الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يناير في ذكراه العاشرة - ثورة من؟.

احمد حسن

2023 / 1 / 29
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


نحن الان نعيش مرور 10 سنوات على أهم حدث في تاريخ مصر الحديثة، حدث حفر عميقا في مجري تطورها، خلخل كل التوازنات القديمة، والقيم التقليدية المستقرة، وفتح نافذة- لوهلة – على مصر غير التي اعتدناها، حدث الثورة التي ستعرف في التاريخ باسم (ثورة 25 يناير). هل نحتفل بالذكري الثامنة للثورة كرنفاليا، نتذكر الشهداء ونلعن النظام، نحكى عن معارك مجيدة بعبارات ملحمية، نردد ذكريات خاصة بنبرات مشحونة بالمشاعر، ام نتوقف عندها متأملين مشهدا دراميا أخفق فيه البطل ان يطيح بالشرير، رغم ان الشرير كان في قمة ضعفه، والبطل في أقصى درجات عافيته.

يقدم يناير بطولة درامية ونهاية مأساوية، انه الرقصة التعبيرية الاضخم على مسرح التاريخ المصري، لكنها رقصة تلقائية، بلا اعداد وبلا مدربين، هل ننبهر كالعادة، ان أناشيد الفخر والبطولة قد تعمى العين عن جوانب النقص وأسباب الهزيمة، فرغم انها دخلت التاريخ كمارد عملاق انتصب فجأة، لكنه رغم قوته الهائلة لم ينتصر، اكتفي بتوجيه ضربات ساحقة لخصمه، ثم تركه يفيق ويعود الي السيطرة، كانت يناير بمثابة ضوء لمع لوهلة في تاريخ ملئه غبار احذية العسكر، تلك الوهلة كانت كافية لتكشف كل تناقضات الوضع والاجتماعي والسياسي، وكل الأطراف اللاعبين داخله.

يحتاج يناير ان نتأمله، ان نستجوبه، أكثر مما يحتاج الى مدحه واضفاء صورة اسطورية عليه، سأضع الترحيب الكرنفالى، والنستولوجيا الثورية جانبا، وابدأ خدش قشرة لزم خدشها.



1 – ثورة من؟

لا تنبثق الثورة من قلب حدث مفاجئ، انما تحدث نتيجة تراكمات هائلة لتناقضات وازمات مجتمع معين، أزمة تمسك أطرافها بتلابيب كل الطبقات الاجتماعية، تجعل الطبقة المسيطرة غير قادرة على حماية سلطتها، او الاستمرار في خداع او ترهيب الجماهير، فشل كل من الخطيب الرسمي والهراوة البوليسية، ومن جهة اخري تردى أوضاع الجماهير، زيادة البؤس الاقتصادي، فقدان الثقة في الدولة وفى سلطتها، نمو التوترات والتذمرات المكشوفة، تتالى الصدامات بين السلطة والجماهير التي تتشكل كبروفات صغيرة وتسخين قبل المباراة الفاصلة، تمدد تلك التذمرات الى الجماهير المتوسطة وأجزاء من الرأسمالية الكبيرة، واتساع الفجوات والصراعات داخل الطبقة المسيطرة وسلطتها.

منذ مطلع الالفية وبركان الثورة المصرية يجهز مواده للانفجار، نظام مبارك الذي فاقم افقار الجماهير بتطبيقاته لبرامج التقشف وخفض ميزانية الخدمات العامة في التعليم والصحة والسكن، وبيع شركات القطاع العام وتأزيم وضع الفلاحين الصغار، ارتفعت معدلات البطالة في 2010 الى 13.4% وفقا للتقارير الرسمية، الرقم الحقيقي يزيد عن ذلك بكثير، وارتفعت معدلات التضخم أيضا الي ما يزيد عن 13% في نوفمبر 2010، مقارنة مع 10.4% في بداية العام، اثرت الأزمة العالمية في حجم التبادل التجاري وفى إيرادات القناة وتحويلات العاملين المصريين بالخارج، وارتفعت أسعار السلع الأساسية والخدمات، السياسات الاسكانية هاجمت احياء الفقراء وبيوتهم، تدهورت الزراعة بمعدلات كبيرة وتفاقم بؤس صغار الفلاحين واسرهم، وصل الدين العام الداخلي الى ما يزيد عن 80% من الدخل القومي، هذا غير الديون الخارجية، فقبل نهاية حكم مبارك كانت القروض في مجموعها قد وصلت الى تريليون و172 مليار جنيه وفقا لتقارير البنك المركزي، هذا فضلا عن تفشي الفساد في جميع مرافق الدولة، وانطلقت موجات متتالية من الإضرابات والاعتصامات ومظاهرات الاحتجاج.

على الجانب المقابل كانت الحركة الاجتماعية ممثلة في العمال وفقراء الأحياء الشعبية وفقراء الفلاحين تطلق موجة احتجاجات ضخمة ومتوالية ضد سياسات النظام، مطالبة بالعمل والسكن والعلاج والمستلزمات الزراعية والحق في الأرض … الخ. كان ذلك في جوهره يعنى معارضة سياسات الليبرالية الجديدة التي يطبقها النظام.

فمنذ 2003 على الأقل كانت مصر تشهد تطورا ملحوظا في الصراع السياسي والاجتماعي داخلها، تتالت اعتصامات النقابات المهنية، ومظاهرات الشوارع التضامنية والاحتجاجية، وتصاعدت أيضا موجات متلاحقة من الإضرابات العمالية، نشط عمل الفرق السياسية في بعض الاحياء الشعبية، وتوسعت حركة التضامن مع الانتفاضة الفلسطينية لتشمل محافظات واحياء ونقابات وتجمعات طلابية، مثلت إضرابات المحلة بدءا من 2006 الى 2008 انعطافه جديدة في الصراع الدائر، حفزت معها حركة تضامن مع النضالات العمالية بين صفوف النخب السياسية، ونشأ على هامشها مجموعة تربط نفسها بالدعوة التي اطلقها عمال المحلة لإضراب عام في 2008، هي المجموعة التي عرفت باسم حركة 6 ابريل، في 2009 تصاعدت النضالات الاجتماعية بدرجة كبيرة، مئات الإضرابات والاعتصامات التي غطت اغلب مدن مصر، وجرت اليها قطعات جديدة، النيل لحليج الاقطان، الصيادلة، موظفو التربية والتعليم ، موظفو البريد في كفر الشيخ، طنطا للكتان، موظفو الأوقاف بالمنيا، غزل شبين، ورش قطارات بنى سويف، بترول اسوان، سائقو النقل الثقيل، المحامون، اسمنت حلوان، عمال ميناء السخنة، خبراء وزارة العدل، موظفو الضرائب العقارية، حملة الشهادات العليا وغيرهم. "1"

كان الصراع جليا في طابعه الطبقي والاجتماعي، بالتوازي مع احتجاجات متفرقة ذات طابع نخبوي حول قضايا الديموقراطية، ومخاوف عملية التوريث، وحتى بدايات 2011 في كل هذه الصراعات والمعارك لم يرد ذكر كلمة شباب داخلها الا كفرع ضمن فروع عديدة لحركة كفاية (الحركة المصرية من اجل التغيير) اذ تكون فيها مجموعة أطلق عليها (شباب من اجل التغير) وبجوار عشرات التكوينات التي تحمل صفات "مهنية" عديدة اضافت الى يافطتها عبارة (..... من اجل التغيير). بالإضافة الى مجموعة اخري تكونت، عشية الثورة، في نطاق نشاط يساري وسمت نفسها (شباب الحرية والعدالة) كان ذلك امرا عارضا تماما لا يحمل أي دلالة محددة، ان (حركة 6 ابريل) و (كلنا خالد سعيد) المجموعتين الأكبر والأكثر شهرة، لم تلجأ أيا منهما الى وضع ختم "الشباب" على تكوينها او طبيعتها.

هذا الطريق الى يناير 2011 الذي رصفه الاف النضالات الطبقية والسياسية لمهنين وعمال ومزارعين وغيرهم، تم انكاره دفعة واحدة والتعامى عنه تماما ليتم تكريس تاريخ مبتسر اجوف جديد تؤرخ به الثورة المصرية، اعتمد التأريخ النخبوي المبتور على ركيزتين.

الأولى هي - ظاهرة محمد البرادعي، الظهور المفاجئ لهذا الدبلوماسي الذي تربي في أروقة المنظمات الدولية الحكومية، الليبرالي المشبع بمفاهيم السوق الحر وتحرير الاقتصاد وسياسات الخصخصة، والمجرد من أي تاريخ سياسي او نضالي معروف، والموشح بخطاب تقليدي سطحي للغاية عن الديموقراطية والتعدد، الذي اقتحم الحياة السياسية المصرية (عن بعد) بصورة مفاجئة في صورة مسيح جديد قادم لتخليص المصريين من الاستبداد.

ضخمت صورة البرادعى بدرجة هائلة، وسارع الى استقباله والالتفاف حوله خليط من يسار الوسط والليبراليين والناصريين وعناصر اخري من البرجوازية المتوسطة والكبيرة، لم يكن لدى البرادعى سوى جمل قصيرة وعبارات عامة قدم اغلبها في شكل تغريدات على موقع توتير، هذه الجمل القصيرة تداولها أنصاره كخلاصة الحكمة والحداثة معا، رغم انها عبارات تقليدية قيلت الاف المرات قبل ظهوره، تحول الموظف الدبلوماسي الكهل الى ايقونة سياسية يتم ترويجها، يمكن القول ان فقر التيارات السياسية نظريا في المشهد المصري، وانتشار ميول ليبرالية مبهمة، وميل جزء كبير من نشطاء الحملات الظرفية والمجموعات حديثة العهد بالنضال، الى عدم التحزب او حتى التسيس والأيدولوجيات، قد ساعد على هذا الاستقبال لغير مبرر للبرادعي، وترويجه كأيقونة ثورية، وجد يتامى العمل السياسي في شخص البرادعى أبا روحيا وملهما لا يثقلهم بغير بعض الجمل البسيطة، ولا يلزمهم بأي التزام، لم يكن البرادعى قائدا سياسيا او وجه مقبول شعبيا لدى الجماهير المصرية، ولم يكن له نطاق حركة سوى الالتقاء بمريديه ويحدث غالبا في منزله الفخم. وحين اندلعت ثورة يناير قام أنصاره بجهود ضخمة لتحويل البرادعى من ايقونة رمزية، الى خومينى مصر، فهو من حرك – عن بعد – النشاط الاحتجاجي وموجات النضال، وهو أيضا "مفجر الثورة المصرية" الذي ايقظت تويتاته الركود السياسي وحركت الجماهير. هذا الرجل البسيط الذي لا تاريخ له، تحول الى اب التاريخ السياسي المصري الحديث.

الا ان تلك الأسطورة الليبرالية الزائفة لم تعمر طويلا، لم يتحمل الدبلوماسي المرفه غبار الصراعات السياسية الفعلية، فانسحب فجأة تماما كما ظهر فجأة، تاركا صغاره الايتام ودراويشه حتى دون اخطار، وما لبث هؤلاء ان انقلبوا عليه بعد ان خزلهم متهمين اسطورتهم بالجبن والهروب.

الثانية هي – ثورة الشباب.

ان مصطلح (الشباب) لا يحمل أي مدلول سياسي او اجتماعي على الاطلاق، انه مجرد إشارة الى مرحلة عمرية يمر بها جميع الأشخاص من جميع التيارات والطبقات الاجتماعية، وإن أشار الى شيء محدد فسوف يشير الى سمات فيزيائية ونفسية يمر بها الكائن البشري في تلك المرحلة العمرية. فالشباب ليس شريحة اجتماعية محددة، وليس حاملا لايدلوجيا سياسية او عقيدة محددة، ولا يحيا كله في ظروف متجانسة تشكل قاعدة لأفكاره وطموحاته، ويتوزع رأسيا وافقيا في المجتمع دون تمايز يميزه عن غيره من الفاعلين الاجتماعين، في موقعه المحدد هنا او هناك، داخل الطبقات والشرائح الاجتماعية المختلفة.



فمن اين أتت إذا اسطورة ثورة الشباب، من حفز ظهورها وروجها حتى صارت تشبه اليقين العلمي او الديني، ولأي اهداف، وكيف تحولت ثورة اجتماعية وسياسية هائلة التركيب والقوى الى (ثورة الشباب).



في خطابه المؤرخ 1 فبراير وجه حسنى مبارك هذا الخطاب في بدايته الى الشباب (أولا) ثم أضاف (ثانيا) الشعب، لعب الخطاب على مشاعر تلك الشريحة العمرية بذكاء بالغ، وعلى المشاعر البسيطة للجمهور بعد ذلك، بجانب الإطار الأبوي للخطاب استبعد مبارك الأحزاب والتيارات السياسية من خطابه، ملمحا انهم يحاولون افساد دعوته لإجراء حوار للخروج من الازمة، وانهم متآمرون او لا معنى لمخاطبتهم، وانه لا ينوى الترشح لفترة تالية. نجحت تلك المغازلة العاطفية في اللعب على مشاعر اعداد ضخمة من المتواجدين في ميدان التحرير، فأحد سمات تلك المرحلة العمرية هي نقص الخبرة العملية والنظرية، هكذا تم تفريغ أجزاء كبيرة من الميدان بخطاب عاطفي بسيط من الرئيس الاب، وكادت الثورة تذبح في الميدان في فجر اليوم التالي لولا بسالة من كانوا متواجدين فيه.

تلي ذلك خطابه في 10 فبراير الذي وجهه أيضا – الي شباب مصر، وذكر الشعب بعدهم، تعالت نبرة الغزل فقال " انى افتخر بكم كجيل جديد يطمح للأمل" و. "طرحت رؤيا محددة للخروج من الازمة الراهنة وتحقيق ما دعا اليه الشباب.. والمواطنون" تجاهل الخطاب عمدا كل القوى والأحزاب السياسية، وجه الخطاب الى هلام اجتماعي عام اسمه الشباب، يليهم حشد يضم كل ألوان الطيف الاجتماعي والسياسي اسمه المواطنون، تجاهل كل تراث المطالبة والبرامج والشعارات التي صيغت من التيارات السياسية، ليقدم مطالب الثورة باعتبارها مطالب الشباب، ويخاطب الشباب مجردين من أي صفة سياسية واجتماعية، وليكرس بقوة مفهوما خالي من أي تفاصيل ذات دلالة اجتماعية او سياسية.

بعد الإطاحة بمبارك قدم البرادعى نفسه كممثل ل(الشباب) ، تشكلت عشرات التكوينات والائتلافات التي وضعت بسرعة ختم "الشباب" على يافطتها، باعتباره الختم الرسمي للثورة والمعبرين عنها، ضخم الاعلام بمنهجية من صورة هؤلاء، وتحولت الثورة على يد أجهزة الاعلام الى "ثورة الشباب" واصبح احد اهم شعارات الثورة شعار انتهازي حديث الولادة هو "تمكين الشباب" الذي لم يكن يعنى سوى ضمهم الى وظائف مرموقة او قيادية في نفس الدولة، وضمن نفس النظام الذي قامت الثورة أصلا في مواجهته، وتقدمت مسوخ كثيرة إعلاميا – وعن قصد – للتحدث باسم الثورة، او باسم ائتلاف شبابي ما من ائتلافات شباب الثورة، التقف المجلس العسكري أيضا تلك الكرة وقذف بها داخل الملعب، فاخذ يعقد اللقاءات المتكررة مع الشباب وائتلافات الشباب وممثلي الشباب.

هكذا بواسطة ذكاء ايدلوجيىين النظام، وغياب تنظيم ثوري قادر على فرض نفسه على الجميع، وسيولة المشهد السياسي ذاته، وانحطاط الليبراليين وبعض الرموز التي برزت اثناء احداث الثورة، واستخدام انعدام الخبرة حتى لدى قطاع في تلك الشريحة العمرية من المنضمين الى احزاب او منظمات سياسية، تم تفريغ الثورة تماما من مضمونها الاجتماعي، ثورة لا يظهر على مسرحها طبقات ما، ومن مضمونها السياسي، فكل ماعدا الشباب هو هامش غير هام، وبدلا من مواجهة الدولة البرجوازية او حتى الدولة البوليسية ونظام الاستبداد، تم تصوير الصراع على انه صراع أجيال فحسب، وتوجيه العداء الى "دولة العواجيز" فمن المنطقي ان يكون الطرف الثاني في تلك المعادلة "العمرية" العواجيز.

هذا التأريخ المسخ شارك كثيرون في صنعه، وان كان منتجه هو مصانع الأيدلوجيا التي استخدمها النظام بذكاء، وهكذا انحط المشهد وتم ابتذاله، وانحطت القيمة الاجتماعية والفهم التاريخي لثورة من أعظم ثورات العصر الحديث، لم تكن فقط مسألة قيمة أو فهم، بل كانت الطلقات الأيدلوجية الأولى للثورة المضادة، وتجهيزات الكواليس.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Read the Socialist issue 1271 - TUSC sixth biggest party in


.. إحباط كبير جداً من جانب اليمين المتطرف في -إسرائيل-، والجمهو




.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة كولومبيا


.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي




.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا