات الأدبية في مناطق عديدة من مصر والعالم العربي (الأردن، تونس، المغرب) والهند وصدر لها "تقاسيمٌ على وَتَر الشَّوْق" ـ شعر ونصوص ـ دار شمس للنشر والتوزيع ـ القاهرة ـ عام 2011م. و"لا عزاءَ للحُلم" ـ قصص ـ دار رَهَف للنشر والتوزيع ـ القاهرة ـ عام 2012م
و"نبضات" ـ شذرات نثرية ـ دار كَلِيم للنشر والتوزيع ـ القاهرة ـ عام 2013م.
و"ثلوجٌ سَوداء" ـ قصص قصيرة جدًّا .
و"شذراتٌ عبَّقها الهوى" ـ شذرات نثرية ـ
و"ما لَنْ تَقولَهُ شهرزاد" (قصصٌ كسيرةٌ جدًّا) ـ قصص قصيرة جدًّا ـ سلسلة الإبداع العربي، دار النابغة للنشر والتوزيع ـ طنطا ـ 2015م. ووِرد الغياب . نصوص و "قبل مشرق الحب بـ نبضة" ـ شعر.
أما الأعمال الإبداعية المطبوعة للأطفال هي :نور والخاتم المسحور – قصة :آلة السعادة– قصة - اجتماع الثلاثاء – قصة غدير والشعر الحرير-
وحصلت فاطمة وهيدي على العديد من الجوائز الأدبية وهي :جائزة مهرجان الناظور للقصة القصيرة جدا، في مجال القصة القصيرة جدا، عن المجموعة القصصية "ما لَنْ تَقولَهُ شهرزاد" (قصصٌ كسيرةٌ جدًّا) ـ المملكة المغربية، مارس عام 2016م.وكرّمتْها جامعة كالينجا الهندية، بمنحها درعَ الجامعة، ووشاح البلاد في مهرجان كالا نيرفاتا الدولي الثالث للفنون والثقافة، عام 2015م. كما كَرَّمتْها المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو) ضمن الشخصيات العامة في المهرجان الدولي الثالث للأم المثالية، 21 مارس 2016م. وكَرَّمتْها أيضا الرابطة العربية للقصة القصيرة جدا (جمعية جسور للبحث في الثقافة والفنون) في المهرجان السادس للقصة القصيرة جدا بالمملكة المغربية الناظور مارس 2017م. كما قدمت قراءات شعرية وقصص مؤخرا بفاس المغرب خلال أمسية احتفاء بالشاعرة المصرية عبير العطار ،أقامها المركز الأكاديمي للدراسات الثقافية والأبحاث التربوية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا نعرف عن انفجارات أصفهان حتى الآن؟


.. دوي انفجارات في إيران والإعلام الأمريكي يتحدث عن ضربة إسرائي




.. الهند: نحو مليار ناخب وأكثر من مليون مركز اقتراع.. انتخابات


.. غموض يكتنف طبيعة الرد الإسرائيلي على إيران




.. شرطة نيويورك تقتحم حرم جامعة كولومبيا وتعتقل طلابا محتجين عل