الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ملامحُ السردِ الشعريِّ في رواية (كل من عليها خان) بقلم/ أحمد حنفي - دراسات في أعمال السيد حافظ (139)

السيد حافظ
كاتب مسرحي وروائي وصحفي

(Elsayed Hafez)

2023 / 1 / 19
الادب والفن


دراسات في أعمال السيد حافظ (139)
ملامحُ السردِ الشعريِّ
في رواية (كل من عليها خان)
بقلم/ أحمد حنفي
عبر إطارٍ سرديًّ يتَّسمُ بجماليَّاته الخاصةِ وبنيتِه المتفرِّدةِ يستكملُ الكاتب الكبير/ السيد حافظ حلقةً جديدةً من حلقاتِ مشروعه الروائي الملحمي الذي ابتدأه برواية (قهوة سادة) ثم (كابتشينو) ثم (ليالي دبي) بجزأيها (شاي بالياسمين/ وشاي أخضر)، ليستكملَ مع (كل من عليها خان) قصة انتقال الروح الطيبة من "نفر" إلى "نور" إلى "شمس" وصولاً إلى "وجد" الروح الرابعة "لسهر".

وليس من العسير على أيِّ قارئ أن يفطنَ لمدى اختلاف بنيةِ الرواية عند السيد حافظ ومدى جدتها بآن؛ يواجه حدثين متوازيين بزمنين مختلفين بأحداثٍ تُروى من خلال تقطيرها بوعي (الراوي/ السارد) ليصير فعل الكتابةِ تقاطعاً مع الواقعِ من جهةٍ ومن جهةٍ أخرى انتقال من حدثٍ ماضوي لحدثٍ ماضوي آخر، وبذلك يصبح للرواية زمنها النسبي الخاص ويتقاطع فعل القراءة لدى المتلقي بفعل الكتابة من أجل إعادة إنتاج المعنى والوقوف على دلالات النص وأبعاد الرؤيا التي يطرحها.

لكنَّ هناك ما كان يجذبني في لغة السيد حافظ الروائية، بتصويراتها ومجازها وسلاستها وخيالها ورشاقتها وطزاجتها الدائمة وخصوصيتها وملائمتها لجماليات التشظي والتفكك كسمةٍ يتميَّزُ بها البناءُ السرديُّ (الحافظيّ) .. الأمر الذي يحتاجُ إلى تأمُّلٍ للوقوفِ على ملامح السرد الشعري في رواياته، ولتكن (كل من عليها خان) هي الأنموذج الذي نتوقف أمامه.

استوقفني تصديرٌ للكاتبِ حول مفهومِه عن الرواية كجنسٍ أدبي ونظرته له، يقول السيد حافظ:

" الرواية هي سرد والسرد يعني التاريخ، والحكاية والزمن الإنساني واللغة الحية التى تملك الدهشة الشاعرية، وإذا أردت أن تكتب سرداً اكتب شعراً .."

إنه يدفعنا دفعاً باتجاهِ أحد أهم خصائص صنعته كأديبٍ وروائيٍّ، يريدُ أن يلفتنا للغته والتي هي بطبيعة الحال وبطبيعتها كمرسلةٍ أيضاً تُمثِّلُ وعاءً للرؤيا وناقلاً للتجربةِ، وكما يقولُ د. عبد الملك مرتاض: "السحر اللغوي إذا غاب عن العملِ الروائيِّ، غاب عنه كل شئ، غاب الفنُّ، وغاب الأدبُ معاً"(1)

وهنا تتجلَّى أصالة السيد حافظ الروائية في احتفائه باللغة الشعرية جنباً إلى جنبٍ مع حداثة البنيةِ السرديةِ لنصوصه الروائية، إلا أنَّ أهم ما يلفتني هو وضع السرد كمقابلٍ للشعرِ، حتى أنَّ هناك من النقادِ مَن يعتبرُه مرادفاً للنثرِ، والأمرُ على خلاف ذلك حتماً؛ فقد خَلُصَ "جيرار جينيت" في كتابِه (مدخل لجامعِ النصِّ) كما ذكرَ د. شوكت المصري إلى أنَّ السردَ ليسَ نوعاً أدبياً مثل الشعرِ والروايةِ وغيرهما، وإنما هو إمكان أداءٍ قائمٍ في اللغةِ بالأساسِ، بوصفه نظاماً للصياغةِ مطروحاً للتحقُّـقِ داخلَ النصوصِ الأدبيةِ كافة، على اختلاف أنواعها وتصنيفاتها الأجناسية.(2)

يقول "جينيت": "هناك صيغٌ مثل السردِ، وهناك أجناسٌ مثل الروايةِ .. إنَّ الروايةَ ليست سرداً فقط، وبالتالي لا يوجدُ صنفٌ واحدٌ للسردِّ، بل لا يوجدُ حتى صنفٌ للسرد" (3)

ذلك يعني أننا قد نجدُ سرداً في قصيدةٍ كما نجدُ ملامح شعريَّةً في الرواية أو القصة مثلاً، والحقيقة لا أريدُ أن أجعلَ من قضيةِ تعريف السردِ قضية مركزية في هذه المقالة ولكن قليل من إلقاء الضوء يوضحُ بعض الأمور الملتبسات منها أنَّ الشاعرَ يصيرُ سارداً حين يقصُّ الحوادث أو حين يصفها كما ذكر أفلاطون في جمهوريَّتِه، كما أنَّ "الشعرَ خطابٌ مجازيٌّ يعتمدُ على التخييلِ في تكوينِه اللغويِّ ومستهدفاتِه الدلاليةِ والجماليَّة" (4) ولإيماننا بالتراسلِ بين الفنونِ نستطيع القولَ أنَّ تسلل اللغة المجازية باتجاه النص الروائي يحققُ قدراً من الشاعريةِ، ألم يكن "عبد الحميد الكاتب" يمثِّلُ ذروة المرحلة الفنية في النثر العربي بالقرنِ الثاني الهجري لاعتماده على عناصر الشعر في أدبه؟ (5)

