الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بنات عبد الرّحمن

راني صيداوي

2023 / 1 / 26
الادب والفن


"بنات عبد الرّحمن" فيلمٌ يُصَوّرُ مجموعَةً من الأمراضِ المُجتَمَعيّةِ المُتراكِمَةِ في كُلِّ مُجتمعاتِنا. تلكَ النّاتجةِ في المُعظَمِ عَن ثقافةِ الذّكوريّةِ المُتوارَثة، المُختلِطةِ بالجَهلِ في مُعظَمِ الأحيانِ، وأحيانًا أُخرى- وهي الأكثرُ إيلامًا وتَعَنُّتًا- تكونُ بِنَفحَةِ عِلمٍ، وبِذريعَةِ ثقافةٍ وتَحَضُّرٍ، بل وباستعلاءٍ ما هو إلاّ مِن وَحيِ الخَيالْ.
فيلمٌ يَعكِسُ واقِعًا مَريرًا ظالِمًا لجميعِ شرائِحِ المُجتَمَعِ، وفئاتِهِ، وطَبَقاتِه دونَ استثناءْ. وإن كانَ يُصَوّرُ تلكَ الأمراضَ المُجتَمعيّةَ بشكلٍ مُقتَضَبٍ، فإنّهُ يُسَلّطُ الضّوءَ على تَبِعاتِها، ونتائِجِها، وتأثيرِها على النّفوسِ والشّخوص كأفرادٍ، لأنّها وبالتّالي البّوتَقَةُ التّي يُصَبُّ بها كلّ ما مِن شأنِه أن يَنهَضَ بالمُجتَمَعاتِ كَكُلٍّ ويرتَقي بها تَقَدّمًا. أو ما مِن شأنِه -كالشَخوصِ التي تناوَلَها الفيلم- أن يَسيرَ بالمُجتمعاتِ تَخَلُّفًا، ويَنحَدِرَ بها نَحوَ الحَضيض.
فَمِن عُنفٍ أُسَرِيٍّ، لزواجِ قاصِراتٍ، لتَحَرُّشٍ، فثقافَةِ العَيبِ، وَذَريعَةِ الدّينِ، وتَعايُشِ الأديانِ، وما اخُتُرِعَ من مُصطَلَحٍ يُسمّى "عُنوسةٍ"، للمثليّةِ الجِنسيّةِ وغيرِها، تأخُذكَ مشاهِدُ الفيلمِ برحلَةٍ عميقَةٍ ومُؤلِمَة. تَترُككَ مصدومًا بحقيقَةِ بشاعَةِ ملامِحِ مُجتمَعاتِنا. تلكَ التي يُصِرٌّ مُعظَمُنا على التّغاضي عَنها، وعلى عَدَمِ وجودِها. تمامًا كَمَن يضَعُ مساحيقَ تجميلٍ ليُخفيَ طَفْحًا جِلدِيًّا يُغطّي ثلاثَةَ أرباعِ وَجهِهِ، بَدَل أن يُعالِجَهُ. فقط لأنّهُ تَعَوّدَ على وجودِهِ خَوفًا مِن التّغييرِ، كما مِن آلامِ العِلاجْ.
وهنا لابدّ من ذِكرِ أنّ أحداثَ الفيلم تُشَدّدُ على موضوعِ الخَوف، والذي وإن كانَ ليسَ سَبَبًا رئيسيًّا لوجودِ تلكَ الأمراضِ المُجتَمَعيّةِ لدينا، إلّا أنّ الحَلَّ الفَردِيَّ- كما المُجتَمَعيّ- يأتي بالتّخلُّصِ منهُ، كخطوةٍ أولى نحوَ العلاجِ، تمامًا كما فَعَل جَميعُ القائمينَ على هذا العَمَلِ الفنّيّ الزّاخرْ، حينَ أصَرّ كلُّ فردٍ مبدِعٍ منهم على أداءِ دورِهِ فيه مواجِهًا خَوفَه.

