الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عواقب تسنين الثورة السورية

ياسين الحاج صالح

2023 / 1 / 13
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


استقر العمق الانفعالي للثورة السورية على البيئات السنية في عام 2013 وما بعد، فلم يبق من المقاتلين ضد النظام غير المنحدرين منها. أقصى تسنين نازع إلى التشدد غير السنيين من المقاتلين السوريين، ورحب من وجه آخر بجهاديين سنيين غير سوريين. كان هذا وخيم العواقب على صورة صراعنا في العالم، وعلى مستوى مستقبل سورية السياسي، كما على مستوى المستقبل السياسي للسنيين السوريين بالذات.
قبل كل شيء لم تستقر الثورة على عمق سني متماثل مع ذاته وموجود سابقاً، بل على عمق سني مُنشَّط، جانح نحو صيغه الأشد تعبوية وانعزالية ومقاطعة للعالم، وليس بحال سنية اجتماعية تقليدية، أو ما كان يوصف أحياناً بـ"الإسلام الشامي الوسطي". يتعلق الأمر بعملية أسلمة للمسلمين وتسنيين للسنيين، أي صنع السنيين المضاعفين، وهو ما جرى على حساب السنيات التقليدية المتعددة داخلياً والمتنوعة بتنوع بيئاتها. وقد اقتضى الأمر استنفار مظلومية كلية، تدرج مظالم حقيقية في نسيج تظلم شامل من العالم المعاصر. ما تقرره المظلومية الكلية ليس فقط تعريف العالم كعدو، وإنما كذلك تعريف الذات كإسلام حصراً، مع إعادة تعريف الإسلام ذاته كإسلام فقهي و"عالِم"، وليس الإسلام الاجتماعي التاريخي المتصالح عموماً مع زمنه ومحيطه. ثم كذلك إعادة تعريف سورية نفسها بهذا الإسلام غير الاجتماعي، على ما تظهر "وثيقة الهوية السورية" التي خرج بها مشايخ "المجلس الإسلامي السوري" قبل نحو عامين.
الوثيقة الوجيزة (بالكاد 190 كلمة) صادرة عن وعي سني مشتط، مغترب بالمعنيين الحرفي والمجازي للكلمة. فالمشايخ الذين أصدروها يعيشون في تركيا، غرباء لاجئين خارج بلدهم، وهم شكلوا مجلسهم في سنوات لجوئهم؛ ثم إن وعيهم مغترب عن واقع الحال السوري التعددي دينياً ومذهبياً وثقافياً وسياسياً، فلا يرتد إلى واقع سني أكثر مما يرتد إلى واقع عربي (هنا نقد مفصل للوثيقة يتضمن نصها). والحال أن التصور الإسلامي لسورية أشد استبعادية من التصور العروبي، ويتصف سلفاً بعدائية وتوتر حيال غير السنيين وغير النمطيين من السنيين، قلما اتصف بهما بالقدر نفسه التصور العروبي حيال غير العرب. الوعي السني كما مثله المشايخ ممزق بين عتو امبراطوري مألوف، يدفع هؤلاء الذكور المسنّين، الملتحين، اللاجئين، إلى الكلام كأنهم أصحاب البيت في سورية على نحو تكذبه حالهم بالذات، وبين هذه الحال البائسة الحزينة التي لم تدفع المشايخ إلى التواضع لمواطنيهم والقبول بالندية والبحث عن جوامع ومشتركات.
