الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأم في كتاب رنين القيد -عنان زاهي الشلبي-

رائد الحواري

2023 / 1 / 14
أوراق كتبت في وعن السجن


الأم في كتاب رنين القيد
"عنان زاهي الشلبي"
ما يحسب لأدب الأسرى تجاوزه الموضوع ووصوله إلى الشكل الأدبي الذي يليق بالأدب، فلم تعد الفكرة هي الدافع للكتابة فحسب، بل أصبحت الفنية وطريقة التقديم هي المحفز للكاتب ليقدم ما لديه من مادة.
الكتاب يحمل مضمون مؤلم، لما فيه من وجع إنساني، لكنه صيغة بلغة مفعمة بالمشاعر والأحاسيس النبيلة، وقدم بشكل مقاطع (صغيرة) لكنها توصل الفكرة والفنية الأدبية، وهذا ما يجعل المتلقي يتناول الكتاب في جلسة واحدة، وبهذا يكون "عنان الشلبي" قد حقق أول نجاح في "رنين القيد".
رغم الألم الحاضر في الفكرة، إلا أن الجانب العاطفي/الإنساني كان بمثابة الطاقة التي يستمد منها القارئ ليتعرف أكثر على ما جاء في الكتاب، وبما أن هناك تسلسل وتتابع للأحداث التي قدمت بطرقة مختزلة ومكثفة، كل هذا يجعل القارئ ينتشي بما قدم له، من هنا سنحاول التوقف قليلا عند بعض المحطات المفصلية في "رنين القيد".
الأم
الكثير من الأسرى تناول أمهاتهم، لكن "عنان الشلبي" جعل حضورها يطغى على بقية الأهل وكل من عرفهم، يحدثنا عن حبه لها من خلال تقديم اجمل هدية لها، والتي تتمثل ـ باعتقاده ـ في استشهاده، لكن القدر يشاء أن يقع أسيرا، وهذا ما جعله يندم على تلك الهدية التي لو تمت لكان، حزنها عليه أكثر وأشد وقعا من الأسر: "...وجريمتي التي اقترفتها بحق أم تعودت أن أقدم لها في عيد الأم وردا وإذا بي أقدم لها حزنا بحجم وطن، وجرحا باتساع حفرة كنت سآوي إليها، ...أكتب لك في هذا اليوم الذي ذهبت به ولم تعد، جعلت من هذا اليوم يوما للبكاء، يوما للحزن، يوما للإحفاء بالمأساة، لقد أصبح بالنسبة لي أسوأ الأيام... أقبل في ذهل الحزن فاغفري لي تلك الحماقة، فإن قدر لي ثانية التضحية بنفسي فلن يكون ذلك في عيد الأم، فهذا اليوم سيكون لك وحدك" ص14و15، نلاحظ أن الأسير يندم على ما كان يريد فعله، يندم على أسمى فعل يفعله الإنسان، التضحية بالنفس في سبيل الوطن والشعب، وذلك بسبب إعادة تفكيره بأمه، وكأن الحياة التي منحتها له منذ أن كان نطفة في رحمها، جعله يستعيد رغبته في الحياة من جديد، فكان هذا الموقف معبرا عن طريقة تفكير ونهج جديد.
وعندما يصدر حكم بمدى الحياة على "عنان الشلبي" يكون وقعه عليها بهذا الشكل: "بدأت بالصراخ وكيل الشتائم في وجه القاضي ودولته المسخ، وقد أغمي عليها من شدة البكاء والصراخ لتسقط داخل عيادة ما يغرف بمحكمة سالم العسكرية" ص31، إذا ما ربطنا هذا المشهد مع حديث الأسير عن (تراجعه النضالي وندمه) على ما كان يريد فعله، نجد له مبررا، فإذا كان الحكم عليه بمدى الحياة فعل بها هذا، فكيف سيكون حالها إذا ما استشهد؟
في زيارتها "لعنان" تحاول أن تهرب هاتف نقال داخل الكتب، لكن يتم كشفها، ويصدر القاضي حكمه عليها، كأم وليس كشخص حاول التعدي وتجاوز القوانين المعمول بها داخل السجن: " ..وحرمانها من الزيارة لمدة سبع سنوات، سبع سنوات عجاف دفعت أمي للصراخ في وجه القاضي، ولربما رجائها بأن يأمر باعتقالها على أن يسمح لها بزيارة ابنها وهذا ما لم يحصل" ص56.
