الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مشروع قطار بغداد المعلق بين القرار السياسي والجدوى الفنية والاقتصادية

بشار الحافظ

2023 / 1 / 28
السياسة والعلاقات الدولية


بتاريخ 14كانون الأول 1982 عقدت ندوة في مبنى وزارة التخطيط العراقية لمناقشة توصيات الدراسة الشاملة للنقل لمدينة بغداد قدم فيها الاستشاري البريطاني (سكوت ولسن كيركباترك ) نتائج الدراسة والتوصيات بخصوص تطوير منظومة النقل لمدينة بغداد والمناطق المحيطة بها . وبخصوص استراتيجيات النقل المقترحة من قبله ،أوصى الاستشاري حينها وبمساندة الفريق العراقي المشرف عل الدراسة (وبضمنهم كاتب هذا المقال ممثلا عن أمانة العاصمة) اعتماد استراتيجية للنقل تشمل تطوير شبكة للنقل في مدينة بغداد بالتركيز على تطوير خدمات حافلات النقل العام ولا تضم المترو لعدم جدواه خلال تلك الفترة (أي لغاية سنة الهدف عام 2000) ومساهمته المتواضعة لاستيعاب طلب النقل (بحدود اثنان بالمائة فقط من الطلب العام ) مقارنة مع كلفته العالية والطلب على الأنماط الأخرى كالحافلات وسيارات الأجرة والسيارات الخاصة طبقا لنتائج تلك الدراسة .وبعد مناقشات علمية واقتصادية وتخطيطية مستفيضة من المختصين من كافة الوزارات المعنية استغرقت يومان ، حسم الموضوع بورود توجيه سياسي صادر من الجهات العليا آنذاك باعتماد استراتيجية بديلة تتضمن انشاء المترو وفق المسارات والتصاميم المعدة من شركة (دورش) الألمانية في عام 1973 والتي كانت بأشراف وزارة النقل . وقد قام الاستشاري البريطاني في حينه بأجراء التغييرات على التوصيات والمقترحات النهائية استجابة لهذا التوجيه. وقد علمنا فيما بعد بأن القيادة السياسية فرضت هذا البديل أي انشاء المترو ضمن خطة النقل المقترحة لكي تستخدم أنفاق المترو عند إنشاؤه كملاجئ ضد صواريخ القصف الإيراني بغض النظر عن كلفته وجدواه في حل مشكلة النقل. ولم ينفذ المشروع في حينه لكون موارد البلد المالية والاقتصادية استهلكتها الحرب-العراقية الإيرانية كما هو معروف.
وبتأريخ 24شباط2007 والبلد لازال يعاني من دمار الحرب التي شنته عليه أمريكا ومن حالفها وبناه التحتية مدمرة او مستهلكة، صدر تصريح مفاجئ من امين بغداد في حينه الدكتور صابر العيساوي يتضمن ما يلي:" سيتم تنفيذ المرحلة الأولى من مشروع مترو بغداد هذا العام .. “ولكوني كنت متابعا لهذا الموضوع كتبت مقالا مطولا عنوانه (مشروع مترو بغداد لماذا الآن .. وهل هو الحل الحاسم لحل مشكلة النقل؟) ولمن يريد الجواب على هذا السؤال يراجع مقالي المنشور في جريدة المدى العدد 896 بتاريخ 13 آذار 2007. وقد تم رصد عدد من المبالغ في حينه الى أمانة بغداد لتحديث التصاميم ولكن ولم ينفذ المشروع خلال الفترة التالية نتيجة لحدوث تغييرات في إدارة امانة بغداد التي كانت متحمسة لتنفيذ المشروع.