وقليلٌ هم الروائيون الذين يقدمون نصوصاً تهتمُّ باللغةِ كاهتمامها بالموضوعِ انطلاقاً من مقولةٍ منتشرةٍ بين أوساط الروائيين الجدد وبعض النقاد؛ حيثُ يرى د. شوكت المصري أنَّ "الشعر لا يهتمُّ إلا بلغتِه أيّاً كان موضوعه، على عكس السردِ الذي يهتمُّ بموضوعه غير مبالٍ إلى درجةٍ كبيرةٍ بلغةِ أدائه"(6)

وهذا اعتقادٌ خاطئ على الرغم من انتشاره؛ ذلك أنَّه تحدَّثَ عن عمومِ الشعرِ بإطلاقِه دون النظرِ إلى الرؤيا التي يطرحها الشاعر والتي هي الهدف الأول للقصيدةِ، فضلاً عن أنَّ لغةَ أداء النص السردي المنوط بها القدرة على استخدام النظام اللغوي لصالح إنتاج الدلالةِ الأدبيةِ، وأي تقصير في إنتاجية تلك الدلالة ناشئ عن اللغة وبالضرورةِ سيُحدثُ خللاً في بنية النصِّ السرديِّ أو على أقلِّ تقديرٍ سيكونُ نصاً هلامياً يفتقد العديد من ملامح العمل الروائي الناجح. ولذا فأنا أتفق تماماً مع د. مرتاض حين ذكرَ أنَّ "اللغةَ هي سيدة المكونات السرديَّة على سبيلِ الإطلاق" (7)

وانطلاقاً من كلِّ ما سبق فقد آن لنا أن نقتربَ أكثر من عناصر الشعرية السردية التي تمتعت بها رواية (كل من عليها خان)، لكنني لا أخفيكم سراً فقد اخترتُ الطريق الأيسر والأقصر للولوج إلى ذلك العالم الآسر؛ حيثُ آثرتُ انتقاءَ الشواهدِ من منولوجات السارد الرئيس بالرواية (فتحي رضوان خليل) وذلك لأنَّ بينه وبين المؤلف (السيد حافظ) علاقة تماهٍ وتبادلِ أدوارٍ تصلُ لحدِّ التطابقِ؛ إذ لم يكن هناك بُعداً بينهما من الوجهةِ الفكريةِ والثقافيةِ والأخلاقيةِ والرؤيويةِ والوظيفيةِ، وهو ما يصبغُ منولوجاتِه بالصبغةِ الغنائيةِ كما هو الحال في مفهوم الشعر الشخصي حيث تصبحُ الذات موضوعاً لنفسها، وهو ما أشارَ إليه (هيجل) من "أنَّ ظهور الشعر الغنائي بدأ عندما انعزلت (الأنا) الفردية عن التوحدِ الجوهري للأمةِ، وعن أوضاعها، وطريقة تفكيرها، وأفعالها، ومصيرها" (8)وهو ما أصاب السارد والمؤلف معاً وكأن (فتحي رضوان خليل) تمثُّلٌ لاستدعاءِ التجربةِ الذاتيةِ كوسيلةٍ لإجبارِ القارئِ كي يعيشَ نفس التجربةِ الانفعالية التي مرَّ بها المؤلف.

وسأكتفي بالحديثِ عن أربعة عناصر للشعرية تجلَّت بالرواية، وهي: الوصف والتصوير والإيقاع والمونولوج الداخلي بوصفه الأنموذج الذي انتقيناه لرصد الظاهرة.

أولاً: الوصف:

"الوصفُ إنما هو ذكرُ الشئِ بما فيه من الأحوال والهيئات"(9) والهدفُ من ذلك "أن يعكسَ الصورة الخارجية لحالٍ من الأحوالِ، أو لهيئةٍ من الهيئاتِ؛ فيحوِّلها من صورتها الماديَّةِ القابعةِ في العالمِ الخارجيِّ إلى صورةٍ أدبيَّةٍ قوامها نسج اللغةِ، وجمالها تشكيل الأسلوبِ" (10)

بالطبعِ ليس الوصف قاصراً على الشعرِ كوننا نعدّه ملمحاً شعرياً يتجلَّى بوضوحٍ في الرواية (الحافظيَّة عموماً) لكنه من أخصِّ وأعتقِ سمات الشعرِ؛ فلا يكاد غرض يخلو منه فضلاً عن كونِه غايةً بحدِّ ذاتِه في بناءِ قصيدةِ المدحةِ العربيةِ عندما كان الشاعر الجاهليّ يصف مطيَّته وما لاقاه في سفرتِه لممدوحه، لكنَّ الوصف لدى (السيد حافظ) موسومٌ بالدهشةِ والمرارةِ حين يصف الوطنَ على لسان سارده (فتحي رضوان)؛ انظروا معي لتلك الجمل الوصفية التالية:

· "الوطن خدعة أو ورقة وقطعة قماش تسمى علم"

· "الوطن عجوز غامض"

· "لم أنسَ هذا البلد ذو الجورب المثقوب العطن"

فأيُّ مرارةٍ تلك التي كابدها المؤلفُ ليستحيلَ وصف الوطن لديه بأنَّه خدعة، قطعة قماشٍ، عجوز، غامض، إنسان بجوربٍ مثقوبٍ عطنٍ (مرتمياً بأحضان التشبيه إمعاناً في الوصفِ)، بل نراه يتعدَّى وصفَ الوطنِ إلى وصفِ حاله، يقول:

"هذا الوطن يغير جلده مع كل حاكم جديد .. ويغير دينه مع كل نبي .. ويغيب عقله كل مساء .. حتى لايواجه نفسه هل هو حي أم ميت؟"

