الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مع عمر… أعيشُ طفولتي!

فاطمة ناعوت

2023 / 1 / 18
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


مع "عمر"… أعيشُ طفولتي!

[email protected]


نحن لا نشيخُ حين تشيخُ أجسامُنا وتتداعَى أوصالُنا، بل حين تهرِمُ أرواحُنا وتشيخُ قلوبُنا ويتداعى داخلنا حبُّ الحياة، والأملُ في الغد، وحين يصمتُ انتظارُنا للمفاجآت والهدايا السماوية مع كلّ نهارٍ جديد. نحنُ نهرِمُ حين نخلعُ ثوبَ الطفولة الجميل ونلبسُ بدلا منه ثوبَ الهِرَم. وحين يفقدُ الإنسانُ طفولتَه، يخسرُ الكثيرَ من بهجات الحياة. ولهذا يقولُ "الرحابنةُ" على أحبال حنجرة "فيروز" الآسرة: “تعا تا نتخبّى من درب الأعمار/ وإذا هِنّي كبروا نِحنا بقينا صغار/ وسألونا وين كنتوا؟َ/ وليش ما كبرتوا انتو؟!/ منقلن نسينا/ واللي نادى الناس/ تا يكبروا الناس/ راح ونسي ينادينا.” ما أجملَ أن يهربَ المرءُ من مُنادي الزمان ويختبئ؛ لكيلا يكبُرَ؛ بل يظلُّ طفلا! ولكن هل بوسع كلِّ الناس أن يظلّوا بروح الطفولة بعدما يشبّوا ويهرموا ويشيخوا؟! لستُ أدري، ولكنني من ذلك الصِّنف من البشر الذين بوسعهم أن يعيشوا أطفالا؛ مهما بلغوا من العمر. عشتُ طفولتي طفلةً وشابّةً وأمًّا، وحتى حين أصيرُ بإذن الله جَدّةً؛ سوف أظلُّ طفلةً.
بوسعنا أن نعيشَ أطفالا طوالَ العمر، ولكن عَيْشَ الطفولة "مع أطفالنا" له مذاقٌ آخر. لهذا نُقلِّبُ دائمًا في ألبومات الصور وفي حافظات الفيديوهات لكي نشاهد أبناءنا حين كانوا أطفالا، ونضحكُ ملءَ قلوبنا. نتذكّرُ الكلماتِ التي كانوا يتعثّرون في نُطقها، وخطواتِهم الأولى المتعثّرة في البيت، ويومَهم الأول في المدرسة، ودموعَهم التي سكبوها حين انكسرت الدُّمى، وغيرها من اللحظات الجميلة التي يحفظُها كلُّ أبٍ وأمٍّ في خزائن ذواكرهم؛ كما نحفظُ كنوزَنا النفيسة. الحنينُ إلى الماضي دائمًا مبهجٌ. نستدعي تلك اللحظاتِ ونفرحُ بها، لأنها مضت ولن نعيشَها من جديد. فقد كَبُرَ أبناؤنا وصاروا رجالا ونساءً ينتظرون أطفالَهم. ليس متاحًا لكلِّ أمٍّ أن تعيشَ طفولةَ أبنائها من جديد، بالفعل لا بالذكرى، إلا في حالات نادرة كأن تنجبَ طفلا جديدًا بعدما يكبرُ أبناؤها. أو حين تصيرُ جَدةً لأطفال أنجبهم أبناؤها، فتكون للأحفاد أمًّا ثانيةً تستمتعُ بطفولتهم بعدما استمتعت بطفولة آبائهم أو أمهاتهم. وأنا لا هذه، ولا تلك. فلم أنجب طفلا جديدًا بعد ابني الأكبر "مازن" الذي صار مهندسًا معماريًّا موهوبًا، وابني الأصغر "عمر" الذي نحتفلُ الشهر القادم بعيد ميلاده التاسع والعشرين، بعدما كسر شرنقة "التوحّد" Autism التي سجن نفسَه فيها منذ كان في الثالثة من عمره، وحتى شهور قليلة مضت. منذ غادرَ "عمر" المصابُ بمتلازمة "أسبرجر" Asperger شرنقتَه الضيقةَ وتأهب للطيران نحو براح الحياة، وأنا أعيشُ معه "طفولتي" وطفولة "عمر"، كأنما أمسكتُ مقصًّا سحريًّا وقصصتُ به قطعةً من الزمان طولُها ستةٌ وعشرين عامًا!
