الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدين العراقي في إصالة التكوين ح 1

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2023 / 1 / 16
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


حكمة الله الأولى التي يحلم بها الإنسان المجرد منذ أن عرف الطريق لها وأدرك أنه مخلوق يعرف أن له خالق عظيم يستحق التعظيم والتبجيل لأنه كذلك، هي الكيان الروحي المساوي والمتساوي الذي يجعل من جميع الناس بنفس الترتيب الذي وضعه الله للكون "كائنات ومفردات"، لأن الجميع صنع يده ولأن الجميع بما فيهم المتناقض والمتضاد والمنافر والموالف منظومة واحدة تعمل وفق أداء هارموني متسق بشكل يظهر قدرة الله على ضبط هذا الوجود اللا متناهي بما عرف عنه بالقدرة على الموازنة والتقدير الدقيق في منتهة الكمال المطلق، فهو مثلا لا يفرق بين مؤمن وكافر في القضايا الأساسية التي تتعلق بوجوده كفرد، مثلا الرزق والعناية الإلهية ومخاطبته كعقل يعي ويدرك ما يريد ويحرم قتله أو التجاوز على وجوده وسماه بالعدوان، دون أن يفرض عليه ما لا يريده أو ينتمي له وإن ترك ذلك إلى رحمته التي سبقت غضبه، هذه الحكمة أو العظمة تبقى حلما خياليا لا يمكن أن يبنيه الإنسان المأزوم بغرائزه ونفسه الأمارة بالسوء، لذا فمن يريد أن يجسد توقير أو تقديس هذه الحالة الروحية الذاتية أن يبني عقدها المنطقي على هذه الأسس، وأن يضمن أن لا تنتهك بعده أبدا، ولا أظن أن كائنا مهما أمتلك من القوة والإرادة قادر على أن يقول أنه قادر وضامن لها.
الدين تمكن من ذلك بالفعل وقد يكون هذا الكلام محل أعتراض أو تشكيك عند الكثيرين ممن لهم رأي مغاير وقد يكونوا على حق نوعما، لأن الإنسان في التجربة لتاريخية اتي عاشها متدينا أو مؤمنا أو حتى خارجا عن الدين، لم يلمس هذه القدرة بالشكل الذي أقوله، وربما قد توهم البعض في تبني مواقف متطرفة أو متشددة في القبول أو الرفض في حقيقة كون الدين يمكنه أو أمكنه فعل هذا، ولكن لو عدنا للتجربة التأريخية سنرى أن الدين كمعرفة توجيهية إرشادية لم تمنح القدر الكافي من الفعل البنائي المستقر، خاصة كلما أبتعدنا عن نقاط الأنطلاق الأولى للتشريع الديني، بما ترسب في عقل الإنسان أثار تجارب سابقة أو إنحرافات سلوكية معتادة بشريا وواقعيا.
لقد أمن الإنسان القديم بالدين ربما قبل أن بعرف الكلام أو اللغة أو حتى المفردات الأهم في حباته كالملبس والسكن والزراعة مثلا، بسبب طبيعته الروحية التكوينية فهو ليس جمادا ولا حجرا ولا ورح فقط، هو مزيج من عنصرين ذاتي وموضوعي، فهنا لا يمكن للدين أن يقف عند الحس فقط لأنه سبق الإحساس المختار أو المفروض خارجيا لذا فالروحي ذاتي وليس موضوعي من ناحية التوصيف التكويني، ومن هذا يتبين أن الدين أصلا وتأسيسا يمتنع عن التفكير في ما وراء الطبيعة لأن الذاتي يدور في فلك الذات ومقدار ما يمكنها من التعامل مع وعائها الروحي، لذلك يعيش المتدين حالة من الثقة بمعبوده لأنه بالفعل يجده معه أو في ذاته قبل أن يجده في النصوص والأحكام والفكر المتطور، ولا يقف الدين عند القوانين الجارية بماديتها الحادة كما يفكر الطبيعيون وإن لم ينكرها أيضا كلما إزدادت عقلانية الإيمان به، ففي الأديان نزعة إلى الأمل والحرية والاختيار لأنها تفتح الأبواب دوما على أن العالم الكوني يحوي الكثير مما هو غير متوقع أو غير مدرك بعلاته عن عقل الإنسان، وهذه النزعة التفاؤلية تمهد للحث على دراسة ما يسمى بالأسباب والتي هي تمهيد للعلوم لتتقدم وتفكر أكثر من حدود الواقع.