وبالعودِ إلى حدِّ الوصفِ الذي أوردناه لقدامة بن جعفر من أنَّه ذكرُ الشئِ بما فيه من الأحوال والهيئات؛ فقد قام (السيد حافظ) بعمل إزاحة دلالية لمفردة (الوطن)؛ حيثُ فرَّغها من دلالتها القديمة ومن ثمَّ قام بإعادةِ ملئها بدلالاتٍ جديدة فيما أشار إليه (ريلكة) بالفصلِ القسريِّ بين الدالِ والمرجعِ لإنتاجِ مدلولٍ جديد؛ فتحوَّل دال (الوطنِ) من كونه حقلاً دلالياً ينفتحُ على معانٍ إيجابيَّةٍ مثل الراحةِ والأمانِ والحيويَّة والوضوحِ، إلى دالةٍ سلبيَّةٍ على النقيضُ تماماً، وبالطبع فإنَّ المتابع لمشروع (السيد حافظ) الروائي يعلمُ جيداً الآنَ كيفَ وظَّف فنِّه الوصفي لخدمة رؤيته على النحوِّ الذي يدل حتماً على وعيه بخصائص صنعته وفنَّه وإبداعِه.

وقد ساهمَ الوصفُ بدورٍ فاعلٍ في توجيهِ دفَّةِ الروايةِ باتِّجاهِ رواياتِ (تيار الوعي)؛ فقد تخلَّت الواقعيَّةُ عن ضرورةِ انعكاسِ مشاعرِ الكاتبِ وموقفه الخاص فيما يكتبُ، ودونَ أدنى تفسيرٍ للعالمِ أو انحيازٍ لموقفٍ على آخرٍ قدر الإمكانِ، وبالنَّظرِ لشخصيةِ (فتحي رضوان خليل) باعتباره المثقف الذي يقف من الأشياء على مسافة تفرضها رؤيته ووعيه بالواقع فإنَّنا نستطيع القول أن تلك الرواية تنتمي إلى روايات تيار الوعي، وهي تلك التي ترى أنَّ الحقيقة لا تكمن في الواقع المعاش بل هي التي تكمن في الوعي الإنساني بهذا الواقع، وهو الدور الذي اضطلعَ به الوصف في محاولاتٍ حثيثةٍ لتجسيدِ (الوطن) باعتباره متورطاً في الحدثِ، مرّة بمناهضتِه لأبنائه، وأخرى بتمثُّلِه كملاذٍ أخيرٍ آمنٍ لهم.

إنَّ تجسيدَ (الوطن) في هيئةِ شخصٍ مغيَّبٍ إنما يعكسُ صورتّه في وعي الكاتبِ والساردِ معاً، وهو تمثُّلٌ يشي -بالضرورة- إلى انتهاجِ تقنيةٍ في الوصفِ تعزِّزُ تلك الرؤيا وتوضحها لا أن تكون استطراداً وحملاً زائداً عليها، يقولُ واصفاً الوطن في غير موضعٍ:

· "كان الوطن يسكر مع الخونة والعملاء دون حياء وكنا على بابه نصرخ ليلاً ونهاراً .. افتح لنا باب الروح .. فلا يسمع .. ويظل سكراناً"

· "يدخن الحشيش سئ السمعة والأفيون الردئ"

· "زنت به كل الحضارات واحتُلَّ سبعة آلاف عاماً .. ومازال مخدراً مبعثراً .. دعيّاً غبيّاً .. ولا تنته عنه الحكايات"

فوصفُ الوطنِ على هذه الحالِ إنما يؤكدُ على شيئينِ:

أولهما .. أنَّه تجاوزَ الوصفَ الخارجيَّ للأشياءِ والهيئاتِ ليتعدَّاها نحو تجسيده وتشخيصه في هيئةِ المغيَّبِ .. المخدَّرِ .. المبعثَرِ .. السكِّيرِ، وهو ما يعني تجاوز الوصف -كخصيصةٍ فنيَّةٍ وبلاغيَّةٍ- لدوره من حيث كونه يُضفي جمالاً ورونقاً ظاهريّاً إلى كونه معزِّزاً للرؤيا.

ثانيهما .. تحوُّل الوطن من ظرفيَّته المكانية الحاوية للأحداثِ إلى إحدى شخوصِ الرواية الصانعة لها، ويكفيه أنه دفعَ بالساردِ (فتحي رضوان خليل) للسفرِ إلى دبي هرباً منه، وهو الحدث الذي شكَّلَ سبباً لما تلاه من أحداثِ الرواية.

وفضلاً عن كونه وطناً سكيِّراً .. مغيَّباً، فقد وصفَه بالاحتيالِ والتَّلوُّن والتَّبدُّلِ والتنكُّرِ، فيبدو (مليونيرَ) مرةً وشحاذاً مرة أخرى وغانيةً مرة ثالثة، وكأنَّه يتشكَّل في هيئةِ أبنائه في إشارةٍ خفيَّةٍ من الكاتب ربما ليؤكدَ أنَّ الوطنَ ما هو إلا وعاء للمواطنين يكتسبُ صفاته منهم في محاولةٍ لتبرئتِه..

"يتنكّر الوطن أحياناً فى ملابس مليونير تافه أو فقير شحاذ يتسول فوق كوبري عباس وأحياناً فى ثوب امرأة غانية فى شارع الهرم أو على الكورنيش وأحياناً يتنكّر فى شكل صقر أو نسر... حين يكون فى شكل عصفور أسجنه فى قفصي الصدري وأمشى .. ويختفي من على الخارطة"

وفي ضوء هذه التبرئة يتجلَّى الجانب الآخر من تورُّطِ الوطن بالحدثِ؛ فسيظلُ رمزاً للسندِ والأمان، يقول:

"الوطنُ يعطيك سنداً وعوناً وأماناً"

فما بين الدهشة والمرارة تقفُ صورةُ الوطنِ عاجزةً عن أداء دورها الإيجابي كدالةٍ منحها الوصفُ أبعاداً ما كانت لتتحملها لولا وعياً من الكاتب بدور الوصفِ في بناءِ اللغةِ الشعريةِ للعملِ السرديِّ، هذى الدهشة وتلك المرارة ظهرتا في وصف (الوطن)، فهل يستمرُّ الحال بإزاءِ وصفه (لسهر)؟ .. دعونا نرى بم وصفها:

"سهر.. سهر.. سهر..