في عام 2011 حدثت الانعطافة الحاسمة في بنية المشروع وفي خطط تنفيذه عندما تحولت فكرة المشروع من مترو الأنفاق تحت الأرض ألي قطار فوق الأرض على أعمدة وبمسارات مختلفة عن مسارات المترو ، بعد ان وقعت محافظة بغداد مذكرة تفاهم مع شركة (الستوم) الفرنسية في كانون الثاني من عام 2011 لتنفيذ هذا المشروع الجديد والذي سيطلق عليه تسمية (مشروع قطار بغداد المعلق) بالرغم من بعض الأحيان يلتبس على البعض (ومن بينهم بعض المسؤولين ) ويطلقون على المشروع الجديد ايظا اسم مترو بغداد أو المونوريل ..الخ ، وهو يختلف كليا من ناحية المسارات وطريقة التنفيذ عن مشروع مترو بغداد ، والمقصود هنا بالقطار المعلق ليس قطارا معلقا بالهواء كما توحي التسمية خطئاً بل هو قطاراً يسير على سكة مرفوعة على أعمدة فوق الأرض. ولا نعلم من المبادر بهذه الفكرة التي أزاحت مشروع مترو الأنفاق في بغداد ووضعته جانبا واستبدلته بقطار بغداد فوق الأرض، هل هي محافظة بغداد ام شركة (الستوم) الفرنسية، ومتى تم تبنى هذا المقترح، ولماذا؟ . على اية حال ... بعد مناقشات ومباحثات استغرقت حوالي سنتين، تم توقيع عقد في 15 آذار 2013 في مبنى محافظة بغداد مع ممثلة شركة (الستوم) الفرنسية لتنفيذ مشروع قطار بغداد المعلق، وقال الدكتور صلاح عبد الرزاق محافظ بغداد في حينها خلال حفل توقيع العقد: “اليوم حققنا حلم بغداد بإنشاء مشروع قطار بغداد المعلق ". وقد تبين لاحقا بأن الشركة سوف لا تقوم بأية اعمال تنفيذ للمشروع على الأرض، وحسب تفسيرها للعقد ان مهامها تنحصر بإجراء الدراسة الأولية واعداد تصاميم المشروع فقط، وقد قبضت من المحافظة مبلغا ليس بالقليل (ما يعادل 42 مليون دولار تقريبا في حينه) مقابل استلام المحافظة للدراسة ومخططات المسار والمحطات وغيرها من التفاصيل، وبهذا يكون التزامها بموجب العقد قد انتهى مع الجانب العراقي (محافظة بغداد) .
وفي مستهل وزارة السيد مصطفى الكاظمي اثير الموضوع مجددا مما دفع بالسيد الكاظمي بتشكيل لجنة (في 20 تموز2020) برئاسة وزير النقل وعضوية ممثلين عن إدارات الدولة المعنية لدراسة الموضوع وتقديم التوصيات بعد ان تم نقل مسؤولية المشروع من محافظة بغداد الى وزارة النقل. ولغرض لفت انتباه السيد رئيس مجلس الوزراء السيد مصطفى الكاظمي ومجلس النواب العراقي وعموم المواطنين الى بعض حيثيات وتاريخ هذا المشروع كتبت في حينه مقالا آخر نشر في جريدة المدى (العدد 4785 بتأريخ 6 تشرين الأول 2020) بعنوان: (محطات عبر رحلة افتراضية في قطار بغداد المعلق .. حقائق ووعود ومطبات). وبعد عدة اجتماعات متواصلة قامت اللجنة باستقدام استشاري لبناني لتقديم المشورة الفنية ولم نسمع او ينشر أي شيء بخصوص تقرير الاستشاري او توصية اللجنة وكل ما نسمعه هو تصريحات مقتضبة عن المشروع من مسؤولين في وزارة النقل ووزارة التخطيط عن تقديم مقترحات لا دخال المشروع في ميزانية عام 2021 وميزانية عام 2022 والآن في ميزانية عام 2023.
يقوم اليوم السيد رئيس الوزراء محمد شياع السوداني بزيارة الى فرنسا (كتبت هذا المقال يوم الخميس 26 كانون الثاني 2023 ) وقد اصدر مكتبه الإعلامي عشية تلك الزيارة (بأن تلك الزيارة ستتضمن إجراء مباحثات مع عدد من الشركات الفرنسية تتعلق بتطوير قطاعات النقل، من خلال تفعيل مشاريع النقل الحيوية)مما يعني بلا شك بأن الجانب الفرنسي (وبالخصوص ممثلي شركة الستوم ) سوف يثير موضوع قطار بغداد المعلق ، خاصة وان الفرنسيين اشتغلوا على الموضوع منذ عام 2011 كما ذكرنا أعلاه وقد كان هذا الموضوع يطرح بشكل مستمر في كل مناسبة تجمعهم مع المسؤولين العراقيين بما فيهم السيد (ماكرون) رئيس الوزراء ، ونذكر القراء الكرام بتصريحه عند زيارته للعراق في 2 أيلول 2020.