والواقع أن هناك مشكلة سياسة وقيادة معقدة في تكوين ووعي الإسلامية السنية السورية المعاصرة، فاقمها ما تعرضت له بيئات النسيين السوريين من تمييز واستبعاد في بلدهم، ومنعهم من أي أشكال مستقلة أو شبه مستقلة من التنظيم. بيد أن من أسس المشكلة أن سياسة الإسلاميين هي السيادة أو طلب السيادة، وليس أن يكونوا طرفاً سياسياً إلى جانب غيرهم في بلدان تعددية مثل سورية (ومصر، وفلسطين والأردن وكل بلد آخر على الإطلاق). طلب السيادة يعني فرض نظام حزب واحد إسلامي، عنيف، مثل إيران، وفي الأغلب أسوأ؛ أو هو يعني حالة حرب أهلية مستمرة مثل الدولة الأسدية، لكنها هنا أسدية سنية. لا يريد الإسلاميون أن يكونوا حزباً أو أحزاباً في سورية أو غيرها، تنشط إلى جانب غيرها، بل أن يكونوا الدولة. وهذا لا يمكن أن يكون مقبولاً من جميع غير المسلمين ومن جميع المسلمين غير الإسلاميين، وربما كذلك من بعض الإسلاميين العقلاء وغير السياديين.
وغير أزمة السياسة ثمة أزمة قيادة سنية، يكمن في جذرها الركون إلى المظلومية وما تدفع إليه من توجه نحو الماضي وأعماق النفس، ومن انعزال وصغر، ومن نرجسية وكره للغير، بدلاً من مقاومة الظلم وما يدعو إليه من توجه نحو الغير والمستقبل والعالم، ومن نمو ونضج. ليس هناك حلول في الماضي لمشكلات اليوم، وليس ثمة حل إسلامي، سني أو غير سني، لأزمة القيادة. والتجربة مُحكِّمة: فلم تنتج الإسلامية السورية غير رجال صغار متعصبين غير عقلاء، يقودون حصراً نحو الخراب والتدمير الذاتي، قيادات "تبدأ بزهران علوش، لتنتهي بأبي محمد الجولاني، مروراً بـ «المعجزة» أبو عمشة"، على ما ذكر شكري الريان في مقالة مريرة قبل حين. فإن كان من حل لأزمة القيادة فهو في التوجه نحو العالم، أي نحو المشاركة مع الغير، بدءاً من المواطنين المختلفين وصولاً إلى حلفاء في العالم.
وعبر أزمة السياسة والقيادة، تظهر السنية السورية أقلية عصبية وقلقة، خائفة من الانحلال وميالة إلى الانعزال، لا شركاء لها ولا حلفاء، طائفة ذات احتياجات خاصة، بحسب التعبير اللاذع والبليغ لعمر قدور. أي عملياً جماعة معاقة. لقد عمل الحكم الأسدي على صنع أقليات في سورية بحيث يمتنع أن تتشكل أي أكثرية سياسية ضده، لكن يجب القول إن الإسلامية السنية تجاوبت بكامل ما استطاعت استجماعه من غفلة مع هذا المسعى باسم كون السنين هم الأكثرية الجاهزة والدائمة. هذا باطل: فلم تكن للسنيين سياسة محددة في أي وقت، وكان أوساطهم المدينية قومية عربية حتى سبعينات القرن العشرين. والإسلاميون بين السوريين ككل، كما بين السنيين، أقلية سياسية (في مرتبة 20% من مجموع أصوات المنتخبين على ما ظهر في تونس ومصر)، تُكثُر نفسها باسم الإسلام لتسوغ مطامحها السيادية، وهذا بالضبط مثلما هم البعثيون أقلية سياسية كثرت نفسها باسم العروبة واستولت على الدولة. وبالمناسبة، الأرجح أن تطييف النظام وتوريثه عائلياً في "سورية الأسد" كان حلاً لأقلوية البعثيين، يزودها بركيزة حكم صلبة. ثم إن الأقلوية الإسلامية السنية منقسمة على نفسها إلى أقلويات متنازعة، تقلل كل منها وكلها معاً أكثر وأكثر، ولعلها تشرح عداءها للديمقراطية ونزوعها إلى العنف. ومثلما كان برنامج الأقلوية البعثية في تعريب العرب (وغير العرب) عبئاً على العروبة ومنبع نزاعات مفتوحة في النطاق العربي الأوسع، فإن برنامج أقليات الإسلاميين السنيين في أسلمة المسلمين هو سلفاً عبء على الإسلام وعموم المسلمين ومنبع احتراب مستمر. والبرنامجان معا ينطويان على خصخصخة للصفة العربية مرة والصفة الإسلامية مرة، بيد الحزب القومي العربي مرة والحزب الإسلامي مرة، قبل أن يقرر مالكا العروبة والإسلام من يقبلون به كعربي حقيقي ومسلم حقيقي ومن ليس كذلك. وعبر خصخصة ما هو عام، في البرنامجين معاً مزايدة باهظة على تاريخ العرب والمسلمين في سورية، كما على تاريخ سورية ذاتها ككيان وطني حديث.