اسم يعرفه الليل والبحر والشجر وأحلام المراهقين والرجال العجائز على أبواب الدكاكين .. في جبل الشام. شعرها غابة من الحرير وبالعطر تغطيه. عطرها لا على الزهور ولا البحر ولا الغابات ولا أي بشر."

مَن من النساءِ بذلك الصيت الذائع ليعرفها الليل والبحر والشجر؟ وكأنها تضارع المتنبي شهرةً حين أخبرَ عن نفسه في بيته الأشهر "فالخيلُ والليلُ .."، من تكونُ من النساءِ ليشتهيها المراهقون والعجائز؟ .. غابةُ الحرير شعرها المعطَّر كما لا ينبغي لأحد .. إذن، نحنُ أمامَ وصفٍ لأسطورةٍ هي أقربُ من كونها حقيقة، ولحلمٍ هو أدني من كونه واقع، كلُّ ذلك في إطارِ لغةٍ شفيفةٍ رقراقةٍ برَّاقةٍ تؤكدُّ حضوراً جمالياً لا يغيبُ عن الموصوفِ كما لا يغيبُ بدوره عن مجمل الرواية.

تلك الصورة التي قدَّمها السارد عن (سهر) إنما تُمثِّلُ النموذجَ الذي كان ينشده ويحلمُ به من البدايةِ، يقول:

"كم حلمت أن أقترن بامرأة تكون مثل آلهة الأرض ديمتر وحكيمة مثل أثينا وقريبة مثل هيرا والصيادة العذراء آرتمس وجميلة مثل أفروديت ومخلصة مثل إيزيس"

إنه يبحثُ عن المرأةِ/ الأسطورةِ النموذج، المرأة الضدِّ ببراءةِ الملائكةِ والندى والأطفالِ وبفتنةٍ تبلغُ قسوتها قتل العشراتِ من الرجالِ والشباب ..

"آه ياسهر لي في قلبك وردة وفي خيالك حلم وفي شعرك رحلة وفي نهديك قصيدة رجاء الاحتفاظ بها لحين الحضور... الموقع أدناه عاشق مرت صورتك بخياله هذا المساء .... كم أنت يافاتنتي يا صغيرتي تبدين أمام العالم أبرأ من براءة الملائكة والندى والأطفال ... وأنت كل يوم تقتلين عشرات الرجال والشباب"

ليُقدِّمَ لنا (الوصفُ) صورةً لسهر كما تتجلَّى في وعي الساردِ تتلخَّصُ في الآتي:

1. شهرتها وذيوع صيتها الجمالي.

2. رفعها لمصافِ آلهةِ العشقِ والغواية والحكمة والإخلاص والجمال.

3. براءتها وفتكها بآن؛ في المرأة الضد.

ليستحيلَ (الوصفُ) مبرراً فنيّاً لتعلُّق (فتحي رضوان خليل) وعشقه لــ (سهر) وتورطه معها في علاقةٍ غير مشروعة.

كما لا يفوتُ (الساردُ) وصف نفسه؛ حيثُ صارت الذاتُ موضوعاً لنفسها كما ذكرتُ آنفاً، وهي إحدى سمات الشعر الغنائي والتي تعتبرُ القصيدةُ الشخصيةُ أنموذجه الأوحد، يقول (أي: السارد/ فتحي رضوان):

"أنا ضوءُ قمرٍ يسودُ الفراغَ المظلمَ في حضارةٍ تموت"

في إشارةٍ بالغةِ الأهميَّةِ على ضرورةِ الفنانِ والمبدعِ كمنارةٍ تضئ ظلام وعفن الواقع، وهو الوصف الذي يتوائمُ دلالياً وعنوان الروايةِ المقترح (الرَّائي)؛ فالآخرون في ظلامهم يعمهون، كما لا نستطيعُ أن ننفي أثر ذلك الوصف وانسحابه على عناوين (كل من عليها خان)، (بان)، (جبان)، (هان).

ويؤكدُ على تكوينه النفسيِّ الهشِّ المرهفِ للجمالِ كعصفورٍ رقيقٍ، وعلى نظرتِه المثالية التي ترى المرأة تكويناتٍ من نورٍ شفيفٍ تجب معاملته برفقٍ يلائمُ طبيعته، يقول:

"قالت: أما زلت تترك للنساء عطراً .. وفكراً .. وجرحاً؟ .. قلت: كيف لعصفورٍ قلقٍ مثلي يجرح النور.. فالنساء نور ..؟"

وهو بهذا الوصف لذاتِه يرى الحبَّ في مقابلِ القبحِ وسيلةً للذَّاتِ في عبورِ أزماتها.

والوصف باعتباره أحد ملامح السرد الشعري بالرواية كما مرَّ بنا يعتبرُ ضرورةً لإنجازِ النصِّ السرديِّ، يُكسبُه الجماليةَ والفنيَّةَ، وبدونه يستحيلُ النصُّ السرديُّ إلى "قطعٍ لغويَّةٍ تشبهُ القطعَ الميكانيكيَّة في جفافها وأدائها" (11) كما أدَّى دوره تجاه المعنى وتعزيز الرؤيا؛ فلم يكن مجلوباً لجماليته فحسب.