وبعد أن تنتهي تلك السنوات العجاف، تزوره في ظرف قاسية جدا، قاسية على مستوى إجراءات الاحتلال، وقاسية بسبب الظروف الجوية: "...وخرجت إلى قاعة الزيارة الباردة، الزجاج الفاصل والمقاعد الإسمنتية والفراغ المائل، كل ذلك يدخل فكرة البرد إلى العقول والأجساد، لم يكن في القاعة غير أربعة أسرى فقط، ...حين رأيتها تجلس بلهفتها على مقعد إسمنتي بارد تتلفت يمنة ويسارا بانتظاري بكى قلبي كطفل سرقوا له كل ألعابة، وذبحت حيا حين رأيتها ترتجف بالكاد قادرة على امتشاق يد الهاتف البارد، انفجرت بكاء ولم استطع كبح دموعي أمام هذا المشهد الذي يفيض أما، أية أم أنت يا عطاف؟ ألم أرجوك بعدم المجيء لزيارتي؟ ألم أقل لك أن رؤيتي لك بهذا الشكل ستحرقني؟
كانت الكلمات تخرج راجفة من فمها وصوتها بالكاد تماسك حين قالت إنها ستواظب على زيارتي مهما كلفها الأمر من عناء.
...تسافر أكثر من سبع ساعات ذهابا ومثلها إيابا بالبرد القارس أو بالحر القائظ لتجلس أمام طفلها على مقعد إسمنتي عار، يرتعش كل جسدها، حتى صوتها يرتعش لتراني لثلاثة أرباع الساعة ثم تغادر بكل ما في تلك الرحلة من مشقة وتعب.
حقا نحن لم نختبر التضحية الحقيقية مهما أنفقنا من سنوات داخل الأسر إلا من خلال أمهات آثرن فعل التضحية كهواية تتوجهن أوطانا لنا" ص64و65، من أراد أن يتطهر عاطفيا فعليه التوقف عند هذا المشهد، من أراد أن يصل إلى ذروة الإنسانية عليه يتأمل هذا الموقف، ومن يريد أن يعرف وحشية المحتل عليه أن يقرأ "رنين القيد"
لا أبالغ أن قلت أن هذا المشهد يفجر إنسانية القارئ، ويجعله يتقدم ليكون رحميا قديسا، يحمل المحبة والرحمة للناس.
وهذا ما يجعلنا نقول: أن "عنان الشلبي" استطاع أن يجمع جمالية المضمون وإنسانيته مع فنية اللغة، بحيث ينتشي القارئ إنسانيا، ويرتفع انحيازه لحق الوطني الفلسطيني، وأيضا ينمي تذوقه للأدب، فلمثل هؤلاء نقرأ، ونستمتع، ونستفيد، ونرتقي إنسانيا ووطنا وعاطفيا.
تصاب الأم بجلطة تفقدها الذاكرة بحيث لم تقدر على التعرف على من هم حوالها، ولكن بعد أن تسمع "صوت" عنان من الهاتف تعود إليها ذاكرتها: "...أنا ابنك أتحدث من اسجن، كأن لفظة السجن أيقظت ذاكرتها، فصرخت باسمي وقد استعادت الذاكرة واستعادت دورها كأم لا تريد لابنها الأسير أن يعبأ بمرضها، أخذت في طمأنتي على صحتها، بأنها ستشفى من أجلي وأنها ستنتظر تحرري لألقاها هناك في البيت حيث ستنتظرني كما فعلت على مدار عشرين عاما" ص97، المدهش في هذا المشهد أن الأم رغم ما فيها من مرض، ورغم أنها لم تعد تقدر على ممارسة دورها كأم في الأسرة، إلا أن سماعها لصوت "عنان" أيقظ فيها دورها كأم، وكأم أسير، فاستعادت ذاكرتها، فبدت وكأنها مصرة على ممارسة دورها في العناية بابنها الأسير.
فهذا النهوض من حالة موت الذاكرة يأخذنا إلى أن هناك علاقة تماهي وتوحد بين عنان وأمه" وإلى أن الأم لا تتخلى أن أبنها والعناية به مهما كان مرضها ووضعها الصحي، فهي تمارس دورها كأم مهما كانت الظروف والأحوال.
أخلاق الأسير والطرح الإنساني
من خلال حديث "عنان الشلبي" عن أمه نتأكد أننا أمام إنسان مترع بالعاطفة والمشاعر الإنسانية، بمعنى آخر أنه إنسان بكل معنى الكلمة، وهذا ويزيل عنه تهمة الإرهاب التي يحاول المحتل إلصاقها بكل من يقاومه، يحدنا الأسير عن سلوك الأسرى وكيف يتصرفون، يحدثنا عن الصور التي يأتي بها الأهل للأسرى لمشاهدة أقاربهم حيث يمررها السجان للأسرى دون أن يحدد الأسير الذي خصه هذه الصور، وبما أن غالبية الأسرى لا يعرفون أقاربهم، ولأن الزمن بين الزيارة والزيارة طويل، كل هذا يجعل من الصور وسيلة تعريف وتقارب بين الأسير وأقاربه.