إذا الدين في تصوري ليس ظاهرة حادثة بأسباب سواء أكانت منطقية أم لا، وليس هو شعور متوالد نتيجة ظروف وتفاعلات نفسية أو عقلية أو كلاهما، ولا هو تنبيه خارجي جاء للوجود نتيجة إرادة ديان في نقطة محددة من تاريخ الزمن الإنساني وأستمر نتائجه عندما تيقن العقل الإنساني حاجته لهذا التنبيه، الشعور الديني كما قلنا حسي فطري يظهر وينمو مع نمو العقل وأدواته، لذا كانت إشارة كل الأديان على أن العاقل هو من عرف ربه أو المقولة المشهورة " من عرف نفسه فقد عرف ربه "، إذا الوعي بإنسانية الإنسان ونسق تطوره وأشكال التطور هي التي تكشف دينية الإنسان وإيمانه به، فالطفل المولود حديثا وهو في تطوره الطبيعي غالبا ما يهتم بغرائزه وحاجاته الأساسية، ليس أهتمام أختياري مراد بوعي وإن كان لاحقا سيكون كذلك، لكن لأنه ليس في برنامجه الحسي والشعوري غير هذا المطلب الأساسي، ولكن مع تفدم العمر به حتى هذا الشكل من الحس يتطور وتنوع وبكبر إلى تفرعات وأتجاهات مختلفة في تحولات منشئها نفسي وعقلاني يتسايران معا في بلورة وعي ضخم وسيتضخم أيضا.
إذا الدين وإن كان فطريا أبتداء وتكوينا وتكيفا لكنه لا يتبلور سلوكيا إلا من خلال عنصري الوعي و التجربة، أو الوعي والتنبيه، هنا يبقى الشعور الحسي مغمورا بحاجة إلى باعث أو منبه تتكفل البيئة والظروف بذلك، عندها يبدأ إنشغال الإنسان بالدين والعلاقات المرتبطة به، ما أن تبدأ الإنشغالات الأولى حتى ينخرط في سلسلة من الترابطات والأسئلة وربما البحث عن تفسيرات أو توضيحات ليحتل الدين تدريجيا محل أهتمامات الأولى ويسير مع البحث المعرفي للإنسان، وهذا طيعا معتمد بشكل رئيسي على البيئة والظروف والزمن والأحداث التي تفعل عامل الأهتمام والبعث.
المجتمع البشري تماما يشبه حياة الفرد منا فهو يولد بنفس الخصائص ويمارس نفس السلوكيات الغريزية والمتعلم منها بالتدريب أو بالتعليم أو من خلال التجربة، فقد ولد المجتمع الأول وإرهاصات الشعور بعالم غيبي مسيطر ومتسلط وفوقي وقادر ولازم غير منفك ترافق شعوره الأولي، لذا عندما يدرس الأجتماعي المتخصص بعلم الأجتماع الديني مثلا يرى أن الظاهرة لها مشتركات كثيرة بين الشعوب والأمم دون أن يكون بينها رابط أو قرب زماني أو مكاني، فقد اعتمد علماء مقارنة الأديان على رصد تأثير دين في دين آخر من خلال التشابه والأسبقية أو أسباب النشوء والعلل الباعثة مثلا، فالتشابه بين الأديان قد يعود إلى تطابق الاستعداد لدى المتدينين أو لتماثل البيئة ومراحل نمو الأفكار الدينية بين شعبين في منطقتين نائيتين دون أي تواصل بينهما، وقد رأى أستاذ الأديان في معهد فرنسا جورج أدوميزيل أن تشابه أسماء الآلهة في اللغات الهندية- الأوروبية ليس دليلا مقنعا على أنها نابعة من أصل مشترك، لذا اهتم بالبحث عن أصل اجتماعي يفسر فيه نشوء فكرة الثالوث الإلهي لدى كل من الرومان والهنود.