ثانياً: التصوير:

إذا نظرنا إلى الصورةِ باعتبارها تهدفُ "إلى خلقِ إدراكٍ خاصٍ للموضوعِ، إلى خلقِ رؤيا له وليس إلى التعرف عليه. وهي بذلك تقومُ بدورٍ آخر من التوسطِ بين ذاكرتي الإبداعِ والتلقي من ناحيةٍ، وبين الشاعرِ والعالمِ من ناحيةٍ أخرى." (12) فإنَّها بذلك تُمثِّلُ ولوجٌ نحو النصِّ لا خروج، إنَّها الصورة المجلوبة لخدمةِ المعنى ولدورها المنوط القيام به، أمَّا تلك التي لا تتعدى الزخرفة الظاهرية فهي عبئ على النصِّ ومظهريَّة لا طائلَ من ورائِها ولا تُقدِّمُ للرؤيا شيئاً، بل على العكسِ من ذلك تماماً تعملُ على تغبيشها وتشويشها بالقدرِ ذاته الذي تحضرُ فيه.

وتمتلئُ الروايةُ بالعديدِ من الصورِ التي لحضورها ذلك الدور الذي تحدثتُ عنه؛ بيدَ أني توقفتُ عند إحداها لما لها من أثرٍ يخدمُ النصَّ الروائي ككل، الصورةُ جرت على لسان (السارد/ فتحي رضوان) في مطلعِ إحدى منولوجاته، يقول:

"كلما ركبت قطار الفرح خلسة وجدت الحزن يحجز بجواري وأمامي مقعد الشجن..."

هكذا يفتتحُ (فتحي رضوان) منولوجه بتلك الصورة الرومانسية التي تؤصِّلُ وتؤكدُ بالوقت ذاتِه على التلازميَّةِ القائمةِ بينه وبين الحزنِ والشجنِ، صورةٌ رومانسيةٌ لأنها ترى الوجودَ من خلالِ الذَّاتِ، تؤكِّدُ على قيمةِ الإنسانِ وحقهِ في الحريَّةِ والسعادةِ والفرحِ، ليست تلك الصورة المجلوبة لمجردِ الحليةِ والزخرفةِ شأن التياراتِ الكلاسيكية. إنَّ المتتبع لشخصية (فتحي رضوان) من أولها يدركُ مدى تجسيد تلك الصورة لعذاباته وآلامه وصراعاتِه التي يدخلها صراعاً في إثرِ صراع، لتغدو بذلكَ صورةً أيقونيَّةً "يُجسِّدُ فيها النص اللغوي تيمة التجربة" (13)بالرغمِ من كونها من الناحيةِ التركيبيَّة صورة بسيطة، ليعني ذلك شيئين أساسيين:

أولهما .. بالرغمِ من حداثةِ البناءِ السردي للروايةِ وفرادته إلا أن النمط التصويري (كملمحٍ من ملامح الشعرية التي يتمتعُ بها السرد) جاء رومانسياً بسيطاً لخدمةِ الموضوع وبلورته وتأصيله.

ثانيهما .. إدراك المؤلف لأهميِّة عناصر السرد الشعري عامةً والصورة بشكلٍ خاص وإحاطة لقدرتها على تجسيد التجربة في كلماتٍ قليلةٍ وهو غايةُ المقصدِ من خلقِ إدراكٍ خاصٍ للموضوع. وهو ذاته ما دعا إليه د. مرتاض حين قال: "إنِّنا نُطالبُ بتبنِّي لغة شعرية في الرواية، ولكن ليست كالشعرِ، ولغة عالية المستوى ولكن ليست بالمقدارِ الذي تصبحُ فيه تقعراً وتفيهُقاً"(14)

لكنَّ للروعةِ التصويريَّةِ بالروايةِ تجلٍّ هو تمام المقام في الصورةِ الكلِّيَّةِ الأنموذجية، يقول أيضاً على لسان (فتحي رضوان) مخاطباً (سهر) المرأةُ المستحيل والاسثناءُ والأسطورة:

"آه سهر.. سوف تدفعين للحبّ شيكاً مُثقلاً بالدموع والندم، وسوف تعضّين أصابعك أسفاً على كّل لحظة هربت أو بعدت فيها عني. يا مهرتي أنتِ منّي. لاتظنّي أني في الهوى مراهق أو صبي أو عابر سبيلٍ يتهادى.

طأطئي رأسك وتعالي نرحل فى براري العاشقين تحت ضوء حناني ومعي شوقي الصبيّ وحلم عشقي النبيّ .. وأوراق عشقٍ لنساءٍ أميرات جميلات أرسلنها لي مع طيور الحنين .. وأنا أسير نحوك بلا عنوان وكأنّي أسير ولا أسير"

إنَّ تلك الصورَ الجزئيةَ المتتاليةَ ذات دلالاتٍ عموديَّة تنمو بامتدادِ النَّصِّ طوليّاً؛ فهي من وجهةٍ تمثِّلُ نتيجةً لابتعادِ (سهر) عنه (أي: فتحي رضوان/ السارد)، ومن وجهةٍ أخرى إشعارٌ بانتظارها لما سيلي ذلك المنولوج من أحداثٍ حتى آخر جزءٍ من تلك الملحمة السردية الكبرى.

لم يسمح (السيد حافظ) لتلك الصور الجزئيةِ أن تجرفه ببريقها صوب الامتداد الأفقى لهنَّ فتضيعُ عليه صورته الأهم والأشمل؛ وأعني هنا تلك الصورة الكلية التي نتجت عن تضافر الصور الجزئية، دعوته لها بالإذعانِ لقلبها لتأتيه غضيضة الطرفِ ليرحلا صوب براري العاشقين (مكان - ملاذ)، ويستبدلا الشمس والقمر بضوء حنانه (إضاءة - دفء - احتواء)، برفقة شوقه الغضِّ وعشقه المقدس وذكريات قديمة (رفقة - حيوية - عشق مقدس نبيل - ذكريات وحنين)، كل ما سبقَ أنتجَ لنا صورةً كليَّةً مجازيَّة الطابعِ بها التشبيه والكناية والاستعارة كدليلٍ آخر على تحمل النص السردي لأهم ملمحٍ شعريٍّ على الإطلاقِ وهو الصورة على النحو البسيط والمركب كما مرَّ بنا.