هذا "عمر" الذي "تخبّى من درب الأعمار" كما قالت "فيروز"، وكَبُر أقرانُه بينما ظلَّ هو ورفقاؤه من أبناء "التوحّد" صغارًا أنقياءَ كما الملائكة التي لا تهرم؛ ذاك أن: "اللي نادى الناس/ تا يكبروا الناس/ راح ونسي يناديهم". اليوم أعيشُ البهجة كاملةً وأنا أنتظرُّ كلَّ يومٍ أن ينطقَ "عمر" كلمةً جديدة، تدخلُ معجمه لأول مرة، أو وهو يرسم بريشته الموهوبة لوحة جديدة، كأعظم فنان تشكيليّ. أعيشُ بكامل طاقة الأمل في الغد، والرجاء في ربِّ العالمين. فكلُّ يومٍ أنتظرُ هديةً جديدة يهدينيها اللهُ الأكرمُ في رحلة انطلاق "عمر" نحو الحياة.
مع "عمر" أعيشُ اليومَ كاملَ طفولتي. نركضُ معًا في الحدائق، نقودُ الدراجات ونركبُ البراشوات المائي والقوارب ونسافر ونسبحُ ونغنّي ونعزفُ ونطاردُ الفراشات ونرسم ونلوّن ونتسوّق ونقابلُ الأصدقاءَ، ونتعلّم كلَّ يوم شيئًا جديدًا. من جديد أرافقه إلى النادي لتمرين "السباحة" و"الباسكيت"، و"الفروسية"، تلك التمارينِ التي توقفت سنواتٍ طوالا، منذ دخل شرنقةَ التوحد، لتحلَّ محلّها مشاويرُ مُنهِكةٌ وقاسيةٌ ومريرةٌ إلى عيادات الأطباء وجلسات التخاطب وعبثية التشخيصات المتضاربة والذهول من غموض الحالة، عطفًا إلى التقارير الطبية المتناقضة ومعارك الأطباء كلٌّ يتمسك برأيه، إضافةً إلى ما يرافقُ كل ما سبق من الحالة النفسية السيئة التي عشناها جميعًا كأسرة صغيرة حائرة خائفة تُواجه وحشًا غامضًا اسمه "التوحد"، لم يقفِ العلمُ بعدُ على موقفٍ واضح تجاهه، ولا علاج! وكل ما سبق يتزامنُ مع جنوح "عمر" التدريجي والمتسارع نحو الانعزال والتشرنق ورفضه الحاسم لجميع الأنشطة الاجتماعية والرياضية التي كان يمارسها، ودخوله في قوقعة النمطية الضيقة.
اليومَ، أستأنِف طفولتي مع طفولة "عمر" بعد طول تعطُّل. أعيشُ معه لحظاتِ الفرح بكل شيء جديد يفعلُه لأول مرة في حياته، وأفرحُ معه كأنني، مثله، أفعله للمرة الأولى في حياتي. أشياءُ تأخرت عقدين من الزمان، لكنني مؤمنة أن Never too Late لكلِّ شيء جميل. أهلا بالعصفور الجميل الذي غادرَ القفصَ الحديدي، ويتأهبُ للطيران.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فلسطين.. اقتحامات للمسجد لأقصى في عيد الفصح اليهودي


.. مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية قوات الاحتلال صبيحة عي




.. هنية: نرحب بأي قوة عربية أو إسلامية في غزة لتقديم المساعدة ل


.. تمثل من قتلوا أو أسروا يوم السابع من أكتوبر.. مقاعد فارغة عل




.. العقيدة النووية الإيرانية… فتوى خامنئي تفصل بين التحريم والت