وبمناسبة زيارة السيد رئيس الوزراء ورجوعا الى عنوان المقال نعرض بعض الحقائق باختصار ونقول:
أولا- ان هذا المشروع الهندسي الكبير خاصة بهذا الحجم الذي سيكلف البلد مبالع طائلة يمكن ان تصل حسب تقديرنا الى عشرة مليارات دولار مع توسعاته المستقبلية (لم يكشف للجمهور عن كلفته الحقيقية الكلية وأسلوب تمويله ) يحتاج الى دراسات جدوى اقتصادية وفنية رصينة من جهة استشارية اختصاصية مستقلة تسبقها دراسات خطة نقل شاملة حديثة لمدينة بغداد لضمان تكامله مع مشاريع النقل الأخرى كالنقل بالحافلات ومنظومة النقل المحلية للمدينة والخارجية وحتى مع خطة استعمالات الأرض المستقبلية التي يعرفها المختصون واسوة بالدول التي سبقتنا بالتقدم الحضري . وحسب متابعتنا لمشروع قطار بغداد المعلق أنه لم يأتي نتيجة لدراسة رصينة للنقل والمرور من جهة متخصصة مستقلة وفق المعايير العلمية المعتمدة تقيس حجم الطلب على النقل ومناطق الازدحام وتحدد مسارات القطار وفقها ، حيث لوحظ بأن المسارات المقترحة من شركة (الستوم) تقع بعيدا عن مركز العاصمة المزدحم التي من المفروض ان يخدمها القطار . والمرجح ان الجهة المكلفة (شركة الستوم الفرنسية) قدمت دراسة فنية مقتضبة بالاعتماد على الدراسات السابقة والمناقشات مع الجهات المعنية ومنها الجهة المتعاقدة معها (محافظة بغداد) لا تتناسب مع حجم المشروع وكلفته الباهضة ، ونخمن ان المسارات المقترحة تم اختيارها وتفضيلها لاعتبارات تنفيذية ومنها توفر سعة كافية في الشوارع التي يمر بها القطار لأنشاء الأعمدة الحاملة للسكة. أما الادعاء بأن هذا المشروع جاء بناء على توصية من الدراسة الشاملة للنقل لمدينة بغداد لعام 1982 او انه يتكامل مع مشروع مترو بغداد التي اوصت به تلك الدراسة، فحسب اطلاعنا ان هذا الادعاء غير صحيح ويستطيع المهتمون للتأكد من ذلك مراجعة الوثائق والمخططات وتوصيات تلك الدراسة الموجودة لدى امانة بغداد ، أو مقارنة مسارات المترو المقترحة من الشركة المصممة مع المسارات التي اقترحتها شركة الستوم الفرنسية لقطار بغداد المعلق.
ثانيا- ان طريقة تنفيذ المشروع وتمويله غير واضحة للجمهور : فهل سيتم تموليه من قبل الشركة المنفذة مقابل قرض للحكومة (ولنا ان نتخيل قيمة الدفعات التي ستلتزم بها الحكومات العراقية المتعاقبة وقيمة الفوائد ولأكثر من عشرون عاما) ، او عن طريق الاستثمار حيث ستقوم الشركة المستثمرة بتمويل أنشاء المشروع والصرف على تشغيله لمدة عشرون عاما على ان يتم استرداد تلك المصاريف من الجمهور من خلال تسعيرة بطاقة الركوب (ولنا ان نتخيل سعر تذكرة القطار المرتفعة التي تفرضها الشركة المنفذة لاسترداد تلك الأموال ) ، أو عن طريق التمويل الحكومي من الميزانيات السنوية للبلد التي تستقطع من الخطط الاستثمارية وتنافس فيها مشاريع احياء وتطوير البنى التحتية المتهالكة ،ام المزج بين هذه الطرق لا نعلم .