وللصورةِ الرمزيةِ حضورها حين تتعطِّل اللغةُ التقريريةُ عن الوفاءِ بالمعنى، يقول:

"آه ياسهر.. حين ألقاك لا تتوضئي وألقي بثوب الحياء على كتفي وصليّ معي فأنت مسبحتي .. وخمر الجنة والعشق سجادتنا .. وأعلن للبحر والنجم والملائكة في السماء سأضمّك إلى صدري وبعطرك أنجلي وأحتلي وأختلي إلى روحي، وأترك جسدي على حصاني فى الخلاء ... ياسيدة البهاء لقائي بك ليس اختلاء وليس خطيئة بل هو لقاء الأرواح النبيّة."

إنَّها صورةٌ صوفيَّةٌ شفيفةٌ، صارت (سهر) متحررةً من كلِّ ما يكبلها تجاهه، متحررةً من الخجلِ والحياءِ، تصيرُ مِسبحةً له، وتصير خمر الجنةِ والعشقِ سجادةً لصلاتهما الروحية، إنها الوصلُ والموصولُ، الجلاءُ والحلاوةُ والاختلاءُ، اللقاءُ بها ساعتها ليس خطيَّةً، بل هو لقاء الروح الطاهرة النبيَّة.

إنَّه تسامٍ عن الحسِّي نحو الروحي، وإيحاءٌ بالتجربةِ دون التعبيرِ عنها، عبَّر عن حالته الصوفيةِ بتصويرٍ هو للرمزيَّةِ أقرب، حيثُ صارَ العقلُ والخيالُ يتآزران لخدمةِ الرمزِ، إنَّه يوحي ويومئُ كالرمزيين تماماً لأنَّ اللغةَ التقريريَّةَ في ذلك الوقت تعجزُ عن إدراك ما بالنفسِ البشريَّةِ من انفعالاتٍ وأحاسيسَ، مستخدماً كلَّ قدراتِهِ في عملِ الإزاحةِ الدلاليَّةِ لمفرداتٍ مثل: (صلِّي) و(مِسبحتي) و(سجادتنا)، عن طريقِ إعادةِ ملئها بدلالاتٍ جديدةٍ تتلائمُ مع خفَّةِ ونقاءِ الصورة الصوفيَّة.

كما أنَّ المرأة تمثِّلُ قضيةً مركزيَّةً عند السارد، نراها وقد تضافرت مع الغربةِ كقضيةٍ مركزيةٍ موازيةٍ لتأزم الحدث، وقد جمعتهما صورةٌ تُلخص الأزمتين وتبرزهما بشكلٍ جماليٍّ، يقول:

"لقد هلكتني الأنواء والغربة، والحروف وتنهيدات النساء بالقرب من فمي."

لننتهي إلى حكمٍ نطمئنُّ إليه مفاده أنَّ الصورَ الفنيةَ التي يحتشدُ بها النَّصُّ الروائيُّ عند (السيد حافظ) ليست مجلوبةً للزخرفةِ والاستعراضِ الزائفِ؛ إنما تقومُ بدورها الفاعلِ في البناءِ السرديِّ من حيثُ كونها تعميقاً للمعنى وفضاءاتٍ لا تلجها اللغةُ التقريريةُ العاديةُ، وما ينبغي لها ..



ثالثاً: الإيقاع:

لن أتوقفَ طويلاً أمام عنصر الإيقاعِ كملمحٍ شعري ميَّزَ السرد بروايةِ (كلُّ من عليها خان)، لسببين ألخصهما في الآتي:

أولاً .. أنَّ إيقاع أيِّ نصٍّ سرديٍّ ينقسمُ إلى شقَّين؛ إيقاعٌ خارجي يتعامل مع حاسة السمعِ من سجعٍ وحسن تقسيمٍ وتكرارٍ وأصواتٍ وما شابههم، وإيقاع داخلي ينطلقُ ليحدثَ أثره داخل المتلقي اعتماداً على المعنى وارتفاع وانخفاض التوتر السطحي للنص السردي تبعاً لتطور الأحداث ولنوع الصراع.

أمَّا الإيقاع الخارجي فمن قائلٍ أنه من خصائص وجماليات النثر فلم تُـلحقه ها هنا على اعتباره ملمحاً شعرياً؟ أقول: إنَّ العرب قديماً أمة اعتمدت على المشافهةِ استناداً لذاكرتهم اللاقطة ولعدم حاجة البدو الرُّحَّلِ للتدوين تخففاً أثناء سفرهم وانتقالهم سعياً وراء الكلإ والماء فضلاً عن كونهم أميين، وليسهل عليهم حفظ أقوالهم المأثورة لجأوا إلى ذلك المحسن البديعي المسمى (سجعاً)، ولو أننا تأملنا الأثر الموسيقي والنفسي للسجعِ وجدناه يحملُ نفس الأثر للقافية في الشعرِ بيد أنَّ القافية أقوى منه تأثيراً لورودها بشكلٍ منتظمٍ كمِّيّاً (عروضياً) وصوتياً (متمثلاً في حرف الرَّوي الثابت على طول النص الشعري خلاف السجع الذي يتبدل بشكلٍ مضطرد)، وطالما أنَّ الأثر واحد فلم لا نقفُ على دوره بالنصِّ خاصةً وأنه يمثلُ ظاهرة به، فضلاً عن وجودِه مُتضمَّناً بلغةٍ شعريَّةِ الطابع.

ثانياً .. أنَّ ذلك الإيقاع الخارجي محققٌ بكثافةٍ في الرواية كونه يمثلُ ظاهرةً كما ذكرت، يستدعي مجرد الإشارة دون الخوض في مزيدٍ من التفاصيل لن تدفعَ بالبحثِ خطوة أخرى للإمام؛ لذا سأكتفي بالتمثيلِ الموجزِ قدر المستطاع للظاهرة الإيقاعيةِ.