شقيقة "عنان" تحضر له صورة لأبنتيها، وبما أنه لا يعرف شكلهما، فإن يقوم بهذا التصرف: "...وقد قضت العادة أن يمرر الأسير هذه الصور للنافذة التي تليه وكذلك يفعل من يليه من الأسرى في حال لم تكن هذه الصورة له، هكذا فعلت بعد أن ألقيت نظرة إلى مجموعة الصور التي تضم صبيتين وبشيء من الخجل، إذ لا يحق لي اقتحام خصوصية أسير آخر ومشاهدة صور عائلته.
صرخت بصوت يجرحه الاختناق "أعد الصور ..لماذا مررتها؟ ...لماذا أعيد الصور لصبيتين لا أعرفهما، فقد تكونان شقيقتا أو ابنتا أسير لا يرغب بكشفهما عل رجل غريب...نعم هاتان هما عرين وهديل" ص81، دون شك هناك جانب أخلاقي في هذا المشهد، لكن الأهم منه هو ربطه بما هو إنساني، فعدم تعرف الأسير على أقاربه يشير إلى أن هناك إنسان محروم من أبسط حقوقه، وعلى من يدعي حماية حقوق الإنسان أن يتوقف عند هذا المشهد، ليتأكد حجم وحشية المحتل والطرق غير الإنسانية التي يتعامل بها مع الأسرى.
من المشاهد الأخرى التي تشير إلى أخلاق الأسرى في سجون الاحتلال، أنهم يتناول واقعهم بموضوعية، فإذا كان السجان معبأ بالعنصرية يقدمونه بما فيه، وإن كان فيه بذرة إنسانية ذكورها بموضوعية دون انحياز للظلم الواقع عليهم وعلى شعبهم.
عندما يقوم الأسرى بالإضراب عن الطعام، يسأل أحد السجانين عن هذه الأمر، ويجري حوار بينه وبين "عنان الشلبي": "..كيف تقدرون على ذلك كل هذه الفترة؟ كان هذا السجان حديث العهد في مصلحة السجون ولم يشهد إضرابا من قبل، أخبرني هو يضع عينيه في الأرض خجلا أنه لا يستطيع منع نفسه من تناول الطعام لبضعة ساعات، وأننا نحن الأسرى جبارون وخارقون، ثم قبل أن يغادر سألني بشيء من الحيرة: "إلا تخشون الموت جوعا؟" أخبرته يومها وأنا بالكاد أقوى على الكلام وقد خارت قواي، أن ثمة ما هو أثمن من الحياة، ذلك ما يحمله هذا الإضراب من اسم، إنها الكرامة" ص76، نقل كلام السجان وحركاته يشير إلى أن هناك تعاطف من قبل السجان مع الأسرى، ورغم أن هذا لا يقدم أو يؤخر في تحقيق مطالب الأسرى، إلا أن هذا المشهد يشير إلى أن الأسير الفلسطيني يتعامل بأخلاق نبيلة حتى مع سجانه، فهو لا يزيد ولا يغالي عندما يتحدث عنه، بينهما المحتل يكذب بكل ما يقوله عن الأسرى وعن الفلسطيني، ويشوه صورته، هذه المفارقة بين الضحية التي تعاني من أهوال السجن والسجان وتتحدث بموضوعية عن عدوها، وبين السجان الذي يمارس أشد أنواع البطش بالضحية وينسب لها الجرائم والوحشية كذبا وزورا، يمكننا أن نصل إلى من هو الصادق ومن هو الكاذب، من كاذب، من هو إنساني في تعامله، ومن هو متوحش.
الكتاب صدر في عام 2023.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة مندوب دولة الإمارات في الأمم المتحدة |#عاجل


.. فيتو أميركي يفشل جهود عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدة




.. الجزيرة تحصل على شهادات لأسيرات تعرضن لتعذيب الاحتلال.. ما ا


.. كيف يُفهم الفيتو الأمريكي على مشروع قرار يطالب بعضوية كاملة




.. كلمة مندوب فلسطين في الأمم المتحدة عقب الفيتو الأميركي