كما لم تتضح الصورة التي سيتم فيها إحالة المشروع وهل تطبق في احالته المعايير الرسمية المعتمدة كالإعلان العالمي و إتاحة الفرصة للشركات العالمية لتقديم عروضها ، ونذكر منها الشركات الصينية التي هي الأخرى مهتمة بشكل واضح بالموضوع حيث سبق لها ان قامت بزيارات متعددة لمحافظة بغداد ووقعت على مذكرة تفاهم مع المحافظة بغداد عام 2019 ثم تقديم عرض من قبل الشركة الصينية (هالس) الى المحافظة للتنفيذ والتمويل ، او عن طريق الدعوة المباشرة للشركات التي تكلف بالتنفيذ (والترجيحات هي شركة الستوم الفرنسية وحليفتها بالمشروع شركة هيونداي الكورية الجنوبية) كمشروع طارئ واستراتيجي لا تطبق عليه معايير إحالة المقاولات.
ثالثا- ان السياق المتبع لمثل هذه الأعمال ومن خلال خبرة العالم الذي سبقنا ومنها دول مجاورة لنا والذي نقترحه هو ان يتم السعي أولا الى تطوير شبكة ومنظومة النقل والمرور المتاحة في المدينة كالطرق والمرور ووسائل النقل كالحافلات لتلبية احتياجات النقل، وعندما تستنفذ تلك المنظومة كل طاقتها الاستيعابية المتاحة يتم التوجه نحو اعتماد وسائط نقل إضافية ذات طاقة استيعابية عالية كالمترو وغيره من أنماط النقل طبقا لدراسات تخصصية متأنية. وليس العكس كما يراد لنا، أي أن نقوم أولا بأنشاء قطار معلق حديث وجميل يستهلك طاقة كهربائية فائقة لتشغيله مع محطاته من منظومة الكهرباء الوطنية وسط الحالة الرثة للمدينة لغرض المباهاة فقط ، وبالوقت الذي نفتقر فيه الى شبكة كفؤة من حافلات النقل العام التي من المفروض ان تكون متكاملة ومغذية للقطار المعلق.
وعليه المطلوب هو تجاوز الضغوط السياسية الداخلية والخارجية وعدم المضي بتنفيذ هذا المشروع وفق الصيغة والتصاميم الحالية التي قدمتها الشركة الفرنسية وحليفتها الشركة الكورية والعودة الى المسار الطبيعي بأعاده الموضوع برمته الى أمانة بغداد وهي الجهة المسؤولة عن التخطيط الحضري لمدينة بغداد والراعية لمشروع المترو منذ عام 1979 لتكليف جهة استشاري لأجراء دراسة شاملة للنقل حديثة لوضع خطة متكاملة لتطوير النقل والمرور في المدينة للفترة القادمة وسيكون حتما ضمن مهامها تقييم مسارات مترو بغداد ومسارات القطار المعلق والتكامل بينهما . ان تلك العملية سوف لا تكلف سوى بضعة ملايين من الدولارات مقارنة بكلفة انشاء القطار المعلق وسوف لن تستغرق من الوقت سوى سنة او سنتين مقارنة بالوقت الذي مضى منذ تبني هذا المشروع (عام 1973). ان هذا الأجراء من الحكومة الحالية سوف يجنب الوقوع في الخطأ وعدم توريط البلد بالتزامات سياسية ومالية واقتصادية وفنية ولعدة سنوات (عشرون سنة ) يصعب تداركها وكذلك تلافي فتح نافذة جديدة للجدل السياسي الموضوعي وغير الموضوعي تشغل الرأي العام وتشكك في مصداقية هذا الحكومة بخصوص المفاضلة بين تحالف الشركات الفرنسية والكورية من جهة وبين الشركات الصينية التي قدمت عرضا أفضل كما تدعي من جهة أخرى؟ اسوة بالجدل الذي أشغل العراقيين فترة من الزمن بخصوص مشروع ميناء الفاو الكبير.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الهجوم الإيراني على إسرائيل.. هل يغير الشرق الأوسط؟| المسائي


.. وزارة الصحة في قطاع غزة تحصي 33797 قتيلا فلسطينيا منذ بدء ال




.. سلطنة عمان.. غرق طلاب بسبب السيول يثير موجة من الغضب


.. مقتل شابين فلسطينيين برصاص مستوطنين إسرائيليين في الضفة الغر




.. أستراليا: صور من الاعتداء -الإرهابي- بسكين خلال قداس في كنيس