الأصل المشترك لا يخرج أبدا عن كونية الإنسان وطبيعته، فهو يتحرك يتماثل عند الأنطلاق من نقطة الصفر دوما لأنه يملك أو مكون كذلك، وحتى الأديان نفسها تقر ذلك (مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) لقمان (28) ، هنا قد يكون التأثير صحيحا عندما يتعلق التشابه بشعائر وعقائد يمكن تفسيرها بعوامل طبيعية واجتماعية وغريزية، لكن التطابق أو التشابه بين بعض الأديان في التفاصيل الدقيقة والكثيرة يجعل المصادفة أمرا مستبعدا وربما مستحيلا، فحتى في حال عدم ثبوت اتصال أمتين متباعدتين عن بعضهما فإن التفسير المنطقي لا ينفي أن يكون مصدر الأفكار الذي تتلقى منهما هاتين الأمتين واحدا، سواء كان هذا المصدر هو الإله (الوحي) أو الفطرة البشرية التي هي نظام واحد لا يختلف مع تبدلات الزمان والمكان، طبعا نحن نتكلم عن مفهوم الفطرة الأجتماعية الأولى التي عجزت كل المدارس الفلسفية والبحثية سواء في الأنثروبولوجي أو علماء الأجتماع أو المعرفة الطبيعية وعلم النفس في الأستدلال على علة التدين المشتركة بين كل المجتمعات البشرية، وكيفية نشؤها بشكل متشابه ومشترك، لذا صارت تتخبط في نظريات وأحتمالات واستدلالات جزئية دون أن تحاول التقرب من الحقيقية المشتركة، وهي أن المجتمع البشري صورة مكبرة ومضخمة تماما لذات النفس البشرية المنفردة..
ما نريد أن نصل له هو تأشير حقيقية مهمة وقد تكون فريدة في طرحها، وهي أن الدين أيا كان أسمه أو شكله أو طريقة الإيمان به أو التعبير عنها، يخضع في المجمل إلى نفس العوامل والأسس والدوافع الأساسية المشتركة، بمعنى أخر علينا أن لا نبحث عن أسبابها خارج الظاهرة لتفسيرها أو وضع نظريات أفتراضية لا تلامس روح القضية من خلال تصورات بعيدة عنها زمانا ومكانا، فالدين العراقي القديم نشأ وتطور وتكامل وأصبح جزء من واقع المجتمع العراقي بنفس الأسس والأساليب التي يبتدعها الإنسان البدائي في أحراش الأمازون أو مجاهل أفريقيا، الفرق يبدأ من طريقة الفهم للتعبير عنه أو في طريقة تعبير الفهم من خلال الممارسة، وهذا يتعلق بالبيئة أولا وبما تمنح البيئة من دلالات أو أعتبارات تحرك العقل، فالمجتمعات المنعزلة المغلقة تبقى في تعبيراتها منعزلة ومغلفة ولا تقبل الأنفتاح، لأنها تتوجس من الغريب أو القادم من خارج دائرتها المعرفية، أما المجتمعات المنفتحة والتي لا تعاني من عقدة الأختلاط والتشارك والتبادل وقبول الأخر، فأن التعبير عن إيمانها مرتبط بالمساحة الكبيرة من الحرية التي تتمتع بها، والقدرة على التطور السريع والتجديد والتحديث، هذا تماما ما ينطبق على المجتمعات القابلة للانصهار أو الغير طاردة للوافد الغيري، ومنها على وجه الخصوص المجتمع العراقي قديما وحديثا، بأعتباره ممرا حضاريا للشعوب والثقافات والأفكار دون حساسية أو أنغلاق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وسام قطب بيعمل مقلب في مهاوش ????


.. مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمريكية: رئيس مجلس ا




.. مكافحة الملاريا: أمل جديد مع اللقاح • فرانس 24 / FRANCE 24


.. رحلة -من العمر- على متن قطار الشرق السريع في تركيا




.. إسرائيل تستعد لشن عمليتها العسكرية في رفح.. وضع إنساني كارثي