وبفعل الديناميكية الأقلوية، تحول الموقع المتني للمسلمين السنيين في المجتمع السوري من قاعدة استقلال ووحدة سورية إلى ركيزة تبعية وتمزق وطنيين، تماماً مثل النظام.
سورية اليوم تشبه الحكم الأسدي، بلد متكسر بفعل واحدية ضيقة صلبة فرضت عليها طوال أكثر من نصف قرن. وبمنظماتها الكثيرة المتشابهة، تشبه السنية المضاعفة الحكم الأسدي في الواحدية المتكسرة إلى واحديات قاسية، تضيق بغيرها دون أن تتسع حتى لنفسها أو لنفوسها المتعددة. أضاعت تراثها الاجتماعي المتنوع والتعددي دون أن تكسب شيئاً بالمقابل.
لقد فشلت الثورة السورية بأثر إهدار الروحية الجامعة التي عرضتها في البدايات، وحلول روح استئثارية تقسيمية ومنقسمة هي ذاتها، لم تتشكل حولها حتى أقلية، بل نثار من أقليات، كانت طوال الوقت قوى حرب أهلية في سورية مثل النظام، وفي الثورة السورية مثلما يشتهي النظام، ثم في الأرخبيل الإسلامي السني ذاته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - كلمة رفاقية
جورج حداد ( 2023 / 1 / 14 - 07:45 )
الاخ العزيز الاستاذ ياسين المحترم
للاسف انني لا اعرفك شخصيا ولكن لدي فكرة اساسية عنك انك من انظف واوعى المثقفين
اليساريين السوريين
وسؤالي لك: بعد كل هذه المأساة المدمرة في سوريا - اما آن الاوان ان ترى:
ـ1ـ ان المشكلة الرئيسية في سوريا (كما في لبنان وفلسطين ومصر وكل قطعة من الفسيفساء المسماة عربية) هي مشكلة التحرر الوطني من الامبريالية والطغمة المالية اليهودية العالمية (بمتفرعاتها الصهيونية واسرائيل) - وان مشكلة طبيعة الانظمة العربية الدكتاتورية او الدمقراطية الخ هي مشكلة ثانوية متفرعة مع كل اهميتها
ـ2ـ ان كل ما جرى في سوريا مما يسمى -ثورة- مزيفة لم يكن سوى سيناريو مسرحية من تأليف واخراج المخابرات الاميركيةة والناتوية والتركية والاسرائيلية، وان كل اليسار السوري لم يكن سوى -قرقة كشكش- وكومبارس غبي ـ في منتهى الغباء ـ لعب الدور المرسوم له في
تلك المسرحية بصرف النظر عن جميع النوايا الحسنة
ـ3ـ ان الاسلام السياسي قد اانقسم نهائيا الى قسمين: الاول معاد للامبريالية والصهيونية، ويمثله النظام الاسلامي الايراني وحزب الله --- والثاني موال للامبريالية والصهيونية مثلته بامتياز -الثورة السورية- -

اخر الافلام

.. ضربة إسرائيلية ضد إيران في أصفهان.. جيمس كلابر: سلم التصعيد


.. واشنطن تسقط بالفيتو مشروع قرار بمجلس الأمن لمنح فلسطين صفة ا




.. قصف أصفهان بمثابة رسالة إسرائيلية على قدرة الجيش على ضرب منا


.. وزير الأمن القومي الإسرائيلي بن غفير تعليقا على ما تعرضت له




.. فلسطيني: إسرائيل لم تترك بشرا أو حيوانا أو طيرا في غزة