1) السجع: "ونسيتُ أسماء نساء كثيراً مررنَ من ثقبِ الروحِ .. والقلبِ المجروحِ .. والعشقِ المفضوحِ .." & "سجّل أنّي مزّقت الهويّة، واللهجة الغبيّة" & "الوطن مستباح حتى لاتميز بين النواح والأفراح" & "كلّ البيوت مجروحة .. وكالأبواب الحرام مفتوحة .. وكأشواقنا للعشق مفضوحة" & "وأعرف أن الحب نبي وصبي وبهي وغبي ودني وعتي وشقي وصوفي وفجائي وصدفاوي وقدري وجنوني ومزاجي ونزوي وليس في كل وقت بنقي وليس دائما بمثالي ودائماً عفوي وأحياناً قصدى"

2) التكرار: "أيُّها الفرحُ المختبئُ تحت ظلال الروحِ .. المختبئُفي العيونِ .. المختبئُ في القلوبِ .. المختبئُ كفأرٍ عنيدٍ" & "أحياناً أنسى القهوة على النار, وأحياناً أنسى أن أطفئ الأنوار, وأحياناً أنسى أني أعيش في وطن عربي، أو مصري، وأحياناً أنسى أن أسقي وردات الياسمين والفل والجوري في شرفتي... وأحياناً أنسى اسمي"

3) التكرار مع القلب: "المدنُ نساء .. النساء مدن"

4) المزاوجة بين التكرار والسجع: "لي في عشقك وطن سهر .. التف الخراب والحقد حول رقاب العرب .. ولي في عشقك مطر .. هاجرَ الحمام وانتشرت العقارب والثعابين واختفى القمر.. ولي في عشقك فرح"

5) الجناس الناقص: "وعرفتُ أنَّ الباطلَ في العشقِ لا يتجلَّىولا يتحلَّى" & "بحثتُ عن نصيبى من الإيمان والتقوىلعلِّي أقوى"

6) حُسن التقسيم: "والقلب وما هوى من الفاتنات، وهدير الجماهير في المظاهرات" & "وأنا أعرف سرَّ البحر.. وسرَّ القهر.. وسرَّ العهر وسرّ الطهر"

نلحظُ مما سبق أن (السيد حافظ) استعاض عن الإيقاعِ الكمي (العروضي) بلعبه على تقاسيمِ اللغة والتكرار وعن القافية بالسجع والتكرارِ أيضاً، كما نلحظُ تحكمه بسرعة الإيقاعِ والذي جاء سريعاً واثباً نتيجة استخدامه لجملٍ قصيرةٍ متدفقةٍ كانَ مناسباً تماماً لحالةِ (فتحي رضوان) لتنقلَ لنا جانباً من توترِ شخصيته الناتج عن علاقته الاعتيادية بزوجه من جهة، وحبه (لسهر) وعلاقته بها سراً من جهة، وغربته واغترابه وزملاء العمل من جهةٍ ثالثة، وهو ما يمكن أن يكون أحد ملامح الإيقاع الداخلي.

رابعاً: المنولوج الداخلي:

(المونولوج الداخلي) أحد أبرز تكنيكات الوعي؛ إذ أنه يهتمُّ بمحتوى الوعي الداخلي ـــ المحتوى النفسي للشخصية ـــ وعلى هذا فقد جرى تعريفه على أنَّه "تصوير لأفكارٍ اتخذت من قبلُ شكلاً لفظياً في ذهنِ الشخصيةِ، هو المحاكاة المباشرة لكلامِ المرءِ لنفسِه" (15) أو بعبارةٍ أخرى هو "الأفكار المصاغة لغويّاً". وبالتالي يمثل (المونولوج الداخلي) قطعاً في السياقِ، إنه أشبه بالجملةِ الاعتراضيةِ المُبيِّنةِ الكاشفةِ لا الجملة الاعتراضية البدليةِ الشارحةِ.

وتعتبرُ المونولوجات الواردة على لسان (فتحي رضوان خليل) قصائدَ عشقٍ وولهٍ وهيامٍ (بسهر) كما أنَّها رسائل غضبٍ وحب للوطن، إنِّها متونٌ شعريَّة بكلِّ ما تحملُ الكلمة من معانٍ؛ تشملُ على عناصر الشعرِ من وصفٍ وتصويرٍ وإيقاعاتٍ تنتمي لجماليَّاتِ الكتابةِ (الحافظيَّةِ) وسماتها، يقولُ (فتحي رضوان) في مقالٍ له متحدثاً عن نفسه:

"وتسألني من أنت، قلت أنا السؤال والزلزال والثمار والحوار والنبراس والزمان والمكان. أنا الوحدة والتوحّد والباحث عن نور يفتح للشهوة ألف فكرة وحلم .. وأنا على جبين الإمام الحسين بن علي .. رعشة إيمان تطير بين أحرف الكلمات حنيناً لرضا الرحمن .. وأنا الحيران وفي عيني خيمتان للعشق .. واحدة لك .. وأخرى لسورة الرحمن. ضميني كطفل وأطبقي على جسدي لعلي أغتسل برحمة من السماء تنقذني من غربة النساء والبلاء. في الصباح حدثتني كطفلة .. في الظهيرة حدثتني كقديسة .. في المساء حدثتني كامرأة .. هي في الليل بلا رفيق في سرير الوحدة.

تبحث عن رجل ليؤنسها. في الفجر أيقظتني لصلاة الفجر وخلعت ثوب العهر. في الشروق لبست مريلة المدرسة وأصبحت طفلة. ماذا أفعل لها؟ نعم أعترف أني أحبها."