هُناكِ مَن يعتَبِرُ أنّ استخدامَ الألفاظِ الخارِجَةِ في الفيلمِ كانَ خادِشًا للحَياءِ، وَأنّ رسالَةَ الفيلمِ كانَت مِنَ المُمكِنِ أن تَصِلَ دونَ تلكَ الألفاظ. أمّا أنا، فلِقناعَتي أنّ الأدَبَ وَجَبَ أن يكونَ مِرآةً للواقِعِ، أرى أنّ استخدامَ تلكَ الألفاظِ ما هو إلاّ مصداقيّةٌ واحترافيّةٌ في مَكانِها، وكانَ لابُدّ مِنها، ليسَ فقط لإحداثِ صدمةٍ لدى المُتفرّجِ والمُستَمِعِ، بل أيضًا كبِدايةٍ للتّغيير.

وهناكَ أيضًا مَن يُصِرُّ على أنّ فيلمًا كهذا بِكُلّ ما فيه، ما هو إلا دَخيلٌ على مُجتَمَعاتِنا بِحُكمِ الإرباكِ، والتّشويهِ، والتّخريب. ومَع احترامي لجميعِ الآراءِ، أرى أنّ من يُصِرُّ على ذلكَ، إمًّا شخصٌ لا يرى أبعَدَ من أنفِه، وإمّا شخصٌ يرى كلّ شيءٍ بوضوحٍ، لكنّهُ يَعمَلُ على دفنِ رأسِهِ بالتّرابِ، إصرارًا منهُ على عَدَمِ "نَشرِ غسيلِنا المُتَسِخِ" أمام الجميعِ (كما فَعَل الفيلمُ برأيِه) عِوَضًا عَن بَذلِ جُهدٍ لمُحاوَلَةِ غَسلِهِ، والتّخلُّصِ من رائحتِهِ الكريهَة، وما فيهِ من بُقَع.

أمّا ما أضحَكَني حُزنًا ممّا قَرَاتُ لِمَن لا أتّفقُ معهُم بالرأيِ نَقدًا لهذا الفيلم
-وهُم للأسفِ كُثُرٌ ومنهُم كُتّابٌ ومُثقّفون- فهوَ ما كتَبهُ هؤلاءِ يُحارِبونَ بِهِ الفيلمَ، وجميعَ العاملينَ عليهِ، من كاتِبٍ ومُخرِجٍ، فمُنتجينَ، فمُمَثِّلينَ، فمُصَوّرينَ دون حتى أن يَرَوا مَشهدًا واحِدًا منهُ (باعترافِهم) متذرّعينَ أنّ مشاهدَتهُ لا تُشرّفُهُم، كَونَهُ (حَسبَ رأيِهِم كما كتبوهُ أيضًا) مُنافٍ للأخلاقِ والمبادئ الشّرقيّةِ التي توارثوها وتَرَبُّوا عليها -وكأنّ سُمُوَّ الأخلاقِ يَنتَقي جِهَةً أو رقعةً جغرافيّةً دونَ غيرِها!- هؤلاءِ بما كَتَبوا وقالوا ذكَّروني بالجاهِلِ المِسكينِ الذي قَتَل المرحوم فَرَج فودة، الذي حينَ سُئِلَ أثناءَ مُحاكَمَتِهِ عَن الكتابِ الذي قرأَهُ لفَرَج فودَة، والذي استَلهَم مِنهُ أنّهُ -أي فودة- مُرتَدُّ (كما صُوِّرَ لَه)، قال إنّه لا يعرِفُ القراءَةَ، ولا الكتابة. ومع أنّ هؤلاءِ الكُثُرُ الآنَ يعرفونَ القراءةَ والكتابة، إلّا أنّهُم قَد يتساوونَ مع ذاكَ الجاهل بمستوى الجَهل وللأسف.
وفي النّهايةِ لا يسعُني إلّا أن أثنيَ على جميعِ القائمين على هذا الفيلم المُتميّزِ (دونَ استثناءٍ)، وأن أُشَدّدَ على أنّي أراهُ شُعلَةَ أمَلٍ للتَّخلُّصِ من كثيرٍ من الأمراضِ المُجتَمَعيّةِ وشوائبِها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با