الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كتاب -الربح مقدما على الشعب-: تشومسكي وتعرية النيوليبرالية المتوحشة

صلاح الدين ياسين
باحث

(Salaheddine Yassine)

2023 / 1 / 22
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


كتاب من تأليف نعوم تشومسكي، عالم اللسانيات والأكاديمي الأمريكي، المحسوب على اليسار الفكري المناوئ للمؤسسات السائدة. صدر مؤلفه هذا الموسوم ب "الربح مقدما على الشعب"، في طبعته العربية (ترجمة: لمى نجيب)، عن منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب بدمشق، في العام 2011. ينصرف تشومسكي في هذا العمل إلى شجب وتعرية عيوب النظام الدولي القائم، الذي يستمد أساسه التنظيري والعملي من العقيدة النيوليبرالية الاقتصادية، التي وجدت الأرضية ممهدة أمامها للفشو والتغلغل، لا سيما في أعقاب سقوط "المعسكر الاشتراكي"، وإرساء نظام العولمة بأبعادها المتعددة:
مبادئ النيوليبرالية وطابعها الانتقائي
عرج مؤلف الكتاب في البداية على المبادئ والمرتكزات الشارطة للعقيدة النيوليبرالية الاقتصادية، والمبنية على ما يُدعى ب "إجماع واشنطن"، الذي صاغته دول الغرب الصناعية الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية والنخب الاقتصادية والمالية الدائرة في فلكها، وتحديدًا منذ سبعينيات القرن الماضي في أعقاب أفول الحقبة الكينزية، التي عرفت ظهور ما يسمى بنموذج "دولة الرعاية الاجتماعية" أو "دولة الرفاه". وهكذا يمكن إجمال المبادئ الناظمة للتوجه النيوليبرالي الراهن في إحياء مُسَلمات النظرية الليبرالية الكلاسيكية، وذلك بالمناداة بتحرير الاقتصاد من تدخل الدولة ("دعه يعمل دعه يمر")، والسماح للأسواق بتحديد الأسعار دون ضبط أو تقنين، ناهيك بخصخصة المنشآت الحكومية... إلخ.
وترتيبا على ذلك، أسفرت السياسات النيوليبرالية المطبقة عن عواقب اجتماعية فادحة، وهو ما يتبدى في تدهور معيشة شرائح عريضة من الناس، وتفاقم الآفات الاجتماعية (فقر، هشاشة، الفوارق الطبقية المُشطة... إلخ). ولعل ذلك يُعزى، أساسًا، إلى القاعدة الذهبية المحددة ل "التوجه النيوليبرالي"، ألا وهي تقديم الربح على الاعتبارات المتصلة بمتطلبات العدالة الاجتماعية والتنمية الإنسانية، بعيدًا عن أي التزام أخلاقي. وغني عن البيان هنا، كما يشدد على ذلك الكاتب، الاستغلال الذي يتعرض له العمال، من حيث الأجور الهزيلة التي تُعطى لهم، رغم حقيقة الأرباح الطائلة التي تجنيها الشركات متعددة الجنسية.
على أن المفارقة هنا تكمن في أن الدول والقوى العظمى المتشدقة بشعارات "السوق الحرة" و"العولمة" وما في حكم ذلك، لم تتقيد هي نفسها بتلك المبادئ النظرية الرنانة في مسعاها لبلوغ التطور الاقتصادي، حيث لعبت الدولة في غير ما تجربة (الولايات المتحدة الأمريكية، اليابان، بريطانيا... إلخ) دورا حاسما في بناء القوة الاقتصادية، إذ نهضت بأدوار التخطيط الاقتصادي وتطبيق سياسات حمائية قصد تحصين صناعاتها المحلية والذود عنها في وجه المنافسة الأجنبية. هذا في الوقت الذي لا تتورع فيه تلك الدول في إملاء سياسات تحرير الاقتصاد، والخصخصة، وفتح الباب على مصراعيه أمام الاستثمارات والمنتجات الأجنبية، على الدول الضعيفة، متوسلة في ذلك بالأدوات الفعالة التي في حوزة النظام السائد، كالمؤسسات المالية والتجارية الدولية (منظمة التجارة العالمية، صندوق النقد الدولي...)، مما يؤدي إلى تقويض الصناعات المحلية والنسيج الاقتصادي لتلك الدول، الأمر الذي يجعلها مسلوبة الإرادة والسيادة الوطنية على مواردها ومقدراتها.

ديمقراطية صورية: الحكم لسلطة المال
يضيء نعوم تشومسكي على الطبيعة الشكلية والصورية لما يسمى ب "النظم الديمقراطية" في الدول الغربية، بالنظر إلى سيطرة النخب الرأسمالية والاقتصادية المتنفذة على مفاصل القرار والسياسات الاستراتيجية المتبعة، التي لا تخدُم مصالح السواد الأعظم من الشعب، بمقدار ما تكرس نفوذ وسطوة الأوليغارشيات الاقتصادية، وهو التحليل الذي يتسق مع تصور كارل ماركس ل "المبنى الفوقي" (النظام السياسي، القوانين، الثقافة السائدة...)، بما هو مجرد انعكاس "للمبنى التحتي" ذي السلطة الفعلية، والذي يحيل إلى القاعدة الاقتصادية أو سلطة رأس المال. كما أن تلك النخب لا تتورع في الانقلاب على الديمقراطية حين تتعارض وأجنداتها، على غرار الانقلابات العسكرية المدعومة أمريكيًا ضد الحكومات الاشتراكية المنتخَبة في أمريكا اللاتينية، إبان حقبة الحرب الباردة، وقس على ذلك من التدخلات السافرة في الشؤون السيادية للدول الممتنعة عن الخضوع لإملاءات الأوليغارشيات الاقتصادية، أو ما يدعوه الكاتب ب "الحكومات الاستبدادية الخاصة".
وفي ضوء بروز جملة من المتغيرات الاجتماعية التي من شأنها تحجيم نفوذ رأس المال والحد من استئثاره بالسلطة - من قبيل ارتفاع معدلات التعليم في أوساط الفئات الهشة، وتعميم حق الاقتراع والتصويت، فضلا عن تحول الجماهير والعمال إلى قوة منظمة من خلال تأسيس النقابات العمالية والتنظيمات السياسية اليسارية – تفطنت النخب الرأسمالية إلى وجوب اجتراح استراتيجيات جديدة للحفاظ على هيمنتها، والحيلولة دون دمقرطة حقيقية للقرار السياسي، ومن هنا أهمية وخطورة رهان تدجين الرأي العام والتحكم في تفكيره، بالاعتماد على وسائل الدعاية والبروباغندا الرأسمالية ذات الفعالية المشهودة. ومع ذلك، لا يعدم تشومسكي الأمل في إضفاء مضمون ديمقراطي حقيقي على النظام، الذي أخذت عوراته ومثالبه في الانكشاف، الشيء الذي يحفز القوى الحية على مواصلة جهودها في مقارعة تلك السياسات، والدفع نحو بدائل أكثر إنصافًا وإنسانيةً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تنشر أسلحة إضافية تحسبا للهجوم على رفح الفلسطينية


.. مندوب إسرائيل بمجلس الأمن: بحث عضوية فلسطين الكاملة بالمجلس




.. إيران تحذر إسرائيل من استهداف المنشآت النووية وتؤكد أنها ستر


.. المنشآتُ النووية الإيرانية التي تعتبرها إسرائيل تهديدا وُجود




.. كأنه زلزال.. دمار كبير خلفه الاحتلال بعد انسحابه من مخيم الن