ليسَ مطلوباً من المونولوج أن يُفسِّرَ سياقاً، بل أن يُصوِّرَ لنا لقطةً (كادراً) نفسياً مصاغاً لغوياً، يباغتنا دلالياً ويكشفُ لنا عن أمورٍ تدورُ داخلَ نفسِ قائله، وها نحنُ نتوقفُ أمام أحد أهم المونولوجات المفسرة لتوجهات السارد (فتحي رضوان) ناحية الشعر والمرأة، يقول:

"وأحبُّ الشعر وكتابته .. يقول العرب إن من يكتب الشعر يركبه شيطان الشعر.. وكلما كان الشيطان متمرداً كان الشعر أجود. أنا فتحي رضوان خليل أعرف اسم شيطاني في الكتابة .. كان اسم شيطان الأعشى مسحل .. واسم شيطان الفرزدق عمرو .. واسم شيطان الشعر لبشار شتقناق .. أما اسم شيطاني في الكتابة فهو حواء .. وهي أنثى .. وخطي ليس جيداً. يحتار الطباعون فيه .. ويقال أن أجود الخطوط أبينه .. ولكن خطي مثل الملائكة غير واضح .. وأصابعي حين تكتب تكون هي أصابع جنّيتي حواء .. كل الحروف عندي شعر .. فالأدب كله شعر .. قصة أو رواية أو مسرح .. يجب أن تكون شعراً، واذا أردتَ أن تكتب سرداً .. اقرأ واكتب شعراً .. هكذا أقول لنفسي دائماً .. لا تلتفت للخلف. خلفك زمن مضى بحلوه ومرّه وأمامك شمس جديدة وقمر جديد وطفل صغير يلعب الكرة على الشاطئ حتى المغيب."

إننا بإزاء مونولوج يُمثِّلُ اعترافاً بشيئين:

1.إدراك السارد بأنَّ الإبداعَ السرديَّ منطلقٌ عنده من الشعر (كل الحروف عندي شعر)

2.إدراكه أنَّ المرأةَ مركزاً لإبداعه الشعري/ السردي/الروائي/ المسرحي...إلخ

ليتأكدَ لدينا أهمية اختيار مونولوجات (فتحي رضوان) لدراسة ملامح السرد الشعري بالروايةِ نظراً لما تتمتَّع به تلك الشخصية من نفسٍ شاعرة؛ فالوقوف أمام تلك المونولوجات تجعلنا حتماً نقولُ أنَّنا أمام قصيدةٍ استبدَلَت الإيقاعَ الخاصَ بالعروضِ الخليليِّ والقافيةِ، وصَفَت وأظهرت حالته بدقةٍ وجمالٍ، شبَّهَ وكنَّى واستعارَ، حلَّقَ بالمجازِ، صوَّر وأبدعَ عالمَه المستقلَّ، إنَّه بحقٍّ .. سردٌ شعريٌّ.

وبعد أنَّ استعرضنا بعض ملامح الشعرية في البنيةِ السردية لروايةِ (كل من عليها خان) والتي لا أزعمُ أنني أحطتُ بها؛ إذ أشرتُ فقط لبعضها، بقيَ لدينا سؤالٌ، في الحقيقةِ إنما هو مُنبنٍ على جملةٍ للدكتور/ شكري عزيز الماضي أوردها بكتابه (أنماط الرواية العربية الجديدة) إذ قال:

"فالصياغةُ الشعرية والنثر الموحي والصور المكدسة ولحظاتِ التأمل الموضوعي تبعدنا عن الواقعِ وأحداثه فنعيشُ في ظلالِ اللغةِ الشعرية" (16)

السؤالُ هنا، هل فعلاً أبعدتنا تلك اللغة الشعرية الموجودة بكثافةٍ ملحوظةٍ في روايةِ (كل من عليها خان) عن الواقعِ الذي نعيشه؟

الإجابةُ قطعاً لا، الرواية أثبتت خطأ مقولة د. شكري الماضي، إنها على العكسِ تماماً، غمستنا بالواقعِ، وآلمتنا بلغتها المجازيةِ بالقدرِ الذي أمتعتنا به. لا تكادُ تنتهي من قراءتها حتى تكون قد أَلِفتَ واقعَها وغيَّرت واقِعَك.

أحمد حنفي

الإسكندرية - 18 فبراير 2016

الهوامش

1) في نظرية الرواية - بحث في تقنيات السرد، د. عبد الملك مرتاض، سلسلة عالم المعرفة (240) - الكويت 1998، ص131

2) راجع: تجليات السرد في الشعر العربي الحديث، د. شوكت المصري، الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة 2015، ص15

3) مدخل لجامع النص، جيرار جينيت، دار الشئون الثقافية العامة ببغداد، طباعة دار توبقال للنشر بالرباط ص80 - نقلاً عن كتاب: تجليات السرد في الشعر العربي الحديث [مرجع سابق]

4) تجليات السرد في الشعر العربي الحديث ص38 [مرجع سابق]

5) للاستزادة راجع: عناصر الشعر في أدب عبد الحميد الكاتب، د. سعيد حسين منصور، دار المعرفة الجامعية - الإسكندرية

6) تجليات السرد في الشعر العربي الحديث ص38 [مرجع سابق]

7) في نظرية الرواية - بحث في تقنيات السرد ص296 [مرجع سابق]

8) الرؤية والعبارة - مدخل إلى فهم الشعر، عبد العزيز موافي، الهيئة المصرية العامة للكتاب - مكتبة الأسرة - القاهرة 2010، ص97

9) نقد الشعر، قدامة بن جعفر، تحقيق: كمال مصطفى، مكتبة الخانجي - القاهرة 1963، ص62

10) في نظرية الرواية - بحث في تقنيات السرد ص285 [مرجع سابق]

11) السابق ص295

12) الرؤية والعبارة - مدخل إلى فهم الشعر ص432 [مرجع سابق]

13) السابق ص442

14) في نظرية الرواية - بحث في تقنيات السرد ص126 [مرجع سابق]

15) الرؤية والعبارة - مدخل إلى فهم الشعر ص113 [مرجع سابق]

16) أنماط الرواية العربية الجديدة، د. شكري عزيز الماضي، سلسلة عالم المعرفة (355) - الكويت 2008، ص183، 184








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما